الثلاثاء ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠١٧
بقلم حسين سرمك حسن

ليلة تسليم جلجامش لليهود (15)

التسرّع في إصدار الأحكام:

كيف تكون فتاة شريرة مساوية للإلهة "إيزيس" الطيّبة ؟:

وهذه السرعة في التشبيهات وإطلاق الأحكام تسم مشروع ناجح بأكمله.
لنقف عند نظرته إلى الفتاة، زوجة باتا التي خلقها الإله (رع – حوراختي) لتسكن معه وتداري وحدته. سرعان ما جعلها ناجح مساوية لـ "إيزيس" الإلهة المصرية. دعونا نتوقف عند أفعال إيزيس، ثم أفعال هذه المرأة، لنرى هل هما متشابهتين كما يقول ناجح، أم أنه يُطلق الأحكام بحماسة وبلا قرائن، وكأنه يلهج بأشياء حفظها عن ظهر قلب سواء توفّرت شروط انطباقها على الحالة الراهنة أم لم تنطبق!.

من هي إيزيس ؟

إيزيس هي واحدة من الآلهة التاسوعاء، هي ربة القمر والأمومة لدى قدماء المصريين. وكان يرمز لها بامرأة على حاجب جبين قرص القمر، عبدها المصريون القدماء والبطالمة والرومان. صارت إيزيس شخصية بارزة في مجموعة الآلهة المصرية بسبب أسطورة أوزوريس. كانت شقيقة ذلك الإله وزوجته. واستعادت جثته بعد أن قتله "ست". وبمساعدة نفتيس وتحوت أعادت إليه الحياة بعد رحيله إلى حياة جديدة محدودة في العالم الآخر, ربّت ابنها حورس الذي أنجبته من زوجها الراحل أوزوريس في أجمة مستنقعات خيميس بالدلتا. وقد كان خيال عامة الشعب مُغرما بتأمل صورة الأم التي أخفت نفسها في مستنقعات الدلتا، والتي قامت فيها بتربية حورس طفلها حتى إذا ما شب واشتد ساعده، صار قادرا على الانتقام من قاتل أبيه "ست". كانت إيزيس أشهر الربّات المصريات جميعا، وكانت مثال الزوجة الوفية حتى بعد وفاة زوجها، والأم المخلصة لولدها. امتدت عبادة إيزيس في عهد البطالمة واليونان إلى ما بعد حدود مصر، وكان لها معابدها وكهنتها وأعيادها وأسرارها الدينية في كافة أنحاء العالم الروماني حيث صارت تمثل ربة الكون: "أنا أم الطبيعة كلها، وسيدة جميع العناصر، ومنشأ الزمن وأصله، والربّة العليا، أحكم ذرى السماء ونسمات البحر الخيرة وسكون الجحيم المقفر..." (105).

فما الذي فعلته هذه المرأة، زوجة باتا التي خلقها الإله (رع – حوراختي)؟

لقد خلقتها الآلهة وفيها "جوهر من كل إله" كما قلنا. ولكنها بعد ذلك بدأت بخرق كلّ ما قاله لها باتا الطيّب، فقد خرجت من المنزل وكاد البحر يخطفها بالرغم من تحذيرات باتا. ثم سقطت في مصيدة الإغواء عندما أرسل الفرعون امرأة مع فرسانه ومعها زينة أخّاذة، لتهجر باتا الذي أحبّها حبّاً عظيما، ووفّر لها كلّ شيء. رحلت طوعيّاً إلى الفرعون لتصبح زوجته. وقد أحبها الفرعون حبّاً جمّاً كما تقول الأسطورة، ورفعها إلى مكانة عالية جدا. وطلب منها أن تحدّثه عن زوجها، فقالت له أن الأكاسيا يجب أن تُقطع، وأن عليه أن يُرسل من يسحقها !. وهي تعرف أن هذا التصرّف معناه موت باتا زوجها السابق الذي أحسن إليها. أرسل الفرعون جنودا مسلّحين إلى الوادي فقطعوا زهورها التي كان عليها قلب باتا فسقط ميتاً في الحال.

أليست هذه المرأة هي الأنموذج الصارخ لإلهة الشرّ والموت والخيانة؟!

لقد خانت زوجها الشاب وغدرت به ثم دلّت الطاغية على طريقة قتله.. وطاوعت السلطة الأبوية البطرياركية في قتل ممثل الألوهة الشابة كما اعتبره ناجح.. فبربّكم هل هناك أي صلّة – ولو واحدة – بين هذه المرأة والإلهة إيزيس الأم إلهة النور والخير والحب والوفاء؟!

ومع ذلك، دعونا نُكمل القصّة:

كان باتا - عندما هرب من أخيه أنبو بلا رجعة - قد قال له أنّه إذا فسدت الجعة في كأسك وتعفّنت عندما تريد شربها، فتلك علامة على أنني أُحتضر، ويجب عليك أن تأتي إلى وادي الأرز لتنقذني، ولتفتش عن قلبي وتنعشه كي أحيا من جديد. وقد فسدت البيرة في كأس الأخ الأكبر أنبو في اليوم التالي لموت باتا، فأخذ سلاحه وذهب إلى الوادي، وهناك وجد أخاه الأصغر ميتاً، فأجهش بالبكاء (لاحظ أن الأخ الأكبر يحبّ أخاه الأصغر ولا علاقة له بالإله الشرير "ست"، كما طابق بينهما ناجح بصورة خاطئة سابقاً ). ثم أمضى ثلاث سنوات يبحث عن قلب أخيه ليجد بذرة في السنة الرابعة هي قلب أخيه. وضعها في كوب ماء بارد، فارتعشت كل أطراف بايتي، وحين شرب ماء الكوب عاد إلى الحياة، واحتضن أخاه. قال باتا لأخيه بأنه قد خطّط ليأخذ بثأره من زوجته الخائنة. ولذلك فإنه سوف يصبح غداً "ثوراً مقدّساً" يحمل أهم علامات القداسة، وعلى أخيه الأكبر أنبو أن يقوده إلى قصر الملك حيث تسكن زوجته الخائنة بعد أن تزوّجت بملء إرادتها من الفرعون. وهناك سوف يكون هذا الثور معجزة عظيمة، وسيقيمون له الإحتفالات في قصر الفرعون وفي كل البلاد، وعلى الأخ أن يعود إلى القرية بعد ذلك. قام الأخوان بتنفيذ الخطّة، واقتاد أنبو الثور المقدّس (أي باتا بعد تحوّله) إلى قصر الفرعون الذي فرح بهذه الهدية فرحاً كبيراً، وأحبّه كثيراً جداً، ومنح الأخ الأكبر الذهب والفضة، وأعاده إلى القرية.

عاش الثور المقدّس مكرّماً مهاباً في قصر الفرعون، ويتحرك بحريّة واحترام. وذات يوم دخل قسم الحريم، ووقف أمام الأميرة/ زوجته السابقة، وأخبرها بأنه زوجها السابق باتا، وأنّه لم يمت، فذعرت وخرجت هاربة. بعدها جلست مع الملك على مائدته، وكان الملك مسروراً، وطلبت منه "كبد" الثور كي تأكله. ومعروف أن الشعوب القديمة تعتقد أن الكبد هو مستقر الروح.

الآن دعونا نتوقّف، قليلا، لنتأمل ما يقوله ناجح عن جلسة الأميرة مع الفرعون:

(يبدو بان الجعة باعتبارها نتاجا زراعيا متطورا، هي الوسيط في نظام السرد الاسطوري، وهذا ما سجلته الاسطورة عن طريقة الاعلان عن موت الشاب/بايتي واعادته للحياة، لكن القدرة الكامنة في الجعة وما تثيره من نشوة وتخيلات مثلت في هذا النص، الاصول الاولى لمجال الام الكبرى في التاريخ، لانها هي التي اخترعت النبات المخدر وعرفته وكذلك ساهمت بانتاج الخمور لانه من وظائفها الحضارية/الدينية الاولى والمصاحبة لعقائدها الخاصة بالانبعاث والتجدد - ص 169) (106).

لم يصدّق الأستاذ ناجح وجود بيرة / جعة على المائدة ليربطها بالإلهة الأم ومبتكراتها عبر التاريخ. لكن ستأتيه المفاجأة قريبا بعد أن نستمع إليه، وهو يصف تأثير الجعة التي جعلت الفرعون يسكر، ويستجيب لطلب الأميرة الخبيثة. يقول ناجح:

(لذا استعانت بها زوجة فرعون من اجل سلطتها الانثوية، ووظائفها الدينية لان الفرعون استجاب لها في كل المرات، بعد ان لعب المسكر براسه ووافق على الذي تريد - ص 169 و170) (107).
وأسأل ناجح الآن: ما هي الوظائف الدينية التي قامت بها الأميرة الخائنة ؟؟

ولنقدم له – الآن - المفاجأة التي ستطيح باستنتاجاته، وتثبت - للأسف - أن شروحاته هذه ليس لها مجال هنا. فهذا ما تقوله الأسطورة الأصلية عن جلسة الأميرة مع الفرعون:

And his majesty was sitting, making a good day with her: she was at the table of his majesty, and the king was exceeding pleased with her. And she said to his majesty, "Swear to me by God, saying, ’What thou shalt say, I will obey it for thy sake.’"
He hearkened unto all that she said, even this. "Let me eat of the liver of the ox, because he is fit for nought!" thus spake she to him. And the king was exceeding sad at her words, the heart of Pharaoh grieved him greatly. And after the land was lightened, and the next day appeared, they proclaimed a great feast with offerings to the ox.(108).

فهل يجد القارىء الكريم أي ذكر للجعة في جلسة الفرعون مع الأميرة؟

هل يتضمن هذا النص، وهو الأصلي، أي كلمة تشير إلى سكر الفرعون وأنه استجاب – تحت تأثير الخمرة – لطلب الزوجة الخائنة بأن يهبها كبد الثور المقدس لتأكله؟

من ناحية ثانية، وعلى العكس مما تورّط فيه ناجح - بسبب اعتماده على نسخة أدبية من الأسطورة – نجد أن النص الأصلي يشير بوضوح إلى أن الزوجة الخائنة طلبت من الفرعون أن يقسم لها بالإله بأن ينفّذ كلّ ما تقوله، فأقسم لها. وأصبح قلبه حزينا بدرجة عظيمة بسبب استجابته لطلب الأميرة بذبح الثور، ولكنها ورّطته بالقسم بالإله "رع" بأن يستجيب لكلّ ما تقوله. المهم أنه أقسم بكامل وعيه وليس تحت تأثير الخمرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى