
في رواية «هاني بعل الكنعاني» لصبحي فحماوي


لا تكف روايات صبحي فحماوي عن توجيه قارئها إلى تبصر واقعه واستكشاف حاضره من خلال استلهام ماضيه المجيد، ومن ثم، لا تكف عن مساءلة الدور الذي تضطلع به كل من المادة التاريخية والحكاية الأسطورية في قراءة هذا الواقع، وفي فهم أحداث حاضره كما في استشراف مآلاته ومصائر أهله وأوطانه معا, هكذا، يواصل خيال المبدع فحماوي إعادة رسم صور/ أفكار الواقع المعيش في رواية" هاني بعل الكنعاني" على صفحة (البحيرة الكنعانية) فيعرض واقع الحال العربي المعاصر بمستوياته وقضاياه الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، والثقافية في تساوقها مع يمر به من نكبات ومآسي ونكسات، من خلال مرحلة تاريخية عريقة، وقصد الإبانة عن أن القضية الرئيسة هي قضية الحق في ترسيخ وجود وكينونة وديمومة أمام كيان استيطاني مصطنع يغتصب الأرض، ولا يكف عن إبادة أهلها الأصليين تدميرهم. ذلك بأن تفشي الفساد والخيانة والتخاذل، عند من يهمهم الأمر، وغياب الوعي السياسي بضرورات الوحدة والاتحاد والتكتل والاندماج وتعزيز أواصر اللحمة، هي، في الدرجة الأولى، جوهر هذه القضايا التي تؤرق، مند مئات السنين، مضجع شعوب الضفتين الجنوبية والشرقية للبحيرة الكنعانية.
وتبعا لذلك، يغدو الروائي صبحي فحماوي مبدعا فعالا لهويته وليس" ناسخا سلبيا لتاريخ مصنوع سلفا"()، إبداع يتجلى في توظيف السيرة البطولية المأساوية روائيا لشخصية "هاني بعل الكنعاني"، وهو توظيف تمارس من خلاله الحكاية الأسطورية، في اعتقادي، جوهر سلطتها على إدراكنا لواقع الحال منذ العام"، يقول السارد،" الذي أسموه" عام السلام" الذي خلا من السلام. ومنذ ذلك الوقت وهم يهاجمون القرطاجيين ويقتلونهم معلنين أنهم في (اجتياح سلام). تصوروا يجتاحون ويقتلون بهمجية، ويسمون إرهابهم هذا" معارك سلام". وهذا" السلام القاتل" شجعهم على المزيد من العدوان"(). إن هاني بعل الكنعاني يقاوم روما لأنها تهدد مصالح أمته ووجودها معا، ويعلن حربه عليها، فيعد العدة ويقطع جبال الألب الشاهقة والمغطاة ثلجا، ويحاصرها مدة 15 سنة، لكنه بدل أن يتلقى الدعم والتشجيع حتى يقتحمها، يتلقى الخذلان والغدر والخيانة، فينتهي به المطاف إلى المطاردة فالانتحار.
وعليه، فباستدعائه شخصية" هاني بعل الكنعاني" المميزة بسحرها" الخارق للفعل والمغامرة" معا ـ رغم نهايته المأساوية، شأنه في ذلك شأن الأبطال الأسطوريين ـ وبمكنتها على الإنصات إلى ما يخص الأخلاق وإلى ما تقدر عليه الحكمة والحنكة والشجاعة والبصيرة، في الحرب كما في السلم، يوجه صبحي فحماوي نظر القارئ، إلى ما يسميه النقاد" رواية السلوك" التي تعنى" بصورة أولية بحقائق الحياة، وبهمومها، بانتكاساتها، بعملها، بصراعات أشخاصها، بمصالحها، بطبقاتها. ولا يستثنى من هذه الروايات أي نوع من الأشخاص أو أي فئة من الأشياء"(). وحيث إن هذه الكتابة الروائية تؤكد" على حق الجميع في السعادة، مادام عمق ونبالة الإحساس لا يمتان بصلة للولادة. (فهي تجعل) القارئ على وجه الخصوص يدنو من إدارك التاريخ المتقدم خطوة خطوة نحو وحدة النوع البشرية، وحدة يتم بلوغها في انتصار القيمة"()، ومن ثم، فهي تدعوه ـ أي القارئ ـ إلى تبصر الأهمية التي يستبطنها" اكتناه الواقع للتاريخ"، والتي لا تقل أهمية عن تلك الأهمية التي يكتسيها" اكتناه التاريخ للواقع"، فيعمد إلى شبك الواقع والتاريخ معا بالزمن الروائي قصد استعراض هذا التاريخ روائيا، تاريخ منح ومحن" هاني بعل الكنعاني" في تساوقها بنكبات ونكسات قرطاجة والعرب الكنعانيون معا.
النص الموازي لرواية" هاني بعل الكنعاني":
صدرت رواية" هاني بعل الكنعاني" عن الدار الأهلية للطباعة والنشر، عمان ـ بيروت سنة 2022 في 174 صفحة من الحجم المتوسط، يتصدرها غلاف خارجي تزينه لوحة فنية قشيبة من تصميم المؤلف والمبدع" صبحي فحماوي " للبطل الأسطوري" هاني بعل الكنعاني"، وهو يشق بجيشه العرمرم طريقه في جبال الألب الشاهقة والمكسوة ثلجا. ولإضاءة هذا الطريق، لجأ السارد إلى استهلال النص الروائي بعتبة تلقي بظلالها على فصول/ سهرات الرواية، وتتمثل في" نص أوغاريتي" يوجد في فضاء" قاعة أوغاريت، رأس شمرا، سوريا معروضة في متحف اللوفر، قاعة أوغاريت"، تدور حول" محاكمة روح أحد المتوفين قبل أن تلتحم بجسده مرة أخرى" في عالم الخلود زمن المملكة الكنعانية، المملكة الأسطورة التي انفتحت على جهات العالم آنذاك، ودامت من 6000 قبل الميلاد حتى مجيء الإسكندر ذي القرنيين الذي أبادها وأنهى وجودها. ثم انتقل بنا، أي السارد، بعد ذلك، إلى فضاء قاعة المسرح، بعدما قرأ، صدفة، إعلانا داخل إطار، أثناء زيارته تونس في مناسبة ثقافية، يعلن من خلاله" (مسرح الحكواتي القرطاجني جوال) في نهج القصبة، في تونس العاصمة أنه سيعرض سيرة (هاني بعل الكنعاني) في الذكرى السادسة والستين لتحرير تونس الحديثة من الاحتلال الفرنسي، وذلك في سهرات أربع، ابتداء من مساء الأحد الموافق20/ 3/ 2022 في تمام الساعة التاسعة مساء"().
غير أن السارد عمد إلى تآمر فني على القارئ فاصطنع عبارة" لا أخفي عليك أنني أنا السارد العالم بالمخفي الأعظم، كنت مندهشا خائفا، وأنا أسمع هاني بعل يحدثني بكل وضوح، وكأنه يجلس أمامي حقيقة"، وحيث إنها عبارة تعني أننا أمام سارد أول بضمير الغائب (يسرد حكاية للقارئ) سيسلم السرد لسارد مشارك بضمير المتكلم الذي سيسلم السرد بدوره إلى سارد ثالث هو الحكواتي، فالواضح أن فنية هذه الحبكة وجماليتها، معا، تتكاملان في التناوب الذي يقيمه السارد بين هذه الأصوات من جهة، مثلما، سيكشف للقارئ، في اعتقادي، عن هوية هذا المتحدث الذي عاش الأحداث فنقلها إليه ـ أي إلى السارد ـ الذي يعيد هو سردها مرة أخرى، فضلا عن كون هذه التقنية/ المؤامرة" أداة سردية تتصف بالإيحائية والتكثيف، وتواري وراءها أفضية لما تعرف. إنها توشك أن تكشف عن الغطاء السري الكامن في غيب الذاكرة، والقابع في غيابات الخيال المجنح"().
وقصد رفع هذا الحجاب السري، نلاحظ أن السارد بضمير المتكلم يرفق كل سهرة بحلم متصل بها في غرفة الفندق الذي نزل فيه، فاشتملت رواية" هاني بعل الكنعاني" على ثمانية فصول، فضلا عن( نص اوغاريتي) صدر به السرد، ثم تلاه( إهداء إلى البحيرة الكنعانية) التي حوصرت ولوثت، فصارت تسمى (البحر الأبيض المتوسط)، فقولة تعود لـ"هملكار البرق"، وأخرى لـ"هاني بعل الكنعاني"، وثالثة للمؤلف/ السارد" صبحي فحماوي"، ربما في إشارة منه إلى شجرة النسب التي تربط "الأب الأول بأحد أحفاد أحفاده".
هكذا، يومئ السارد إلى مكنة العالم الروائي لـ"هاني بعل الكنعاني" على استثمار أشكال تعبيرية إنسانية مشتركة في تعبيره عن قضايا حياتية معاصرة، ويوجه القارئ إلى العلاقة الضرورية بين الرواية والأسطورة والتاريخ والحلم والمسرح والحكاية الشعبية، بل، ويلفت نظره، تبعا لذلك، إلى الأهمية التي تحظى بها هذه الأشكال في حركة الأزمة، وفي تطورها طبعا، بين السلوك النبيل الذي يروم نهضة وسلام وسعادة الأمم والشعوب، والسلوك الخسيس الذي يتغذى بسحق وقتل واستعباد هذه الشعوب وسلبها وجودها. إن السارد لا يقدم لنا في مسرحه القائم على" الحكواتي جوال" شخصيات بالمعنى المسرحي المعروف، لكنه يقدم" حكواتيا" فوق ركح تزينه مناظر ومشاهد تعكس عمق وامتداد الحضارة الكنعانية التي تجاوزت في علاقتها التجارية ماوراء البحيرة الكنعانية/ البحر الأبيض المتوسط إلى كل من العمق الإفريقي والمحيط الأطلسي، مثلما تتغير، هذه المناظر والمشاهد، بتغير الحدث الذي يحكي عنه الحكواتي. وحتى يعرض أمام القارئ مسرحا متكامل العناصر توسل بالأسطورة، بوصفها" حلم اليقظة" المشروع عند مختلف الشعوب، قصد التعبير عن رؤيته الفنية في إدانة واقع الحال العربي المعيش المشبع فرقة وإحباطا وقهرا.
نتابع، كذلك، في هذا العرض المسرحي، مع السارد/ الحكواتي، ومن خلال السيرة البطولية المأساوية لـ"هاني بعل الكنعاني"، العديد من الوقائع الحربية التي خاضها، إضافة إلى التقلبات السياسية التي مر بها، فضلا عن جميع مظاهر الحياة البشرية بنظمها الاقتصادية، وعلاقتاتها الاجتماعية، ومعتقداتها الدينية، وأساليبها الفنية والأدبية في القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد. وقائع يقول السارد:" كنت أسير وأنا أفكر بتلك الحكايات الغريبة التي صدمت مخيلتي بمقولات وحركات ذلك الحكواتي جوال، القصير القامة، الطويل الباع والذراع في فهمه لشخصية هاملكار، والد هاني بعل، وقدرته على تصوير ما حدث بكل هذا الوضوح، وإعادة إحياء الشخصيات القديمة، إذ استطاع أن يدخلني في ثنايا حكايته، وكأنني كنعاني قرطاجني، رغم كوني وسط جمهور مسرح"().
والحالة هذه، فقد ظلت مخيلة السارد، لما خلد إلى النوم، منبهرة ومنشغلة بتلك الحكايات الغريبة عن هاني بعل، فترآى له طيفه وبادره، يقول السارد، بالقول:" لا أعرف لماذا اخترت أن ألتقيك أنت بالذات يا صبحي يا فحماوي". أدهشني إذ ذكر اسمي الشخصي.. لا أعرف كيف استدل عليه! وتابع مفاجأته يقول:" قد يكون لأنك روائي معروف بحفرك حول تاريخك الكنعاني المجيد هادفا إبرازه، وإعادة إحيائه، فيكون لقائي بك فرصة لأن تخرجني من غياهب التاريخ الذي ظلمني وعتم علي، إلى حيز الوجود.. لم يخدمني أبناء وطني، ولا زعماؤه المدعين، علما أنني عشت عمري كله لخدمة قرطاجنة خاصة، وممالك الوطن الكنعاني بشكل عام. وأما بلاد إيبيريا فحدث ولا حرج، ذلك لأنني عشت طفولتي منذ التاسعة هناك، وأحببت ابنتهم الأميرة الكاستيولية أميليس، التي حرمتني هجمات الأعداء من التمتع بحياتي معها"().
وحيث إننا أمام، سارد، يحمل اسم الروائي العربي الكبير والمشهور، يسمى صبحي فحماوي (وهو اسم بقدر ما يحيل في الواقع المعيش إلى اسم العلم المميز للروائي الفلسطيني الأردني ومؤلف النص، في سياقنا هذا، صبحي فحماوي، بقدر ما يذكرنا بأننا أمام" كائن افتراضي"، وأن أي تشابه حصل بين الإسمين معا هو من قبيل الصدفة!). ورغم ذلك أو ربما بسبب ذلك، فالواضح أن الروائي المبدع "صبحي فحماوي" وجد في اللجوء إلى مرحلة متقدمة من مراحل التاريخ الكنعاني، حيث تجري الأحداث في زمن تاريخي يتماثل مع العصر الحالي، طريقة من طرق التعبير السردي التي لها، حسب النقاد، ما يبررها، ذلك بأنها، غالبا ما تظهر" في وقت تكون فيه حرية التعبير محدودة ومقيدة(...)، أو عندما لا يقدر الرأي العام الأدب تقديرا حقيقيا فينسحب الأدباء من الحياة العامة، ومن خلال اختيار زمن تاريخي يستطيع الأدباء نقد الحاضر نقدا خفيفا لأنهم يحتفظون لأنفسهم بمسافة زمنية منه. وكثيرا ما تعاد الصلة بين الماضي والحاضر في القصص عن طريق شخصية الراوي الهامشي، أي الراوي الذي يحكي عن أحداث لم تقع له"().