الاثنين ١٠ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم هند فايز أبوالعينين

لـُغة النصوص الأدبية المُحدثة

عندما كنت في الصف السادس الابتدائي، وتحديدا في الإجازة الصيفية، قرأتُ ثلاثا من ترجمات مصطفى لطفي المنفلوطي. كنت أعتقد أنه عقابٌ لي على كثرة شغبي، أن دست أمي بين يديّ رواية " تحت ظلال الزيزفون " وقالت " إن استطعتِ أن تروي لي ما في هذا الكتاب سأسمح لكِ باللعب خارج البيت" ، لكن تبين أن تلك كانت بداية هوس ٍ للقراءة أصابني ولازمني من وقتها.

إستمتعتُ كثيراً بقراءة ترجمات المنفلوطي، وأذكر أني – رغم حداثة سني – تأثرتُ جداً بمشاعر سيرانو دي برجراك " الشاعر" لحبيبته ، لدرجة أن كانت تدمع عيني عند بعض أشعاره. وأذكر كذلك أن ترجمة المنفلوطي للشعر الفرنسي على لسان الشاعر أخذ شكل شعرٍ عربي أيضا، واستطعت في ذلك العمر أن أميز أن من يترجم شعرا من لغة أجنبية الى شعر عربي بنفس المعنى ويُظهر كل ذلك الوهج من مشاعر الحب، هو بالتأكيد أديبٌ عظيم. وقد كانت تلك بداية معرفتي بماهية الحب، والحالة الروحانية السامية التي يعيشها العاشق، إذ أن لغة المنفلوطي كانت من السلاسة والروعة في التعبير والتصوير لدرجة أن استطاع بها أن يخترق قلب طفلة في الحادية عشر من عمرها ويوحدها مع مشاعر أبطال رواياته، ويعلمها ما الحب.

تـُرى ، هل كان المنفلوطي يعلم أن ترجماته ستقع بين يدي طفلة في الحادية عشر من عمرها، تلتمس فـَهما لمشاعر الكبار، حتى يبسط لها لغة ترجماته كما ظهرت لي ؟

بعد تلك العطلة ، إرتقيت بمستوى قراءاتي قليلا نحو الحداثة، فقرأت مجموعتين قصصيتين للأديبة غادة السمّان وبعدها قرأت " قالت لي السمراء" . ولم أجد صعوبات في فهم نصوصهما، بل أصبحت أرى ما يميّز كل كاتب عن الآخر: بعض التعابير المتكررة ولو بتباعد، المنطق الذي يفسر به شعورا معينا. بدأت أعرف أن الكاتب يترك شيئا من روحه فيما يكتب، ودون إرادته. فغادة السمان مثلا كانت تكرر عبارة " معجوناً بالدم" ، كل شيءٍ عندها يدخل الدم في وصفة صنعه، وكأنها رأت الدم كثيرا في حياتها ولا تستطيع أن تنسى منظره. أما نزار قباني فقد ترك في نفسي شعورا بالنفور، فقد كنت وقتها "مشروع إمرأة " ، وصدمني أن أقرأ وأعلم أن هذه هي صورة المرأة في أعين الرجال ، مجرد جسدٍ يُشتهى، ومجرد آلة حسيّة لاتريد إلا إطفاء جوعها.

لا أعتقد أن هذين الكاتبين أيضا كتبا لتصل نصوصهما الى قلب طفلة...

أذكر أن أول نص ٍ قرأته وأخذ مني مجهودا فكريا حتى أفهمه، هو نصٌ فلسفيٌ بحت قرأته في مساق جامعي اسمه " دراسات في الفلسفة المعاصرة" ، وقد قرأته ثلاث مرات حتى فهمته. لا أذكر مَن كاتبه، لكن أذكر أن الفكرة المحورية فيه كانت إثباتَ أن الفكر السببيّ يؤدي الى الإيمان بوحدانية الله سبحانه وتعالى.

وجدتُ بعد حين أن عقول الكتاب والادباء هي كأشجار عملاقة في بستان. فهناك السرو مثلا، شجرة تنمو باتجاه واضح ومستقيم، لها رأس واحد وخط نموٍ واحد. تستطيع أن ترسم خطا مستقيما من منبتها الى رأسها. وهذه الشجرة يسهل الالتفاف حولها. والكاتب السروي عادة ما يكتب في السياسة أو الاقتصاد أو المشاكل الاجتماعية، لأنه يعتمد التحليل المباشر للوصول الى نتائج واضحة.

وتجد أن هناك الحور مثلا، تتجه من الأسفل الى الأعلى ، لكن بخطوط متعددة، تستطيع أن ترسمها من منبتها وكلها الى الأعلى، لكن بزوايا مختلفة. والحور عندي من أجمل الاشجار.
تجد أن الكاتب الحوريّ يكتب عن حبه لحبيبته مثلا، ثم ينقل الفكرة بسلاسة الى فكرة نصبت على حبه لها، كأزمة الحب مثلا، ثم إلى فكرة أخرى ، وهكذا. ويتم الانتقال عبر حمل القارىء على أمواج متناسقة من التعابير والصور الجميلة ، تجعل القارىء يرغب في إعادة قراءة النص المرة تلو المرة. لا لصعوبة فهم ما قرأ، بل حبا فيه، علّـه يحفظ منه شيئا.

ثم هناك البلوط ، وهي شجرة وارفة، تورق بكل الاتجاهات، تستطيع أن ترسم عليها خطوطا مستقيمة لكن قصيرة جدا. وتستطيع أيضا أن ترسم عليها مثلثات ومربعات ودوائر، ورسوما حلزونية إن شئت.

العقول البلوطية تكتب الأدب بإبداع فذ، فهي وارفة وأوراقها تنبت بكل الاتجاهات، فتجد أن التعابير التصويرية فيها غزيرة، والحس فيها عميق. لكنك لا تستطيع أن تجمع غصنين معا في ظل هذا الإوراق الغزير، أي لا تجد ما يجمع الصور المتراصة في فكرة واحدة. وان استطعت إيجاد فكرة ، تجد أن الصورة التالية تشتتها. حتى تكاد ترى أن النص كـُتب في الحب والسياسة والمشاكل الاجتماعية معا. وهذا في نظري ليس فقط نقص في القدرة على التركيز، بل هو أيضا نقص في القدرة على التعبير، واستخفاف بعقول القراء.

قد يعتقد أصحاب العقول البلوطية أن هذا يجعلهم من نخبة الأدباء، لأن نصوصهم تُشكل تحديا للعقول الاخرى، لكنهم بذلك يفقدون الإتصال بالعقول الأخرى. فضلا عن أنهم يفقدون رؤية أن الأدب هو أسمى أساليب الاتصال البشري. فلم يكن النص الأدبي أبدا مضمارا للتحديات. والنخبة فيه يحددها قدرة العقل الكاتب على الإتصال والولوج الى القلوب بسلاسة لغة القلوب، والقدرة أيضا على طرح القضايا التي تمس البشر بطريقة تمس البشر. ونستدل على ذلك بأن أصحاب النصوص الفلسفية كالتي ذكرتها مثلا أعلاه، لم يصِلوا أبدا الى تسمية "أديب" حتى لو كتبوا في الأدب والثقافة. بل يُسمَّون فلاسفة. كما نستدل على ذلك من أن مَن صنـّفهم التاريخُ نخبة ً بين الأدباء والشعراء لم يكتبوا إلا بألفاظ وتعابير وصور تصل قلوب القرّاء مباشرة – ومن أمثالهم المنفلوطي ونزار قباني وأحمد شوقي – وحتى من عصورٍ سابقة – من أمثال المتنبي وأبي فراس الحمداني. وكتابة هؤلاء بلغة تصل القلوب لم يكن متعمدا بهدف الوصول الى القلوب، بل لأن ما يكتبون كان من قلوبهم أيضا.

أعتقد أن من عنده الإبداع الأدبي الكافي لأن يكون مورفا كشجرة بلوط، عنده العمق الفكري الكافي أيضا لأن يعي بأنه بابتعاده عن لغة قلبه وقلوب القراء فهو يفقد بذلك أهم مزايا الأدب، ألا وهو القدرة على الاتصال بالآخر. أما إن كانت لغة القلب هي غابة إستوائية أصلا، فتلك معضلةٌ أخرى ..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى