الاثنين ٣ آذار (مارس) ٢٠٢٥

لو يخجل الموت قليلا: مرثية للغائبين

الكتاب الجديد الذي صدر عن منشورات النورس فريد في جنسه، شاعري في لغته، باذخ في الجنائزية التي يرسمها للموت، للفاقدين والمفقودين على حد سواء، كتابة تجاور الموت وتسائل الموتى، في معنى الحضور والغياب، في قسوة الرحيل ووجع العدم، كتاب "لو يخجل الموت قليلا: مرثية للغائبين" لعبد العزيز كوكاس الصادر حديثا في 141 صفحة من الحجم المتوسط، هو أكبر من مرثية أو ذكر محاسن الموتى حين يحزمون حقائبهم ويرحلون بعد أن فقدوا لغة المتكلم وتواروا في ضمير الغائب، بل هو تأمل فلسفي في معنى الموت وقسوة الفقد ولوعة الغياب لمجاورين كانوا بيننا، يدبون فوق الأرض ويشاركوننا وجعنا وأحلامنا، ما الذي أصبحوا عليه بعد أن أصبحوا هناك؟

يقول كوكاس وهو يعد مرثيته وطقوس جنازته: "بعد توالي الغيابات في سلالتي وأصدقائي، وحين سيرحل كل من يُبهجني حضورهم، ماذا سيتبقى للموت ليتسلّى به؟ ألن يصبح عاطلا بلا معنى لوجوده؟ حين لن يعود هناك من يهابه أو يهدده، ألن يتولّى أمر ذاته بنفسه، كيف سيكون موته، لا دموع، لا آهات، لا حزن عليه، لا ألم ينقذه من الفراغ؟ لو يخجل الموت قليلا.
لذلك ونكاية فيه، عليّ أنا الحيّ الآن، أن أُجْري تدريبا على موتي، كما يفعل الممثلون قبل تقديم أي عرض مسرحي أمام الجمهور، ف"لا يمكن أن يكون الموت صعباً إذ حتى الآن لم يفشل فيه أحد" (نورمان ميلر)، عليّ أن أعد جنازتي كما لو كنتُ الميّتَ بعد حين، أحاول أن أفتح عيني لأرى من حضر موتي في جنازة الخيال، وأتوارى في الغياب، لا أحب أن أغلق باب الحياة بعدي، فالشمس ستشرق هنا غدا وهذه الوجوه الشاحبة والمآقي الدامعة ستعود لها بسمة الحياة الوردية، ويعود الوجود لدورته الطبيعية"..

في تقديمه لكتاب "لو يخجل الموت قليلا"، يقول المفكر محمد هاشمي بعد مقدمة تأملية فلسفية عميقة حول الموت واللغة، الموت والصمت، الموت والكلام: "هذا الحارس الذي فرش في تواضع وإيثار كلماته للغائبين كي ينبعثوا مرة أخرى في ضوء الكلام، فإذا بهم مرة أخرى يستعيدون ملامح الحياة، ويرفلون في أبهة لغة كوكاس الشاعرية التي لم تفقده مهنة الصحافة فخامة الكلمات، وعراقة المعجم وفحولته، وإذا به "ينشر" وجودهم بعيدا عن مصائد النسيان، فجعلنا نعرفهم واحدا واحدا، ينبضون بالحياة في خيالنا، كأننا جالسناهم وحادثناهم، وشاركناهم سمر لياليهم وسردياتهم، عرفنا الأب والأخ والأم التي لرقّة ما كتب في حقها، صارت أُمّنا جميعا، والتقينا كل تلك الأسماء اللامعة التي غادرتنا في غفلة من الحياة، فتذكرنا ملامح أصحابها، ونبرة صوتهم، وبصمة فكرهم ومواقفهم، وجلسة الشّلة في دفء الصداقة واضطرام الأفكار، هذا الانبعاث والاستذكار لم يكن بلغة عزيز مجرد استحضار، بل حضورا عجيبا بقدر ما أسعفته اللغة، وأخلاق الاعتراف، وهكذا استطاع أن يكسر سطوة الصمت والموت، بقوة الكتابة، وهكذا جعل الموت "يخجل قليلا".

الكتاب الجديد للإعلامي والمبدع عبد العزيز كوكاس هو حفر في الذاكرة، في لوعة الفقد، في استرجاع ذاكرة مثقلة بالتجارب الحزينة، مفعمة بالألم والأمل، حتى وهو يتحول إلى حارس وادي النسيان ويرثي ذاته بلغة مبهجة وبالغة التأثير، لا تتقصد استدرار دمعنا، بل تدفعنا لمحض السفر في ذواتنا لنسائل الوجود والعدم، حول معنى أن نحيى ومرارة أن يرحل كل هؤلاء الذين اغتنت بهم المقابر فيما بقينا على فقرنا حد نصل الوجع.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى