الأحد ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٧
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

نساء وولد

اليأس تملّكه والقنوط تولاه، وأغضبته أقاويل البشر. أحسّ أن الدنيا تطارده.عيون النساء تلاحقه. وأفواههن الكبيرة تقذف نحوه حممًا بركانية ساخنة. وأدرك تمام الإدراك أنه أصبح يتصدر نشرات الأخبار المحلية.. هؤلاء أُناس إذا قالوا لا يرحمون.. وإذا سخروا لا يأبهون. وأحيانًا إذا تهامسوا لا يُسمعون: باختصار شديد ، إنه "رجل عاقر"، إنه لا ينجب!!.. حثّ زوجته على أن "تزرع" تحاشيًا لأقوالهم، وتفاديًا للمشاكل.. ربما! بل لعل وعسى إذا مَنَّ الله عليه بطفل؛ فإن أفواههم جميعًا قد تخرس إلى الأبد.. ولكن محاولات "الزرع" المتكررة لم تنجح.. والتحاليل المخبرية تشير إلى تراجع نسبة إخصاب الرجل وخصوصًا بعد أن تجاوز الأربعين. اسودّت الدنيا في عينيه وسُدّت جميع الطرق في وجهه وراح يندب حظه البائس وبخته المنحوس وشريكته تستعطفه وتقول له: ماذا يمكن أن نفعل يا "جواد"؟ ألم نجرب كافة الوسائل والسبل المتاحة لنا؟ ما رأيك أن نسافر إلى خارج البلاد للنقاهة والراحة...

عاد من رحلته التي استمرت شهرا كاملا وكاد أن ينسى خلالها همومه وأحزانه. لكن ظل يعاتب نفسه الفاشلة ثم يواسيها بالدعاء .. تذكّر أثناء عودته في الطائرة صديقه الدكتور "ديفيد" الألماني الأصل الذي تعرّف عليه في الجامعة حين قال له: يا سيد "جواد"! إن الإنسان المتحضر اليوم هو الذي لا ينجب، وإذا ما قرر الإنجاب فإنه لا ينجب إلا ولدًا واحدةً. وإنه متعجب من ذلك الذي يهلك نفسه، ويقضي على جزء كبير من حياته لأجل أولاد قد يسلبون منه متعة الحياة ولذتها.. أليس هذا بظلم للنفس وللحياة؟ ألا يحق للإنسان أن يستمتع بحياته فيأكل ويشرب ويلبس ويتجول في أنحاء الدنيا؟ عليكم أن تشذّبوا من عقولكم الأغصان اليابسة! وتذكّر أنه أجابه أن المال والأولاد زينة الحياة الدنيا، إذا نقص أحدهما ظل الإنسان طوال حياته أعرجًا.

ظل يردد لزوجته الكلام الذي لا تطيق سماعه: "دعيني أجرّب حظّي! أريد طفلا من صُلبي! يحمل اسمي! ربما أنجب.. ومن يدري! أريد الزواج من أيٍ كانت.. سوداء! خرساء! عرجاء! بكماء! عمياء! وأنت التي تختارينها!" وكلما سمعت هذا الكلام جُنَّ جنونها وتغيّر مزاجها وعاتبته بلهجة شديدة وأعرضت عنه أسبوعًا كاملا.

ها هو ذا يعود من رحلته. إذ حمل لأمه الهدية التي اشتراها لها من أحد الأسواق في إستانبول، وكان من عادته أنه حالما يعود من سفره يعرج إلى بيت والدته ليطمئنَّ على صحتها فيما يقدم لها الهدية النفيسة التي يشتريها لها. ولكن زيارة والدته في هذه المرة اختلفت أكثر عن أية زيارة في أي وقت مضى.. إذ تناهى إلى مسامعه قول إحداهن وهي تحدّث جارتها، حين رأينه مقبلا، في صوت خافت: "مسكين يا حرام ما بخلّف ومربّي عنده أبن أخوه الصغير. جرَّب جميع الطرق وما نفع معه. والمثل يقول: "اللي مش من ظهرك مش ابنك".

نظر إلى يمينه فرآهن يجلسن ،كما عهدهن في كل عصرٍ، على مقعدين حجريين نُصبا في عتبة البيت وقد أسندن ظهورهن على الحائط، ثم ألقى عليهن التحية وسار في طريقه بعد أن شهق وزفر وهو يتمنى في قرارة نفسه لو أن الدنيا ابتلعته أو أن زلزالا يُحدث في هذه البقعة دمارًا، أو طوفانًا يغرق الناس جميعًا.. إن أشدّ ما حزّ في نفسه ما سمعه من تلك المرأة: "اللي مش من ظهرك مش ابنك".. ما هذا ؟ ألسـتُ بشرًا؟ لماذا يراقبوني؟ ألهذا الحد يلاحقونني ؟ لماذا لا يشذبون ألسنتهم؟ هل أصبحتُ مجرمًا؟ أَلِأَنّي لم أنجب، أصبحتُ في نظرهم كأني قاتل؟ يا ناس اتركوني وشأني! دعوني في حالي! يا أيتها الأَمَةُ الجاهلة عودي إلى بيتك واحفظي لسانكِ وصوني عرضك ولا تكوني من النمامين! كفّي عن فحيحكِ السّام! ويكفينا شرّك.

جلسْتُ وَحيدًا أُناجي إِلهي

وَأَشْكو إِلَيْهِ فُصولَ الْعَذابْ

كَأَنّي سَجيٌ أُكابِدُ لَيْلي

وَضِقْتُ بِقَوْمي وَفِكْرِ الشَّبابْ

فَكَيْفَ أَحِنُّ لِجارٍ سَخيفٍ

يَطِلُّ عَلَيَّ بِصَوْتِ الْغُرابْ

قدّم لأمه الهدية وجلس أمامها في تحدٍّ قائلا: "أماه!! إذا كان الطلاق حلالا، وإنْ هو أبغضه عند الله، فلا بدّ أن يقع اليوم دون تأخّر. أنا لست أول ولا آخر من يطلّق، ثم ليذهب كلٌ منا في طريقه. اذهبي الآن وأخبريها أنني لا يمكن أن أبقى معها دقيقة واحدة بعد الآن.. لقد استفحل عليَّ اليأسُ.. عليها أن ترحل حالا حالا إلى أهلها!!.."

 ما الذي جرى لكَ يا رجل؟

 أليس الإنسان حرًّأ؟؟ أنا حرٌّ وهذا شأني..

إنَّ أصوات الجيران لم يعد يطيق سماعها. ولا أي صوت يصدر من أطفال الحارة خاصة وهم يلعبون ويصيحون. وألقى نظرة ازدراء عليهم من نافذته وهمَّ أن يصرخ فيهم لكنه تذكّر أن ليس للأطفال ذنب فيما يعانيه ولم تطاوعه نفسه على إيذائهم.

والمثقف لا يحمل نوازع الشر. ألم يقرأ لجبران وموليير ولافونتين وشوقي؟ ألا يحترمه الآخرون لأنه من أوائل المثقفين في القرية؟ وأهاب به شعوره أن يجرب حظّه مع زوجة ثانية لا يعرفها ولا تعرفه. أليس له أصدقاء ومعارف في كل قرية ومدينة.

مضت على عودة "جواد" إلى القرية ستة أسابيع، وها هو ذا الآن يفارقها بصحبة امرأة عرفت حقيقته وآثَرت أن تعيش معه على أن تبقى خادمة لزوجة أبيها وأولاده. لم تكن صورة زوجته الأولى لتفارق ذهنه طوال الرحلة. واستعرض في مخيلته أيامه الجميلة التي قضاها برفقتها تحت ظلال الزيتون والتين والرمان. والأكلات الدسمة التي كانت تصنعها خصيصًا له. والكعكات اللذيذة التي صنعتها بيديها الماهرتين. مسكينة... صحيح أنه كان صمصامًا ولكن كسر الخواطر لا يحتمله أحد. ولا بد من تخصيص زيارة أسبوعية لها بعد العودة إلى البلاد. لأنه لا يمكن أن تُنسى عشرةُ أعوام بين عشية وضحاها. سأرسل لها رسالة عبر البريد الإلكتروني وليحدث ما يحدث...

قال لصديقه "عصام" وهو يقلب الأوراق المكدسة على مكتبه في الجامعة: "إن زرقة السماء وصفاء الماء وحرارة الجو كلها تبعث الهدوء والطمأنينة في النفس البشرية.هناك الماء والخضراء والوجه الحسن.. وهنا الغيبة والنميمة وسوء الحظ وكآبة المنظر. هناك شعوب تفكر وهنا شعوب تأكل.. لماذا نختلف عنهم كل هذا الاختلاف؟!

كانت محاضراته التي يلقيها أمام طلابه تـثير الجدل بينهم باستمرار. فإذا كان الطلاب العرب لا يستطيعون السكوت حال سماعهم آراء المستشرقين الجدد وهم يشنون هجماتهم العنيفة على العروبة والإسلام ومحاولات التشكيك المتكررة فيهما، فإن صدور كتاب جديد من أعرق الجامعات الأوروبية، يتهم الأديان جميعها بتقييد حرية البشر وعرقلة التفكير وتحديد المعرفة وظلم المرأة وصرف الأموال الطائلة على دور العبادة ورجال الدين، قد يثـير حفيظة الطلاب العرب واليهود في آن واحد. وانبرى كل فريق يدافع عن دينه بطريقته التي يعرفها ويغالط في النظريات الجديدة.

عندما شارف وقت المحاضرة على الانتهاء، سُمع رنين الهاتف ينبعث من داخل حقيبته.. أخرجه وقدم اعتذاره لهم وسارع في إقفاله وإرجاعه إلى مكانه.. لأنه طالما يأمرهم بإقفال هواتفهم منذ بدء الدرس، فإنه من الأجدر والأولى به أن لا يردّ على الهاتف دون أي عذر ومهما كان السبب.

خرج من قاعة المحاضرة في عجلةٍ مترددًا ما بين التوجه إلى المكتب أم إلى تناول طعام الغداء في مطعم الطاقم الأكاديمي في الجامعة.. ورائحة الطعام اللذيذة التي تفتح الشهية، جعلته يُؤْثِرُ الجلوس في المطعم. هذه جلسة وتلك جلسة. ولكن جلسات المطاعم مع الأصدقاء والخوض في أحاديث مختلفة، تنسيه هموم الحياة ومتاعب النفس.. ثم تذكّر رنين الهاتف في أثناء المحاضرة فبادر بالاتصال بأخته "زهرية" مقدمًا اعتذاره وموضحًا لها عدم مقدرته على فتح الهاتف أثناء المحاضرة.. وسألها عن سبب الاتصال به.

في هذه الأثناء تغيّر لون جوادٍ وقطب حاجبيه وارتفعت نبرات صوته وهو يقول بصوت فيه رجرجة وملفتًا للنظر وقد امتزجت فيه نغمات الفرح: "هل أنتِ متأكدة، يا "زهرية"؟ أنا لا أصدق! لا أصدق! امرأتي حامل! سآتيكم حالا!!

(كفر قاسم)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى