الثلاثاء ١٢ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦
بقلم محمد سعيد الريحاني

ناس الغيوان:

المجموعة الموسيقية الوحيدة في العالم المفتوحة على الزمن

كان لنهضة مصر دور إيجابي بوأها مكانة الريادة عربيا على كافة المستويات بما فيها المستوى الفني. لكن هذه الريادة تحولت إلى سلطة قزمت الفنون المحلية على الخارطة العربية فبدأت المقاومة الفنية تتوالد في هنا البلد وذاك. هكذا، بدأت تتشكل في أواخر الستينيات من القرن الماضي أولى البوادر التجريبية في الساحة الفنية المغربية. كانت أهمها:

*ناس الغيوان: البحث عن إيقاعات أكثر حرية وأكثر صدقا. فكانت أغلب نصوصهم اكناوية تستلهم الفن الكناوي المغربي القائم على الجذبة.

*جيل جيلالة: البحث عن إيقاعات مغربية تجسد شعار رفض الواقع الفني السائد والتوق لآفاق جديدة، فكان اختيار فن الملحون الذي كان في زمن سابق من القرون الماضية يخوض حربا حقيقية على فن آخر اعتبر في حينه سلطة فنية مهيمنة وهو فن الطرب الأندلسي.

*تاكدة: واستلهمت تقليدا فنيا مغربيا مختلفا أبعد ما يكون عن الجذبة وأقرب إلى الفرجة والمسرح هو فن اعبيدات الرما.

*عبد الصادق شقارة: مهمته التاريخية كانت المصالحة بين الفن الأندلسي الراقي والفن الشعبي المغربي، وهي المصالحة التي كانت ملهمة المبدعين في ربوع العالم في الستينيات من القرن الماضي فأبدعت السمفو- جاز والروك اند رول والهيب هوب بعد ذلك...

*شباب "الراي" أو فن المهمشين والبحث عن شكل فني جديد في واقع يائس سواء في أرض الوطن أو في المهجر . وهو ما جعل المتتبعين يسمون الراي "بلوز المغرب العربي". فقد عبر شباب الراي الجسر من جهة اختيار الإسم الفني الذي يبتدئ ب"الشاب" متبوعا بالاسم الفردي للمغني قلبا للتقليد الفني الذي كان يخول سابقا للمغني لقب "الشيخ" متبوعا باسمه العائلي قبل أن يغني "الحكم والمواعظ": الشيخ العنقا...

*مرتجلو الهيب هوب أو الراب ومهمة فتح النقاش حول القضايا الاجتماعية والسياسية والوجودية داخل النص الغنائي بدون آداب أو كياسة...

ظهرت مجموعة ناس الغيوان كرد فعل مزدوج يتقصد أولا إعادة الاعتبار للأغنية الشعبية بمقاماتها وأغراضها وأدواتها الموسيقية. ويتغيا ثانيا مقاومة المد الخانق لهيمنة الأغنية التجارية والإيقاعات الجغرافية في الفن العربي عموما. وقد استطاعت المجموعة أن تؤسس لنفسها مكانة متميزة ليست فقط على الصعيد العربي بل على الصعيد الإنساني. وهي المكانة التي لم تتحقق بالإيقاع والكلمة بل بالفلسفة الغنائية التي يفتقر إليها التقليد الغنائي في الثقافة العربية. فمجموعة ناس الغيوان تبقى هي المجموعة الغنائية الوحيدة في التاريخ الإنساني التي بقيت أشرعتها مفتوحة على الزمن وعلى غير أعضائها المؤسسين والرواد. فقد تفرقت مجموعة البينك فلويد البريطانية (The Pink Floyd) مرارا بسبب الخلافات الداخلية بين الأعضاء تمت في الستينيات بإبعاد المؤسس (Syd Barrett) واستبداله بعازف القيتارة ديفيد غيلمر (David Gilmour) ثم تبعه الاستغناء في الثمانينيات عن المؤسس الثاني رودجر ووترز (Roger Waters) ثم كان إعلان "حل" المجموعة نهائيا سنة 2005 .

وبالمثل، اعتزلت مجموعة الأبواب الأمريكية الأسطورية (The Doors) الغناء مباشرة بعد انتحار قائدها ومنظرها جيم موريسون في الثالث من يوليوز سنة 1971 في حداد أبدي على موت صديق لا يشبه الأصدقاء.

كما تشتتت مجموعة الخنافس (The Beatles) البريطانية بعد 1967 سنة وفاة المنتج براين إبشتاين (Brian Epstein) الرجل الذي سهر منذ بداية المجموعة على إصلاح ذات البين بين أعضاء المجموعة والحفاظ عليها. لكن الانفصال النهائي كان بعد صدور الألبوم الأخير للمجموعة المعنون (Let It Be) سنة 1970 السنة التي بعدها اندفع كل عضو للاستفادة الفردية من اسم الخنافس ونجاح الخنافس وشعبية الخنافس بتجريب مشاوير غنائية فردية (Solo) بأسماء فردية كدجون لينن (John Lenon) أو رينغو ستار (Ringo Starr) أو جورج هاريسن (George Harrison) أو بول ماكارتني (Paul McCartney).

مجموعة الرحل الاستثنائيون (Supertramp) كانت معاناتها مختلفة. فمند تأسيسها سنة 1969 جمعت الفرقة أربعة أعضاء هم ريتشارد بالمر Richard Palmer وروبرت ميلر Robert Millar وريك ديفيز Rick Davies ورودجر هوغسن Roger Hodgson. الفرقة عرفت دخول وخروج ستة عشر عضوا مند 1969 حتى اليوم لكن التنافس الذي بدأ خفيا في البداية وانتهى بعد عشرين عاما علنيا في سنة 1988 لم يشمل غير القطبين المؤسسين ريك ديفيز Rick Davies ورودجر هوغسن Roger Hodgson. فكل من الرجلين مغن وعازف قيتارة وعازف على البيان ولدلك فقد انتهى بهما الحل إلى "عقد سري" يقضي "بتناوبهما داخل السهرة الواحدة أمام نفس الجمهور على نفس الآلة والتعاقب على الغناء". وإن كان هدا "التعاقد" دام عشرين عاما فإنه انتهى أخيرا عام 1988 لينصرف رودجر هوغسن Roger Hodgson لمشوار منفرد (Solo Career) بينما أحيا ريك ديفيز Rick Davies المجموعة عام 1997 لكن دون النجم رودجر هوغسن Roger Hodgson صانع شهرة الرحل الاستثنائيين (Supertramp).

أما مجموعة "الصخور المتدحرجة" (The Rollin’ Stones) فقد اختطت نهجا مختلفا اتجاه قبول عضوية أفراد جدد إذ حافظت على أعضائها الستة منذ 1963 ولم تسمح بدخول أي قادم جديدعليها فقد بقي الأعضاء المؤسسون في بداية الستينيات من القرن الماضي هم نفسهم أعضاء الفرقة في العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين: المغني ميك دجاغر(Mick Jagger) وعازفا القيتارة براين دجونس(Brian Jones) وكيث ريتشارلز(Keith Richards) وعازف البيان آين ستيوورت(Ian Stewart) وعازف الباص بيل ويمن (Bill Wyman)وضابط الإيقاع تشارلي ووتس (Charlie Watts) وهم لازالوا الآن في سن الستين من العمر أوفياء لبعضهم البعض ولنصوصهم ولإيقاعهم وفلسفتهم في العزف والغناء التي عرفوا بها في بداية الستينيات من القرن الماضي عندما كانوا في سن العشرين من العمر...

لم تشبه مجموعة ناس الغيوان المغربية مسارات الفرق الغنائية السالفة الذكر رغم تقاطعها معها في فلسفتها الغنائية (Pop Music) . فقد واصلت مشوارها رغم موت قائدها الأول بوجميع سنة 1974 ورغم المنفى (بعد ألبومها "مهمومة" أوائل الثمانينيات) ورغم موت ربانها الثاني العربي باطمة سنة 1997. فقد تأسست المجموعة سنة 1970 بأربعة أعضاء هم بوجميع والعربي باطمة وعمر السيد وعلال يعلى. لكنها فتحت ذراعيها سنة 1971 لعضوين آخرين هما عازف الكنبري مولاي عبد العزيز الطاهري وعازف العود محمود السعدي اللذان غادرا المجموعة، بعد وفاة بوجميع، لقادم جديد هو المعلم الكناوي عازف الكنبري المعروف عبد الرحمان باكو سنة 1974 الذي سيغادر المجموعة بدوره سنة 1993 ليحل محله عازف الكنبري الشاب رضوان عريف إلى حدود سنة 2000 وهي السنة التي عرفت دخول أخوي الراحل العربي باطمة إلى المجموعة وهما ضابط الإيقاع رشيد باطمة وعازف الكنبري حميد باطمة ولا زال الباب مشرعا في وجه الزمن ما دامت "ناس الغيوان" فلسفة في الغناء وليست ضيعة موسيقية في أيدي أربابها... فكما يدل اسمها، ف"ناس الغيوان" تعني "أهل الغناء وعشاق السلم" على حد قول أحد روادها، عمر السيد. أي أن المجموعة هي "إطار فني مفتوح في وجه كل عشاق الغناء والسلم".

ولعل الضامن الأهم للفلسفة "الغيوانية" النبيلة هو "التعددية" التي تميز هذه المجموعة الغنائية عن نظيراتها من مجايليها داخليا وخارجيا. فقد كانت المجموعة جسرا تعبر من خلاله مفاهيم التعددية والاختلاف إلى الجمهور. فبالإضافة إلى "التعددية الإيقاعية" التي نهجتها المجموعة بحثا عن تعبير أصدق يوحد الشكل بالمضمون، و"التعددية الغرضية" التي راوحت بين الرثاء والوصف والحكم والغزل والتصوف ومدح النبي... فثمة "تعددية وجودية" غدت هذه الفلسفة الغيوانية ورعتها لم تكن في الأصل غير "التعددية الإثنية" لأفراد المجموعة. فقد كان بوجميع صحراويا، وعلال يعلى وعمر السيد أمازيغيان، وعبد الرحمان باكو صويريا والعربي باطمة من قبائل الشاوية...

المجموعة الموسيقية الوحيدة في العالم المفتوحة على الزمن

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى