الأحد ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٥
بقلم أحمد الخميسي

نجم .. من الذاكرة

(1)

لسبب ما ، أراني أحيانا جالسا وحدي أفتش عن صور أصدقائي ، كأني أفتش عن سنوات من عمري . بعضهم أجده ، بعضهم أفتقده ولا أرى له صورة معي . وأتأسف الآن كثيرا لأنه ليس لدي صورة مشتركة مع الراحل أمل دنقل ، أو يحيي الطاهر عبد الله ، وكانت تصلني بهما صداقة وثيقة امتدت لزمن . وحين أبحث في " ركن الصور " أرى خالتي وأولادها في رأس البر على الشاطئ منذ ثلاثين عاما ، وأرى صور بعض من كانوا يدرسون معي ، ولكن! ي لا أعثر على صورة واحدة مشتركة مع أحمد فؤاد نجم ، شاعر الشعب المصري ، مع أن معرفتي به بدأت عام 1965 ، جمعني به عمل ، ثم فترة من القلق العجيب الذي مرت به مصر بعد النكسة ، ثم سجن القناطر . المرة الأخيرة التي التقيت فيها بنجم كانت في مظاهرة في ميدان طلعت حرب وسط القاهرة ، أواخر يوليو هذا العام ، وهي أول مظاهرة تنظمها حركة " أدباء وفنانون من أجل التغيير " التي كان نجم أحد مؤسسيها ، والداعين إليها مع بهاء طاهر وآخرين . أقبل على نجم من طرف الميدان بجلبابه! ، وضحكته ، وبجواره ابنته الصغيرة التي سألته عنها ذات مرة فقال لي : هذه مكافأة نهاية الخدمة !

لسبب ما ، تذكرت في زحمة المظاهرة ، أنه ما من صورة عندي لنجم . فأخذت أراجع صوره داخل نفسي.

(2)

عام 1964 ، وربما 65 ، تركت العمل في مجلة الإذاعة والتلفزيون من شدة الملل العالق في أوراقها وغرفها إلي منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي وكان مقرها فيلا في المنيل تطل على النيل . في اليوم الأول دلوني على الغرفة التي سأجلس فيها ، وكانت تقع في الطابق الأخير تحت الشمس مباشرة ولها نافذة تطل على السطح . وكان بالغرفة الضيقة ثلاثة مكاتب ، واحد لي ، والثاني لأمل دنقل ، والثالث لأحمد فؤاد نجم ، ولم أكن أعرفه بعد . كان أمل جالسا غاضبا من العالم ونظام الحكم وقلة الفلوس وكثرة القصائد ، وضخامة أحلامه، وشعوره الحاد بكرامته. أحمد نجم ظهر فجأة ، ليس عند باب الغرفة كما توقعت ، ولكن حين قفز من السطح عبر النافذة إلي داخل الغرفة ! وفرد أمل دنقل ذراعه قائلا لي : أحمد نجم ! في تلك السنة على الأقل لم يكن أحد يعرف اسم لا نجم ، ولا أمل دنقل سوى قلة قليلة ممن يكتبون . وكان أمامي طيلة الوقت نمطان مختلفان تماما لشاعرين ! مهمومين تماما بالدرجة نفسها بقضايا الوطن ، لكن كل بطريقته . كان نجم كثير الغياب ، أما أنا وأمل دنقل فقد احترفنا الذهاب مبكرا في موعد العمل ، والتوقيع ، ثم الخروج إلي مقهى في شارع جانبي لنتسلى بلعب الطاولة ، أو أجلس أنا أتصفح الجرائد ، بينما يزوم أمل وهو يسجل أبياتا من قصيدة بقلم رصاص ، إلي أن يحين موعد التوقيع في دفتر الانصراف . فننهض لنوقع وننصرف ! . وكانت الشكاوي من غيابنا نحن الثلاثة تنهال على يوسف السباعي رئيس المنظمة حينذاك ، فجمعنا ذات يوم أنا ونجم ودنقل ، وأغلق باب حجرته الكبيرة ، وأقسم أنه سيرسل إلي كل منا راتبه الشهري حتى باب البيت ، شرط ألا نريه وجوهنا الكريمة مرة أخرى ! وسأله أمل بكبرياء : وما الذي حدث ؟ . فكاد السباعي أن يجن صارخا : ماذا حدث ؟ لا شئ ، سوى أنكم ستفسدون على كل عمل المنظمة ، لأن الجميع يتساءلون : لماذا يغيب أولئك الثلاثة كما يحلو لهم ؟ هل هم أفضل منا ؟ . وحينذاك تقدم أحمد نجم إلي مكتب السباعي وقال له : لكن ماذا ستفعل إذا تمسكنا بأداء واجبنا والحضور للعمل ؟ قال السباعي : سأفصلك من العمل يا نجم وأستريح منك نهائيا . وتجهم وجه نجم كأنه يفكر في موضوع خطير وقال ! له : لكن هذه ستكون المرة الثالثة التي تفصلني فيها، وسوف يلزمنا بعد ذلك – لكي أعود إليك مجددا – محلل ! ولم نستطع أن نمسك أنفسنا عن الضحك ، ونحن نرى وجه السباعي مبتسما مغتاظا .

(3)

خلال تلك الفترة تعرفت بنجم ، وأخذت أتردد على بيت " حوش آدم " الشهير ، وكانت النكسة قد وقعت وقصمت ظهر ذلك الجيل بأكمله ، ولم تكن هناك لا أحزاب معارضة ، ولا أحزاب سرية ، ولا يحزنون . مجرد فراغ يسبح فيه القلق على مصر، ومراجعة باطنية لأسباب النكسة ، وتعلق بعبد الناصر ، ومرارة نحوه . كان نجم حينذاك يرتدي مثل كل خلق الله قميصا وسروالا ، ولم يكن قد وقع في عشق الجلابية التي يرتديها الآن ، وكان يكتب القصائد كأنما في الحلم ، إذ كان يقضي أغلب وقته بين أصدقائه ، أو في شققهم ، أو في الشوارع . متى كان يكتب ؟ لا أدري ، ومتى عكف على كل تلك القصائد التي شكلت الرفض في وجدان ذلك الجيل؟ لا أحد يعرف . وحين برزت ظاهرة " الشاعر المغني – نجم ، والشيخ إمام " شغلت مصر كلها ، ليس فقط لأن شيئا عبقريا اتضح في تلك الحالة ، ولكن لأن تلك الظاهرة كانت الحزب السياسي الوحيد بعد النكسة ولسنوات طويلة أخرى . وكنا جميعا ، كلما حدث شئ ، أو وقع تغير سياسي ، نسأل : وماذا كتب نجم ؟ . ونسرع إلي " حوش آدم " حيث نتلقى المنشور الفني الجديد ، فنحفظه ، ونوزعه ، ونردده . وقد حاولت الحكومة حينذاك أن تشتري تلك الظاهرة بوساطة بعض المثقفين ، وسعت لجر قدم أحمد نجم والشيخ إمام إلي الإذاعة والصحف ، لكن نجم أعطى كل ذلك ظهره ، وظل يسير نحو الناس . وشهدت القاهرة مظاهرات طلابية داخل الجامعات ، لا أذكر متى بالضبط ، وكان نجم عندنا في شقتنا بشارع عدلي ، قلنا له : يا نجم اكتب شئ للطلبة . قال : طبعا ، وظل سادرا في مزاحه ونكاته مع الجميع . فاستدرجناه إلي إحدى الغرف ، وما أن دخل هناك حتى أغلقنا الباب عليه بالمفتاح ، وقلنا له : لن تخرج إلا ومعك قصيدة للطلاب . وكنا قد تركنا له في الغرفة شايا وطعاما . وظل نجم يصرخ ، ويسب ، ولكننا لم نفتح الباب إلا حين قرأ لنا من وراء الباب قصيدته الشهيرة الجميلة " رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني " . واعتبرنا ح! ينذاك أننا كتبنا تلك القصيدة ، حين اعتقلنا نجم ، اعتقالا أهليا لصالح الشعب والثورة !

(4)

عام 1969 ، انتقلت من معتقل طرة إلي سجن القناطر . وهناك وجدت أحمد نجم والشيخ إمام . وكان معنا أيضا زميل يدعى فرانسيس كرولوس ، وفلاح طيب يدعى أحمد سويلم ، كان كلما ثار نقاش حول الأدب والفن ، يستوقفنا بنظرة ماكرة ، مبتسما قائلا بزهو : " لكن يا زملاء ، مهما كان ، الأدب للشعب ، ولا إيه؟" ثم يدير عينيه بيننا ليرى وقع كلماته المدهشة . سجن القناطر كان يتبع نظاما قاسيا ، لا زيارات ، ولا صحف ، ولا طوابير فسحة . فقط نصف ساعة يوميا من الخامسة إلي الخامسة والنصف عصرا تمشية سريعة حول الزنازين ، وانتهى الأمر . ولما ضقنا بهذه الحال ، فكرنا في إضراب عن الطعام لنحصل على حقنا في زيارات ، وصحف . وقلت لنجم : ما رأيك ؟ صاح نجم بحماسه لكل شئ : " طبعا يا أحمد ، دول ح يموتونا هنا أولاد الكلب، وصدقني ، ما حدش ح يحس بينا " . أقول : " يعني موافق يا! نجم على إضراب عن الطعام ، يوم الثلاثاء بعد عشرة أيام؟ " يقول لي : " الله ! أنت غبي يا جدع ؟ طبعا موافق ، ما فيش حل تاني مع أولاد الجزمة دول " . ماشي . اتفقنا جميعا ، وقبل الإضراب بيوم قال لي فرانسيس كرولوس : " والنبي يا أحمد أكد على نجم موعد الإضراب غدا " . في طابور التمشية ذكرت نجم بأننا غدا سندخل الإضراب ، فإذا به يضع يديه في خاصرته ويصرخ : " إضراب إيه يا أولاد الكلب ؟ عاوزين تموتوني ؟ ده عندي قرحة في معدتي ولو ما أكلتش نص ساعة أموت ؟ أنتو خلاص ما عندكوش ضمير ؟ " ! . هكذا انتهى مشروعنا الثوري الكبير ، وظللنا داخل السجن من دون زيارات ، ولا طعام منزلي ، ولا صحف ، إلي أن فوجئنا ذات يوم بشخص شديد الأناقة ، والوجاهة ، والكبرياء يدخل منطقة الزنازين ، كأنه متجه إلي فندق هيلتون . وحين سألنا الشاويشية ، قالوا همسا : " ده اللواء صفوت بيه ، لواء طيار ، جابوه في الرجلين " . الرجل الذي دخل بكل هذه الوجاهة ، صعقنا جميعا حين سمعنا صوت بكاءه من داخل زنزانته وهو يقول : " ده كلام ؟ أنا صفوت تبهدلوني كده ؟ " . وفيما بعد اتضح أنه سجن لمجرد أنه كان قريبا ل! شخص آخر . كان نجم يقرأ في الليل داخل زنزانته ، وأنا أيضا ، أقرأ مسترشدا بعبارة سويلم " الأدب للشعب " ، أما اللواء صفوت فكانت " الكلمات المتقاطعة " هي حرفته الأولى والأخيرة ، لا يعرف سواها في الحياة . لكن من أين له بالصحف التي تحتوي على الكلمات المتقاطعة ؟ . وكان اللواء يثير إشفاقنا الطيب عليه ، بصيحته المتعجبة المتألمة ليلا في وحدته : " ده أنا صفوت ؟ ! تعملوا فيه كده ؟ " .

ذات يوم قال اللواء صفوت لنجم أثناء التمشية : اكتب لي كلمات متقاطعة . وأخرج نجم ورقة وقلما وكتب بالفعل ، وأعطى الورقة لسيادة اللواء . وكانت زنزانتي تقع بين زنزانة نجم واللواء صفوت . في الليل أخذ اللواء يطرق جدار زنزانتي ، وهو يصيح بي : " من فضلك اسأل نجم ، ثلاثة أفقي ، اسم مطرب عربي من أربعة حروف : حليم ، ولا فريد ؟" رحت بدوري أطرق جدار زنزانة نجم : " يا نجم ، اللواء يسألك ، اسم مطرب عربي من أربعة حروف ، حليم ، ولا فريد ؟ " . فوجئت بصوت نجم مستثارا مغتاظا من خلف الجدار : " الله .. ده ابن .. أنا أكتب له الكلمات المتقاطعة بالنهار ، وأحلها له بالليل ؟ .. قل له .. كذا ! " . بالطبع لم أستطع أن أقول لسيادة اللواء كلمة " كذا " ، وظللت ألح على نجم بصيحاتي إلي أن اعترف لي أن المطرب هو فريد !

(5)

كان أحمد نجم على مدى أكثر من ثلاثين عاما ضميرا للشعب المصري ، ولهمومه، وعاني في سبيل ذلك من المعتقلات ، والتشريد ، والمطاردة ، والتجويع ، كما عاني من كل ذلك عبد الله النديم ، وبيرم التونسي ، وآخرون ، وارتطم نجم بمغريات كثيرة جدا ، والمغريات أشد وطأة من السجن ، وكان يمكن لكل أبواب الثراء والشهرة التي فتحت أمام نجم أن تشتريه ، وأن تحطمه , وأن تحوله لشاعر مناسبات الحكومة والوزراء ، لكن نجم بقى ، ليكون شاعر الشعب المصري عن حق على امتداد نحو نصف القرن . هذه هي صورة أحمد فؤاد نجم عندي : شاعر كبير يستحق الاحترام والتقدير والحب ، وإنسان له قلب طفل ، لم يترك الزمن أية تجعيدة على قلبه ، لأن أحلام الناس ظلت النبع الذي يلهمه التجدد ، والمقاومة ، والشعر .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى