الخميس ١٣ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
قصص في زمن بلا قلب
بقلم هشام بن الشاوي

محاسن الحمصي «لم يعد لي إلا .. أنا»

في البدء، لا أنكر بأنني لست من المتحمسين لقراءة ما يعرف بـ«القصة القصيرة جدا»، بل صرت - لا شعوريا- ممن يشاركون في التنكيل بجثة القصة القصيرة؛ بميلي إلى قراءة الرواية.

هكذا وجدتني أحد قاتلي هذا الفن الحكائي النبيل، الذي صنع الأسطورتين الأدبيتين: يوسف إدريس وأنطون تشيكوف، وأشك في أن يكون «كتبة» الـ (ق.ق.ج) قد سمعوا باسمَيْ هذين العظيمين، ومن جرّب الاكتواء بنار السرد، سيدرك سحر الرواية وإغراءاتها.. فهي تمنح الخيال آفاقا رحبة للتحليق، وعلى الرغم من مكابدات كتابتها فهي تمنح الكاتب - والقارئ أيضا- متعة لا تضاهى... لهذا لا نستغرب أن يهجر كتّاب القصة القصيرة - ولو إلى حين- حبهم الأول، بل حتى الشعراء لم يسلموا من حبائلها، وخانوا زوجاتهم الشرعيات (القصيدة). وفي عالمنا العربي يندر أن تجد قاصا وفيا، باستثناء السوري زكريا تامر، المغربي إدريس الخوري، بينما لم يقاوم المصري سعيد الكفراوي جاذبيتها.

إن عزوفي عن قراءة القصة القصيرة جدا، - وقد يشاركني فيه العديد من الزملاء الكتّاب والنقاد أيضا- يعزى إلى كثرة المتطفلين والأدعياء، ممن يعيثون في المواقع والمنتديات فسادا، مقترفين أفظع الجرائم في حق هذا الفن الشهرزادي الآسر، حتى أن هناك من أصدر ثلاثة كتب تضم «خزعبلاته»، التي لو تم تقطيرها، فلن نظفر سوى بسطور لن تكفي لتسويد بياض صفحة واحدة في كتاب من القطع المتوسط !!.

****

لا أنكر بأن ذائقتي الأدبية متطرفة نوعا، فقد اعتدت أن أتفادى قراءة ما تنثره بعض الكاتبات من نصوص كسيحة، متسلحات بصورهن - وغالبا ما تكون صورًا التقطت، حين كن طالبات في الصف الإعدادي- مصرّات على ألا يغادرن تلك المرحلة، وأن يعشن مراهقتهن بأثر رجعي.. من خلال كتاباتهن، كنوع من التنفيس عن معاناتهن وخوائهن العاطفي في مجتمع ذكوري.. ولأن القارئ المسكين - والذي لا علاقة له بالأدب نهائيا، وبالتالي لا يعرف السن الحقيقي للكاتبة التي تبتسم له وحده (كما يتوهم)- تصاب عيناه بالحول ويسيل لعابه، يكيل لها المديح عبر تعاليق وردية، ولن نلومه إن تخيل نفسه الرجل المشتهى في قصة جميلة الجميلات، فلا ينسى أن يذيل تعليقه بعنوانه الالكتروني، والأنكى أن يتغاضى الكتاب الحقيقيون عن تفاهات كاتبات لا تغادر "نميماتهن" النسوية الفراش، (وما أسهل الكتابة عن الجنس (!، وللأسف، ثمة ناشرون يصنعون منهن نجمات في لمح البصر..

هل أبدو متشائما للغاية؟

لا، ثمة بصيص أمل..

بيد أن البضاعة الفاسدة تطرد البضاعة الجيدة.

****

أتابع، منذ ثلاث سنوات، ما تكتب الزميلة، الكاتبة الأردنية محاسن الحمصي، والتي صدر لها مؤخرا كتابها الأول : «لم يعد لي إلا.. أنا»، وقد ارتأينا، في هذه العجالة مقاربة ومضاتها السردية.

إذا كانت الكاتبة تجنح في قصصها القصيرة- التي خصصت لها القسم الأول من الأضمومة السردية- إلى شعرنة السرد والرؤية، عبر أسلوب شفيف يؤرخ معاناة نساء منكسرات، حزانى يرفضن البكاء على أكتاف الرجال.. فاضحة زيفَ واقع بائسٍ، ما زالت تعاني فيه المرأة من معاملتها كجارية مما ملكت الأيمان، دون أن تسقط في فخ توظيف كلمات تدغدغ مشاعر رخيصة لدى القارئ، فإنها في القسم الثاني من الكتاب، والذي اختارت أن تعنونه بــ «قصص في حجم الكف» - تكتب قصصها القصيرة جدا بأسلوب تلغرافي، مفرداته أشبه بطلقات رصاص، لا تخطئ هدفها.

في هذه الومضات السردية لا تنشغل بتنميق الكلمات، وإنما بفضح المسكوت عنه؛ فتكتب عن فلسطين المخذولة، عن معاناة ملح الأرض، عهارة السياسة والغضب المكتوم.. ولأنها مهمومة بهذه الأمة المنكوبة، تلجأ إلى المقالة الساخرة حينا، الغاضبة أحيانا.. للتعبير عن استيائها، حين لا تسعفها عبارة السرد و تخذلها مجازاته.

****

أحيانا، يحلو لي قراءة أية مجموعة قصصية اعتباطيا. أبدأها من آخر قصة، ثم أتسكع بين النصوص، أقرأ ما تقع عليه يدي مصادفة، أثناء تصفحها... فما رأيكم في بعثرة النصوص، وقراءتها كيفما اتفق؟
لنبدأ من نص (دارت المطابع): «انتشال جثة مراهقة من النهر/القبض على شاب متنكر في زي امرأة../ محاكمة../ اعتراف.. / إعدام إرهابي خطط لتفجير منشأة آهلة بالسكان».

إننا هنا إزاء أحداث لا رابط بينها، ولو أعدنا قراءة العنوان، سندرك أنها «مانشيتات» صحيفة، لا تخلو من بعض التوابل.. بيد أن هذه الأحداث تشي بمجتمع (وطن) مأزوم، منحرف؛ لم يجد أفراده أي ملاذ للهروب من همومهم الطاحنة سوى الجريمة أو الإرهاب أو الانتحار أو الشذوذ.. ويمكن أن نعتبر هذه الأحداث - وبلغة السينمائيين- بمثابة «فوتو مونتاج».

وحين نتوغل في قراءة «قصص في حجم الكف»، وحتى عند اختيارنا للنصوص اعتباطيا، حسب اتفاقنا أعلاه.. سنصطدم بمعاناة وُفّقت محاسن الحمصي في التعبير عنها بأقل عدد ممكن من الكلمات، ولأن الوطن مجموعة من البيوت، وكل بيت يضم أسرة يشكل أفرادها مواطنين، فلكل بيت معاناته.. ففي نص (العائلة السعيدة) نلمس ذلك البرود العاطفي، الذي جعل من الزوجين عائلة سعيدة: "تُطل عليه من فتحة الباب، عاري الجسد يلهث خلف الجهاز../- تريدُ شيئا حبيبي../- شكراً!../ - تصبح على خير، أتركك تمارس هوايتك مع مواقعك الخليعة في هدوء ..!/ - تصبحين على خير، أتركك تمارسين هواية الكتابة والقراءة في هدوء!/ تمضي الأيام، والتفاهم يغمر البيت!…".

وفي نص (بطالة) يكتشف السارد خدعة طلب العلم ولو كان في الصين، وهو يعلق شهادته العاشرة وسيرته الذاتية يزين بها جدران غرفته الآيلة للسقوط، بينما الزوجة في المطبخ «تحمل السلاح الأبيض تحوم، تناور، تعارك قطعة لحم وحيدة ورغيف خبز جاف».

بينما يمكن اختصار نص (صداقة) في عبارة: "اتق شر من أحسنت إليه"، فالزوجة التي فتحت بيتها لصديقتها المشتكية من غدر الزمان، وجدت نفسها تجلس وحيدة على عتبة بيتها، بعد أن احتلته الصديقة، واستولت على زوجها. ومثل هذه الخيانة نصادفها في نص (عكاز)، حيث يتخلى العاشق - الذي كان مبتور الساق، كئيبا- عن الساردة، بعد أن استعان بساق صناعية، صار مختالا بها، ورمى عكازه لنيران المدفأة.

في نص (شيخوخة) لا يواسي الساردة/ الجدة سوى ضحك قلبها حين تطوقها الأيادي، فتنسى شعرها الأبيض، وثمة نص آخر عن أحزان الشيخوخة الشفيفة في نص (ضيف)، حيث يختطف ملاك الموت البنت بدل الأم العجوز، التي استعدت لاستقباله: "صابون معطر، مناشف، قطن وشاش، لفتها في صرّة مخملية، وأوصتْ:/- لوازم اغتسالي، الأعمار بيد الله./ وباتت في هاجس الانتظار./ اليوم، زارها ملك الموت، على حين غرة، فكان حمّام وحيدتها الأخير ..!!".

وهناك نصوص تدين بعض مظاهر التفسخ الاجتماعي كما في نص (لهفة)، حيث تترصد عيون وقحة المرأة التي تطل من الشباك على استحياء، ونكتشف أنها تترقب زوجها العائد من رحلة استشفاء : " تتوارى في عتمة الغرفة، تلمع عيناها والجبين خلف الشباك./ لهفتها تبعث في القلب دغدغة../ يحس بأنه لص، لكن النداء لا يقاوم../ يبني أحلاماً فضفاضة../ تتوقف سيارة، يغادرها كهل بثوب أبيض يتوكأ على عكاز،/تهبّ عاصفة من الشوق إلى زوج عائد من رحلة استشفاء...".

في (باص) تمعن القاصة محاسن الحمصي في فضح الكثير من السلوكات المستهترة والشاذة في مجتمعاتنا العربية، و نقرأ عن الاستغلال السياسي المقيت لمعاناة اللاجئين في (خيام)، ولا تخلو المجموعة من نصوص سياسية لاذعة مثل : (مقاطعة)، (معارضة)، (تفتيش)، (مشاهد من عرس الدم)، والنص الأخير يجسد معاناة غزة في محنتها الأخيرة، تختمه القاصة محاسن الحمصي بمشهد مسيرات التضامن، حيث يختلج قلب الساردة عند سماع حفيدتها التي لم تتجاوز العامين، وهي تدعوها عبر الهتاف، وبعربية متكسرة: "جدتي، تعالي اليوم عندي، سنخرج غدا./- وأين تذهبين غدا..؟/ - مسيرة إلى فلسطين.. إلى غزة../ يضيء الأمل قلبي الحزين، أبتسم، أهمس: الحمد لله. / بهدوء أغلق الخط : "جيل حفيدتي لن يغلق القضية".

وسيبلغ النقد السياسي ذروته في (مقامات): "يطلّ المذيع على الشاشة الفضية، يُـقلب الأوراق:
 مساء الخير، إليكم نشرة الأخبار...
تشييع جنازة (...) في موكب مهيب،( تقرير يستغرق ربع ساعة).
تشييع جنازتان في ظل رؤوس البنادق،(تقرير لمدة خمسة دقائق).
تشييع جنازات تحت وابل من القذائف وبحور من دماء: (بدون تقرير).
ثم ينتقل المذيع إلى خبر آخر، يقلبُ الصفحة، و... أطفئ الجهاز!!".

****

ركزت هذه المقاربة على بعض نصوص "قصص في حجم الكف"، محاولين سرقة بعض عطرها السردي الفواح، وهذا لا يعني أن القسم الأول من الكتاب لا يستحق القراءة، لكن فقط ارتأينا أن نرحب بهذا الكتاب الوليد بقراءة سريعة، على أمل العودة إلى القصص القصيرة.. في أقرب فرصة، بمشيئة الله.. لا سيما وأنها نصوص كتبت بلغة شجية عن عوالم أنثوية شفيفة.. في زمن بلا قلب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى