الجمعة ٣٠ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
بقلم هـيـثـم الـبوسـعـيـدي

قـيــمـة الـكـتابة والكاتـب في عـالمـنا العـربي

أصل التقدم العلمي والوسائل الحضارية الجديدة التي نجني ثمارها هذه الأيام هو معرفة الإنسان للكتابة وإدراكه لأهميتها وضرورة وجودها وهذه الثورة العلمية هي الحلقة الأخيرة في سلسلة المخزون الفكري والعلمي الذي تم توريثه للأجيال من خلال الكتابة، من هذا المنطلق احتلت الكتابة عبر التاريخ المرتبة الأولى كوسيلة هامة لنقل المعرفة بين الأجيال واعتبرت الميراث الذي خلفته الحضارات السابقة للبشرية وصارت المرآة التي تعكس أحداث وقضايا الحياة والمجتمعات في كل زمان ومكان، كما إنها لعبت دورا رئيسيا في نثر كل القصص والروايات والإحداث بين بني الإنسان قديما وحديثا على صفحات الكتب والمجلدات.

والكتابة لعـشاقها هي دليل الشفافية وإيضاح الحقائق للغافلين وصرخة المساكين وصوت الفقراء ومنبر الحق والحرية ودرب يثري الحياة الأدبية والعلمية في أي مجتمع بمزيد من تعددية الآراء والأذواق والتجارب، والعاشقين للكتابة يدركون أنها الأساس في تطوير المفردات اللغوية والمرشد نحو امتلاك قدرات التعبير والتصوير والمحفز للفوز بمهارة تفريغ الهموم الشخصية والمجتمعية والوطنية على شكل نصوص أدبية حتى تلامس الوجع الإنساني أينما كان ويكون قيل لسقراط يوما: أما تخاف على عينيك من إدامة النظر في الكتب، فقال: إذا سلمت البصيرة لم احفل بسقام البصر.

ولم تخلد الكتابة أروع الحكايات والمآثر إلا عن طريق قائد وملهم مسيرة الكتابة عبر مختلف الأزمنة أنه الكاتب صاحب الصناعة اليدوية التي يستخدم فيها أدواته الجميلة من لغة وفكر حتى يحول أفكاره ومشاعره المتقدة إلى حروف وكلمات وجمل بحيث يكتب مدفوعا بهواجس داخلية تلح عليه بأن يغرق الأوراق بأجمل المواضيع وان يفرغ الشحنات الملتهبة في نفسه على صورة قصة أو قصيدة ، ما ابلغ هذا الإنسان! انه يضع قلمه على هموم الوطن والمواطن ويسعى من اجل توصيل رسالة حضارية أو فكرة إنسانية أو تجربة حياتية تستحق القراءة، لذا فهو صاحب عدة صفات رائعة فهو مثقف ومفكر ومحلل ومعبر عن قضايا المجتمع وناقل لما يحدث على ارض الواقع وكلمته تلعب دور في تغيير المجتمع وإشاعة قيم الحداثة والتسامح، ما سبق يؤكد على أن قيمة الكاتب قيمة كبيرة تكمن في إنسانيته وقضاياه المطروحة وقيمة إنجازاته التي لا تقل أهميتها عن قيمة ما ينجزه الآخرون في هذا العالم.

الصفات الجميلة التي يتصف فيها الكاتب لا تأتي من فراغ بل إن وجود عدة عناصر تساهم في تشكيل صفات ومهارات الكتابة واهم هذه العناصر القراءة ، فهي المعين الذي لا ينضب للثروة المعرفية واللغوية التي يستقي منها الكاتب ما يعينه على خوض التجربة ، وهي أيضا الخلفية المعرفية للكاتب التي تمكنه من امتلاك أدوات اللغة وأسرارها مما يبيح له الإبحار في مجالات أرحب واسع عندما يختار موضوعه، هذه النعمة " القراءة " صاحبة الفضل الأول على الكاتب واهم عوامل نجاح وتقدم الكتابة لاسيما إذا تم تطعيم الكاتب ببعض العناصر الأخرى المهمة مثل الدراسة وخبرة الحياة والإلمام ببعض القضايا.

لكن هذه العلاقة المترابطة بين القراءة والكتابة والكاتب أصيبت بالخلل في عالمنا العربي حيث إن تراجع نسب نشر وتوزيع الكتب وهبوط مستويات القراءة في كافة المجالات وانتصار وسائل الأعلام المرئي ومحاصرة مسيرة الكلمة في العالم العربي بأشكال متعددة من الرقابة من الجهات الرسمية والأصولية ومعاناة الكاتب من إشكاليات الانفتاح والجرأة وقمع الحرية أدت في النهاية إلى تراكم الأزمات الثقافية وحدوث إهمال حقيقي لقيمة ومكانة الكتابة والكاتب في بلداننا العربية وأصبح الكاتب العربي صاحب الأمانة والمسؤولية يعاني من تجاهل الجميع سواء أفراد أو جماعات أو مؤسسات لان ما يكتبه يذهب للدفن وعوالم النسيان بل تولد الكتابة ميتة على صفحات وسائل الإعلام ومصادر البحوث، ومما يوسع هذا الإهمال غياب المنابر الحرة التي تستطيع استقطاب المبدعين والمتميزين في مجال الكتابة وابتعاد وسائل الإعلام ومراكز الثقافة والمؤسسات العامة عن الاهتمام بالكتاب المتميزين ذوي الأقلام الحرة، أضف إلى ذلك غياب التكريم المادي والمعنوي وخلو الساحات العربية من مسابقات فعالة ترصد المواهب الصاعدة في مجال الكتابة، بل أصبح الاهتمام ينصب حاليا على فئات أخرى قد تكون ذات أهمية وجدوى أكبر للمؤسسات وفئات المجتمع من أمثال المغنيين والفنانين ولاعبي الكرة .

هذا الاستبعاد الغريب للكتابة والكاتب في عالمنا العربي يأتي نتيجة لتجاهل الدور المهم الذي تلعبه الكتابة ثقافيا وحضاريا واجتماعيا، هذا التجاهل في حد ذاته في نظر بعض المثقفين يشرع لمزيد من الضياع الثقافي وغياب الأفعال الثقافية مما يؤدي بمرور الوقت إلى افتقاد الحياة الثقافية النشطة وتغييب الحركات الثقافية القادرة على التأثير لأنها ستفقد حرية الصوت واستقلالية القرار، ولكن على الرغم من ذلك فإن هذا الإهمال لن يمنع الكتابة الجادة والكاتب الحقيقي من القيام بالأدوار المطلوبة في تعرية الواقع العربي وإظهاره على حقيقته لتراه الأجيال القادمة، لأن الكاتب هو القادر فقط على رسم ملامح الصورة العربية القاتمة ووضعها على هيئتها الصحيحة لتثير مشاعر الخجل والأسف والاشمئزاز لدى الأبناء والأحفاد الذين سيطالعون تخبط الواقع العربي المخزي في المستقبل.

عكس الإهمال العربي يقابل الآخرون في هذا العالم الكتابة والكاتب بأرفع درجات التبجيل والاحترام والتقدير ومن ضمنهم الغرب الذين عرفوا قيمة وفوائد الكتابة وأدركوا أنها ستكون وسيلة التخاطب الرئيسية بين الأفراد في المستقبل، لذلك وضعوها في مكانها الصحيح وقلدوا روادها أسمى الأوسمة وزادوا نسب إنتاج الكتب والصحف والمنشورات أضعاف ما هو عليه في عالمنا العربي واهتموا بالأدب والعلم والمجالات التكنولوجية ولم يهمل المجتمع وأفراده القراءة، وما هو أرقى من ذلك أوصلت الحركات الثقافية وطبقات المجتمع والحركات السياسية المثقفين في بعض الدول الأوربية إلى هرم السلطة ومراكز القرار.

أما في دولنا العربية فلا زالت الكتابة تصارع من اجل تحريرها من سجن السلطة وتجاهل القطاعات الأخرى، وما زالت في خضم الظروف الصعبة تسعى لاستعادة الدور الحقيقي الذي أقصيت من اجله عبر مختلف الأزمنة العربية، لتكون في القلب من حركة الفعل في الثقافة والحياة وتخلص الثقافة العربية من عادت ذهنية ولغوية واجتماعية جمة وترفع من شأن الإنسان في المجتمعات العربية في كافة المجالات الاجتماعية والأدبية والعلمية ...فمتى يتحقق هذا الحلم أيها العرب؟ والى متى يظل هذا التجاهل؟ ومتى سيكون هناك قيمة ومكانة حقيقية للكتابة والكاتب في عالمنا العربي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى