الثلاثاء ١١ تموز (يوليو) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

مِهمازُ البقاء في قلم نعيمة

نهَمُ الإنسانِ إلى المعرفة (2)

ويستمرُّ نعيمةُ في عرض براهينِه على حكمةِ الخالقِ جلَّ وعلَا في إبداعِ حياتنا الّتي تبدأُ بالجوعِ إلى الخبز وتنتهي بالجوعِ إلى معرفةِ الحقّ الّذي يُحرّرُ البشرَ من كلِّ جوع، وهي مشيئةُ الله، وما أعظمَها من مشيئةٍ! وتلك هي حكمةُ الحياةِ فينا، وما أعدلَها من حكمةٍ! لأنّها تجعلُ من الجوعِ مهمازاً يدفع بنا أبداً إلى التَّفتيشِ عن الغذاء الّذي لا جوعَ بعده، وتجعلُ كلَّ ما في الكونِ مائدةً لنا، وتجعلُنا موائدَ لكلِّ ما في الكون، وتجعلُنا معلّمينَ لكلِّ ما في الكون، وتجعلُ كلَّ ما في الكون معلّماً لنا، كما أنّها تجعلُ منّا ضيوفاً ومُضيفينَ، وتلاميذَ ومعلّمينَ في آنٍ معاً.

ولكي يوضّحَ نعيمةُ تفاصيلَ فلسفةِ إيمانِه بحكمةِ الخلْق، حينَما يرى أنّ كلَّ ما في الكون هو مائدةٌ لنا، كما أنّنا مائدةٌ لكلِّ ما في الكون، فإنّه يطرحُ أسئلةَ التّحدّي في جانبينِ:

الأوّل: ماديٌّ يرمي إلى معرفةِ مصادر جسمِ الإنسان، كأعصابِه وعظامِه ولحمه ودمِه لتأكيدِ رؤيتِه بأنَّ الإنسانَ آكلٌ ومأكول: "مَن منّا إذا عنَّ له يوماً أن يحلّلَ نفسَه نظيرَ ما يحلّلُ الكيميائيُّ مُركَّباً كيميائيّاً تمكّنَ من أن يردَّ أعصابَه وعظامَه ولحمَه ودمَه إلى مصادرِها؟".

وكي يؤكّدَ نعيمةُ وجهةَ نظرِه، فإنّه يطرحُ سؤالَه التَّقريريّ: "أليسَت أجسادُنا تتكوَّنُ من جسدِ الكون وتتغذَّى به؛ لتعودَ فتساعدَ في تكوينِه وتغذيتِه؟". ومن ثمَّ يؤكّدُ على نظريّةِ الهرمِ الغذائيِّ الّتي ترى أنّ كلَّ ما في الأرضِ إمّا آكلٌ وإمّا مأكولٌ، ويأتي الإنسانُ ضمنَ سلّمِ ذلكَ الهرَم: "فمثلَما نجوعُ إلى أشياءَ وأشياءَ تجوعُ إلينا أشياءُ وأشياءُ. فنحن أبداً جائعونَ ومَجيعُون، وآكلُون ومأكولُون. فهنيئاً لمَن كان طعاماً صالحاً للغيرِ كيما يكونَ الغيرُ طعاماً صالحاً له.. والويلُ لمَن كان للغيرِ سمّاً زعافاً، فهو من حيثُ لا يدري، يسمِّمُ طعامَه بيدِه ".

والثّاني: معنويٌّ يهدف إلى معرفةِ مصادرِ الإنسان في أخلاقِه وأفكارِه ونزعاتِه وشهواتِه، لتأكيدِ نظريَّتِه في أنّ الإنسانَ معلّمٌ وتلميذٌ في آنٍ، وذلك من خلال الاستفهامِ الإنكاريّ: "أنعرفُ أيَّ أثرٍ في كيانِنا لأغاريدِ العصافير وصريرِ الجنادبِ وهديرِ العواصفِ؟ أم نعرفُ ماذا قرأْنا ونقرأُ في صحيفةِ البحر والصَّحراءِ، وفي جبهةِ الجُلْمود والعشبةِ الخضراء؟ أم نذْكرُ كلَّ ما تُذيعُه لنا الشّمسُ والقمر والنّجومُ وما تهمسُه في آذانِنا سكينةُ اللّيل؟".

فتلك المصادرُ الطّبيعيّةُ والكونيّةُ قد تكونُ معلِّماً للإنسان، ثمَّ يُردِفُها بمعلّمينَ من جنسِ البشر ذاتِهم من خلالِ قراءةِ هذا الكتابِ أو ذاكَ، أو مخاطبةِ الأحياءِ للأمواتِ ومخاطبةِ الأموات للأحياءِ، أو مصادقةِ الأحياءِ ومعاداتِهم، وبالتّالي فإنّه من الصُّعوبةِ بمكانٍ أن يحدّدَ الإنسانُ مصادرَ علمِه وأماكنَ دراستِه: "أم ندركُ ما رسبَ في أعماقِنا من قراءةِ هذا الكتابِ أو ذاك؟ لَكَم نخاطبُ الأمواتَ ويخاطبُونَنا، ولَكَم نُصادقُ ونُعادي من الأحياءِ. أفبَعدَ هذا يقولُ قائلٌ إنَّ معلّميهِ فلانٌ وفلانٌ لا غيرُ، وإنَّ مدرستَه هي مدرسةُ كيْتَ وكيتَ؟".

ومن هنا يصلُ نعيمةُ إلى صحّةِ وجهةِ نظرِه في أنَّ الإنسانَ هو تلميذٌ لكلِّ ما في الكون، وأنّ كلّ ما في الكونِ هو مدرستُه الّتي تلقّنُه دروسَ العلمِ والمعرفة، وما عمرُ الإنسانِ إلّا رحلةٌ دراسيّة متواصلةٌ: "إنّما الكونُ بكلِّ ما فيه مدرسةُ الإنسانِ. وإنّما كلُّ ما في الكونِ معلِّمٌ للإنسان. وإنّما العمرُ من أوّلِه إلى آخرِه دراسةٌ متواصِلة".

وما جوعُ الإنسانِ إلّا حافزٌ أبديٌّ للدّرسِ والاستِطلاع. فماذا يتعلَّمُ الإنسانُ من معلّميهِ ومدرستِه الكونيَّة؟ هل يتعلّمُ الإنسانُ كيف يبذِّرُ ثرواتِ وخيراتِ الأرض كي يَحيا سعيداً، بينَما ينامُ جارُه على الطّوى مفترِشاً الأرضَ، وملتحِفاً ثيابَه الرّثّةَ البالية، أم يَسعى لامتلاكِ القصورِ والخدمِ والرُّتبِ الرّفيعةِ، والنّاسُ حولَه سجّدٌ أذلّاءُ يمجّدُونه ويستعطِفونَه، فيظلُّ الإنسانُ نهْباً للجوعِ والعطش، وحينئذٍ يكونُ من الخاسرينَ: "فماذا عسى النّاسَ يبتغُون من مدرستِهم ومعلّمِيهم؟ أيبتغُونَ شهاداتٍ تُخوّلهم تبذيرَ خيراتِ الأرض كمَا يشاؤون، بيْنا جارُهم ينام على الطّوى، ويفترشُ التّرابَ ويلتحفُ الأسمالَ؟ أم يبتغُون أن تكونَ لهم القصورُ والخدمُ والرّتبُ الرّفيعة والألقابُ الطّنّانة، وأن يسجدَ لهم أذلّاءُ النّفوس، ويمجّدَهم صغارُ القلوب، ويستعطِفَهم سُخفَاءُ العقول؛ وأن يبقَوا، مع ذلك، نهباً لأخسِّ أصنافِ الجوع والعطش؟ إنّهم لا شكَّ خاسِرون".

ولو أنّ الإنسانَ أحسنَ تعلُّمَه، وفهِمَ غايةَ الدَّرسِ من معلِّميهِ في هذا الكون، لأدركَ أنَّ تلكَ الدّراسةَ وإن ابتدأَتْ بالجوعِ إلى الخبزِ، والعطشِ إلى الماء، ثمَّ تدرّجَتْ بهم إلى كلِّ أصنافِ الجوعِ والعطش، فغايتُها الوصولُ بهم إلى الطّعامِ الّذي إن شبِعُوا منه مرّةً لبِثُوا شِباعاً إلى الأبد، وإلى الشَّرابِ الّذي إن ارتَوَوا منه مرّةً ما عطِشُوا من بعدِها إلى الأبد؛ وما ذاكَ الطّعامُ وما ذاكَ الشّرابُ إلّا طعامُ وشرابُ المعرفةِ، معرفةِ الله، فلو أنّ البشرَ عرفُوا اللهَ حقَّ معرفتِه لما اكتنزَ حيتانُهم خيراتِ الأرضِ وبدَّدُوها حسْبَ شهواتِهم وملذَّاتهم، بينَما لا يجدُ جيرانُهم كِسرةَ خبزٍ أو كِسوةَ عُريٍ أو لحافاً يقيهم آلامَ الحرِّ ووخزاتِ القرِّ أو منزلاً يأويهم من ملمَّاتِ الطّبيعة!

فليس الكونُ إلّا مدرسةً يتعلّم فيها الإنسانُ، وما أعمارُ النّاس الّتي يطوُونها بين المهدِ واللّحد غيرَ صفوفٍ فيها، وليس ثمّةَ حافزٌ للدّرس غيرَ الجوع. وأمّا غايةُ الإنسان من هذا الدَّرس فهي أنْ يتعلّمَ كيف يُضيفُ ويُضافُ، وكيف يُعلِّمُ ويتعلَّم، وكيف يَخلُصُ من الجوع الّذي لا يشبعُ إلى الشَّبعِ الّذي لا يَجوع.

ومن واجبِ الإنسان إذْ هو ضيفٌ على الكون أنْ يتقيَّدَ بآدابِ الضّيافة، فلا يأكلُ من مائدة الحياةِ إلّا ما يسدُّ حاجتَه من الجوع، ولا يُتلِفُ ما يفيضُ عن حاجتِه، ولا يسرقُ ولا يكنزُ ولا يسابقُ الآخرينَ إلى الطَّعام الأشْهى والشَّرابِ الأَمْرأ، ولا يُنازعُ مَن سواهُ على هذا الصِّنفِ أو ذاك.

ومن واجبِ الإنسان إذْ هو مُضيفٌ لغيرِه أن يُحسنَ الضّيافةَ. فيبذلُ لضيوفِه بسخاءٍ من أجودِ ما عندَه. ولا يتبجَّحُ، ولا يَمنُّ، ولا يدسُّ السُّمَّ في الدَّسم، ولا يُقدّم للواحد أفضلَ ممّا للآخرِ أو أقلَّ منه.

وبذلكَ تتحقَّقُ العدالةُ الإنسانيَّة، فلا مُتْخمٌ يستبدُّ بمعظمِ خيراتِ الأرض، ولا محرومٌ من أدنى فضلاتِها، ولا ضيفٌ يكنزُ ما طابَ له من ثرواتِ الدّنيا ليحرمَ غيرَه من ضيوفِها أدنى مقوّماتِ الحياة، ولا مُضيفٌ يحبسُ أنفاسَ الحياةِ في مِنخريهِ، ولا يجودُ على غيرِه إلّا ببضعةِ ذرّاتِ أوكسجين مفترِشاً سجّادةَ كِسرى في زخارفِها من أجلِ العبادة، ناشراً لحيتَه كسحابةٍ صيفيّةٍ لا تُمطرُ إلّا رعوداً برّاقةً خدّاعة.. ولا مُضيفٌ يرتدي ملابسَ المدنيّةِ الحديثةِ وثيابُه لا تسعُ جسدَه المتْخمَ المبْطَر بالنّعمِ، ويداهُ مغلولتانِ إلى عنقِه، ويدا أبي لهبٍ أنْقى وأشرفُ من يديهِ!

وما دام الإنسانُ تلميذاً فلا يليقُ به أن يستخِفَّ بمعلّمِيهِ سواءٌ أكان معلِّمُه رُتَيلاءَ أم كوكباً في الفضاءِ. وإذ يكونُ الإنسانُ معلِّماً، فيجدرُ به أنْ يصرِفَ من عنايتِه ومحبَّتِه للتّلميذِ الفقير والبليدِ نظيرَ ما يصرِفُه للغنيِّ والنَّبيهِ. سواءٌ أكان تلميذُه حمَّالاً في السُّوق أم عظيماً من عظماءِ الأمّة أو كِبارِ القوم.

ويختتِمُ نعيمةُ فلسفتَه الّتي يُؤمِن بها ويَسعى إلى نشرِها؛ كي تتحقَّقَ العدالةُ، ويعمَّ الخيرُ جميعَ أصنافِ البشريّة، فيتخلَّصُ الإنسانُ من عبوديَّتِه للطّعامِ والشّراب، فيَغْدو معلِّماً مُخلِصاً وتلميذاً مثاليّاً في آنِ معاً، ويصبحُ الإنسانُ ضيفاً محترماً ومُضيفاً كريماً، وينتهي الإنسانُ من جوعِه للطّعامِ وعطشِه للشّراب إلى ما هو أسْمى وأقدسُ، وهو الجوعُ إلى خبزِ المعرفةِ - معرفةِ الله، وبذلكَ تتحقّقُ العدالةُ، وتُولدُ الحرّيّةُ من رحمِ العبوديّةِ: "ذلك هو العدلُ الّذي نبْتَغيه من الغيرِ، والّذي يبتغِيهِ الغيرُ منّا. ثمّ ذلك هو الطّريقُ المؤدّي بنا من المجاعاتِ الّتي لا نهايةَ لها إلى الجوعِ الأعظمِ والأخير - الجوعِ المقدَّس إلى خبزِ المعرفةِ الكاملة - معرفةِ الله".

أمّا أنا فأختُمُ مقالي بالقولِ متجاوزاً صراعَ ذاتي معي: إنّ الخيالَ أجملُ وأنْقى من الواقعِ المثاليّ المُحالِ، وفلسفةُ الفكرِ غيرُ عقدِ ووحولِ الحياة، ومثاليّةُ جمهوريّةِ أفلاطونَ غيرُ إمبراطوريّات الدّمارِ والقتلِ والسّلب والسّبِي والاحتلالِ، وقارونُ اليومَ غيرُ قارونِ الأمسِ، وأبو لهبٍ اليومَ غيرُ أبي لهبٍ المنصرمِ، وأبو جهلٍ في المستعربينَ اليومَ غيرُ أبي جهلٍ العربيّ منذُ قرونٍ، وقصصُ موسى وفرعونَ هذا العصرِ غيرُ قصصِ موسى وفرعونَ في زمنِ الفراعنةِ، وبخلاءُ هذا العصرِ غيرُ بخلاءِ أبي عمرٍو الجاحظِ العبّاسيِّ، وحاتمُ القُصورِ والمجونِ والقاتِ والبَخُور اليومَ غيرُ حاتمٍ الطّائيّ في خيمتِه زمنَ الخيولِ العربيّةِ الأصيلةِ.. وأبالسةُ اليومِ طُلَقاءُ غيرُ أبالسةِ اللّاهوتِ الّذينَ أسرَتْهم الذَّاكرةُ الجمعيَّةُ في زنزاناتِ الفِكرِ وأهلكَتْهم بالرّجم، وضيوفُ اليومِ ومضيفُوهُ غيرُ ضيوفِ ومُضيفي الزّمنِ الغابِر، فقد تطوَّرتْ أساليبُ الضّيافةِ، وبُرمِجَت طرقُ المضيفينَ بأحدثِ أنواعِ التّكنولوجيا وأخبثِ أشراكِ التِّقْنيةِ المتطوّرة.. ولكنْ يظلُّ الأملُ مصدرَ إلهامِنا، فإنْ لم نستطِعِ التَّغييرَ بأيديْنا وأفعالِنا، فليس على اللِّسانِ من حرج.. واللهُ المستعانُ ومن عندهِ الفرج!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى