الاثنين ١١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٣
بقلم رامز محيي الدين علي

ومن الشّوقِ ما قتل

الحياةُ مفعمةٌ بالمفاجآت بشتّى ألوانِها ومختلفِ مذاقاتِها، منها ما هو لذيذٌ كشهدِ العسل، ومنها ما هو مرٌّ كطعمِ الحنظل.. منها ما هو من بناتِ الخيالِ والأحلام، ومنها ما هو وليدُ اللَّحظة لم يخطرْ ذاتَ ليلةٍ ببالِ الأنام.. منها ما هو سريعٌ خاطفٌ ليس لأثرِه متَّسعٌ من الإحساسِ باللّذّة أو الألم، ومنها ما هو ثقيلٌ ثِقلَ الجبال على النَّفس يُذيقُك طعمَ المرارة وأنت تبتسمُ ولا تملكُ من أمرِك شهقةَ الحرّيّةِ في مقاومةِ النِّقم!

كثيراً ما نهتمُّ بالأشياء التّافهةِ في حياتِنا ونُقيمُ الدُّنيا ولا نُقعِدُها حينما نبحثُ عن شيءٍ لا معنى لوجودِه قي قاموسِ المشاعرِ الحقيقيَّة النَّبيلة، ونُصابُ بالهمِّ والغمّ؛ لأنّنا لم نعثرْ عليه، أو لم نحقِّقْه في اللَّحظةِ الحاسمة، بينما ثمّةَ جواهرُ بين أيدينا نُبعثرُها تحت أقدامِنا كما نبعثرُ أوراقَ الخريف بين خُطانا دون أن نُباليَ بتلك الأوراق، وفي الأمسِ كنّا نموتُ شوقاً لرؤيتِها وهي تتفتَّحُ براعمَ، ونُجيلُ الطَّرفَ إليها بين فينةٍ وأخرى متى تتفتَّحُ أوراقُها وتزهرُ تُويجاتُها.. وهكذا الحياةُ دروسٌ وعِبر علينا ألّا نَغفلَ عن حقائقِها هُنيهةً من هنيهاتِ العمر!

ثمّةَ أصدقاءُ وخلّانٌ مثلَ أوراقِ الأشجار ومثلَ أزهارِ الرّبيع لا يُمكنُ للحياة أن تحلوَ دون أن نسعدَ بشهدِ كلماتِهم وبلسمِ أحاديثِهم، وثمّةَ أناسٌ طيّبونَ تتدفّقُ من أفواهِهم كلماتُ المحبَّةِ الصّافية مثلَما يتدفَّقُ ماءُ زمزمَ لريِّ الحجيج، لكنّنا لا نُدركُ قيمتَهم إلّا بعد فواتِ الأوان!

كم الحياةُ جميلةٌ لو أنّنا رويْنا غليلَنا حينَما تتدفّقُ ينابيعُ الحياة من بينِ أصابعِنا، وتفيضُ من بينِ شقوقِ نفوسِنا!
كم الحياةُ رائعةٌ لو أنّنا ملأْنا أنفاسَنا بأنغامِ الجمالِ والسَّعادةِ والمحبّة، والنّعمُ ترفرفُ بأجنحتِها فوق رؤوسِنا وبين راحاتِ أيديْنا!

كم الحياةُ بهيَّةٌ بطلعتِها حينَما تتأجَّجُ المشاعرُ فنهفُو إليها كما تهفُو النّحلةُ لأزهارِ الحقولِ فنغتنِمُ اللّقاءَ عشقاً ومحبّة لنرويَ النّفوسَ ونُغذّيَ الأوصالَ ونحييَ الأرواح!

كم الحياةُ حبيبةٌ وعشيقةٌ حينما ننظرُ إليها بعينِ الرّضا والجمالِ، ولو كانت الهمومُ سحُباً تُمطرُنا بقطراتِ اليأسِ والبؤسِ والشّقاء!

كم الحياةُ مدْرسةٌ تُلقّنُنا دروساً وحِكماً وعِبراً في كلِّ هنيهةٍ من هنيهاتِها وفي كلِّ سويعةٍ من سويعاتِها دون أن نصغيَ إليها أو نقلِّبَ صفحةً من صفحاتِها، وترانا صرعَى وسَكارى أمامَ قشورِها وترَّهاتِها!

كم الحياةُ أمٌّ رؤومٌ تحنُو علينا في أوقاتِ الشّدّة فتُغطّينا حينَما نَعرى، ولكنّنا نرفسُ حنانَها بأرجلِنا ونحن نرفلُ بأرديةِ الكِبْر والعنجهيَّةِ والقوّةِ والغطرسة!

كم الحياةُ لذيذةٌ وهي تمدُّنا بالهواءِ والغذاء والدّواءِ، لكنَّ أبصارَنا تَعْمى، وأذواقَنا تتبلَّدُ، وأفئدتَنا تتحجَّرُ، ومشاعرَنا تتصحَّرُ، فلا نعرفُ قيمةَ لذّاتِها إلّا بعد أن تموتَ الحياةُ في أعماقِ ذواتِنا الهالكة!

كم.. وكم.. وكم؟! أسئلةٌ لا بدّ لكلِّ عاقلِ منّا أن يطرحَها حينَما نبحثُ عن شيءٍ افتقدَناه في اللّحظةِ الحاسمة الحرجةِ، وقبلَ أيّامٍ كنّا لا نُبالي به، وكأنّه عرَضٌ تافهٌ لا يَعنيْنا في شيء.. قد يكونُ هذا الشّيءُ كِسرةَ خبزٍ تناثرَت من رغيفٍ يابس، أو قطرةَ ماءٍ سقطَت من عينٍ مترعةٍ بالأسى أو حدقةٍ أضْناها الشّقاءُ، أو فِلساً أعمى فقَدْنا الإحساسَ بحرارتِه يومَ الطّمأنينةِ بالدّفء، أو زهرةً تائهةً حطّتْ رحالَها فوق أرديتِنا، أو شعاعَ نورٍ باهتٍ من ضوءِ القمر وقد أصبحَ مَحاقاً، أو شمعةً محترقةً ما زالت تنتظرُ أنفاسَها الأخيرةَ، أو فنجانَ قهوةٍ مازالتْ فيه رشفةٌ قد تكتبُ لنا صفحةً جديدةً في حياتِنا أو تَطوي صفحاتٍ مشرقةً من تاريخِنا، أو إنساناً عظيماً سكنَ بين جوارحِنا ولكنّنا نسِيناهُ أو تناسَيْناه بين ركامِ الهمومِ والنّسيان، ولم يخطرْ ببالِنا إلّا لحظةَ التَّخاطرِ الّتي تُملي علينا تذكُّرَه، ولكنْ بعد أن اختطفَتْه يدُ القدرِ قبلَ أيّامٍ أو لحظةَ تذكُّرِنا له!
وها أنا أحدُ هؤلاء البشرِ تائهٌ في دياجيرِ الحياة أبحثُ عن بصيصِ أملٍ يجعلُني آدميَّاً لا يتذكّرُ جمالَ الأشياء ونبلَ الأشخاصِ وروعةَ اللّحظاتِ اللّذيذة إلّا بعد أن أتتْ يدُ المنونِ وقبضةُ النّسيانِ عليها، وهيهاتَ إذ ذاكَ أن يُعيدَ التَّذكُّرُ ما كان جميلاً، أو يحييَ التَّخاطرُ ما طوتْه الحياةُ!

وليس ما أرويهِ في هذا المقالِ من بناتِ خيالِ الشّعراءِ أو شطَطِ أقلامِ الأدباء، وإنّما هي حقائقُ سجّلتْها ذاكِرتي، فلم أستطِعِ البوحَ بها، إلّا حينَما وجدتُ في ذاتي ألماً يحرّكُ مشاعِري وندماً يُهيّجُ ريشتي للتَّعبير عن ذكرياتٍ باتت تقضُّ مضجَعي وتؤرّقُ فِكري وأحاسيسي!

في مدرسةِ الرّازي إحدى مدارسِ دبيّ أمضيْتُ عاماً دراسيّاً حافلاً بالذّكرياتِ حلوِها ومرِّها، تعرّفْتُ زميلينِ وأخوينِ وسيمينِ كبيرينِ في قسمِ اللّغة العربيّة، أوّلُهما البِنْداري والآخرُ حَمْدي من أرضِ الكنانةِ، ألِفتُهما في وسامتِهما وطيبِ حديثِهما وجمالِ نكتَتِهما، كان البِنداري يملكُ سيّارةَ مرسيدس قديمةً ألمانيّةَ الصُّنع، وحمدي يمتَطي سيّارةَ تويوتا باليةً يابانيّةَ المصْدر..

البِنداري: أنا لا أستطيعُ أن أفهمَ كيف أُنفِقُ كلَّ شهرٍ جزءاً لا بأسَ به من مالي على سيّارتي في إصلاحِ أعطالِها وعيوبِها، بينَما أنت تُصلِحُ سيّارتَك مجّاناً، بل وتربحُ في كثيرٍ من الأحيان ولا تخسرُ!

حمدي: الحياةُ خبرةٌ ومَهارة!

البِنداري: وهل تصلحُها بنفسِك حتّى توفّرَ وتربح!

حمدي: لا يا صديقي! المسألةُ بسيطةٌ جدّاً.. كلّما شعرتُ بأنَّ سيّارتي اقتربَت من إطلاقِ أنفاسِها الأخيرةِ ارتكبْتُ حادثاً مقصوداً يجعلُني بريئاً ويكون الآخرُ هو المتسبِّبَ، فأتَّفِقُ مع خصْمي على مبلغٍ ماليّ جيّد يدفعُه لي، فأُصلحُ بنصفِه الضَّررَ، وأوفّرُ النّصفَ الآخرَ لجَيبي.. وهكذا كما ترى سيّارتي تزداد ألقاً ونقُودي تتّقدُ بريقاً.. والماهرُ في الحياة هو النّاجحُ والسّعيد!
البِنداري: فعلاً إنّكَ لصٌّ حاذق! ولكنْ لا أدري كيف نجحتَ في توظيفِ وسيلتِكَ التّعليميّةِ الّتي غرسْتَ فيها أشجاراً وأعشاباً بلاستيكيّةً ووضعْتَ فيها مجسَّماتِ أبقارٍ وأغنامٍ، ومازلتَ تستخدمُها منذُ سنينَ وسنين في جميعِ الدّروسِ مع اختلافِ المواضيع.. فنِلتَ رضا الموجّهِ بتفاعلِ الطّلّابِ معكَ، بينَما أخفقَ زميلُكَ الأستاذُ حسَن في توظيفِ وسيلتِك نفسِها ولم تنقصْ مها شجرةٌ أو بقرةٌ أو شاةٌ لنيلِ رضا الموجّهِ، فخرج من حصّتِه ممتعِضاً من المعلّم، ولم يتفاعلِ الطّلّابُ معه؟!

حمدي: إنّها مجرّدُ وسيلةٍ ضاع الموجّهُ بين أهدافِها؛ لأنّني جعلتُه يرقصُ مع الطّلّابِ بطريقةِ الإلقاءِ وجمالِ الحديثِ، فنسيَ الوسيلةَ حينَما غرقَ في أحلامِ اليقظةِ؛ وكأنّني شهرزادُ وفي يدها المغزلُ، فهامَ شهريار في ثنايا الحكاياتِ ونسيَ خيوطَ المغزل.. والحياةُ كما تعلمُ فنٌّ ورقصٌ وغناء وعزفٌ منفردٌ حتّى في حالكاتِ اللّيالي ومهلكاتِ الغوالي!

البِنداري: ليتَني أُجيدُ نفاقَك يوماً مع أنّني أملكُ مهاراتِ الحديثِ والإلقاءِ والتّمثيلِ أكثرَ منكَ.. لكنَّ الدُّنيا مسرحيّةٌ هزليّةٌ يا صديقي حمدي!

وهكذا يدورُ الحوارُ كلَّ يومٍ، نكتةٌ من هُنا وحوارٌ من هناك، وقصّةٌ من الحياةِ وعِبرةٌ من الزّمن تفيضُ بها ألسنةُ البنداري وحمدي وغيرِهما كما لا يَخفى أثري في ذلك..

انقضى ذلكَ العامُ الجميل.. ومضَت سنواتٌ بعد أن تركتُ تلك المدرسةَ إلى مدرسةٍ أُخرى.. وذاتَ يومٍ خطرَت خفّةُ روحِ البِنداري على بالي حوالي السّاعةِ الثّامنةِ صباحاً، وتذكّرتُ جمالَ حديثِه فقرّرتُ الاتّصالَ به بعد أن استبدَّ بي الشّوقُ إليه، لكنّ الحظَّ لم يُحالفْني؛ لأنّ رقمَه قد غابَ عن ذاكرةِ هاتفي، فاتّصلْتُ بصديقي وزميلي الأستاذِ بشير مدرّسِ التّربيةِ الإسلاميّة في تلك المدرسةِ:

السّلامُ عليكم أخي بشير.. معكَ فلان!

وعليكمُ السّلام.. أين أنتَ؟ لم نسمعْ صوتَك منذ زمنٍ بعيد!

إنّني مشتاقٌ إليكم.. ولكنْ كما تعلمُ مشاغلُ الحياةِ وهمومُها كثيرةٌ!

وبعدَ الاطمئنانِ عليه وعلى أحوالِه المعيشيّةِ والأسريّة..

هل يمكنُني الحديثُ مع صديقِنا الأستاذِ البِنداري؟ لا أدري لماذا تلحُّ عليَّ نفسي في الحديثِ إليه.. وأخبِرْه بأنّني سأزوِّجُه فتاةً آسيويّةً كان يحِنُّ إلى مواصفاتِها في كلِّ أحاديثِه وأحلامِه.. (قلتُ ذلك مازحاً حتى يتذكّرَ أيّامَنا الخوالي)!

لحظةً من فضلِك! إنّني ذاهبٌ إلى غرفتِه كي تكلّمَه فابقَ معي على الخطِّ.. وبعد قليلٍ قطعَ الأستاذُ بشير المكالمةَ.. فرحتُ أتّصلُ وأتّصل، فلا يجيبُ.. فقلتُ في نفسي: ربّما انشغلَ بحصّةٍ أو اجتماعٍ طارئ.

وفي المساء أعدْتُ الاتّصالَ ببشير:

أين أنتَ يا صديقي، لماذا قطعتَ الاتّصالَ ولم تعُدْ تردّ.. ما الّذي حدثَ؟

لا أدري ماذا أقولُ.. ولكنْ هل دعوتَ على الرّجلِ؟ لقد وصلتُ إلى غرفتِه في اللّحظةِ ذاتِها فوجدتُه جالساً على كرسيّه، وقد ناديتُه مراراً، لكنّه فارقَ الحياةَ ولم ينبسْ ببنتِ شفةٍ!

إنّكَ تمزحُ كعادتِك أو ربّما هو من قالَ ذلك كعادتِه في التَّنكيتِ!

لا واللهِ يا صديقي، لقد وجدتُه جثَّةً هامدةً على كرسيّه.. وبعد أن جاءَ الإسعافُ وحاولُوا إنقاذَه، أيقنُوا أنّه قد ودَّعَ الدُّنيا دونَ مقدّماتٍ!

كانتِ الصّدمةُ مفاجئةً لي، وكان وقعُها شديداً عليَّ.. ولم أتمالكْ نفسي فانهمرَت دموعي حزناً وألماً وحسرة.. رحمكَ اللهُ أيُّها الأخُ والصّديقُ البِنداري.. هذه حالُ الدّنيا لا تدري كلُّ نفسٍ متى وأين تموتُ!

وكلّما رحتُ أقصُّ ما حدثَ معي لبعضِ الزُّملاء، أخذَتهم الدَّهشةُ وأصابتهم الهواجسُ.. فراح كلُّ واحدٍ يُنكِرُ معرفتي به.. فيقولُ: أرجوك لا تتَّصِلْ بي.. لقد غيّرتُ رقمَ هاتفي.. ولن أردَّ على شخصٍ تطلبُني للحديثِ معك.. أرجوكَ دعْنا نعيشُ بقيّةَ أيّامِنا.. فتعلُو الضّحِكاتُ.. فأطمئِنُهم بأن لا خوفَ عليهم إلّا بعد فراقٍ وشوقٍ إليهم!

فحذارِ أيُّها الأصدقاءُ من حبّي لكم ومن شوقي إليكم.. فمِنَ الحبِّ ما أهلَكَ وقتل، ومن الشّوقِ ما غيّبَ كالنَّجمِ أفَل!

كم هي المواقفُ الصّعبةُ في حياتِنا! وكم هي المآسي تُحيطُ بنا، لا ندركُ قيمةَ الإنسانِ إلّا حينَما نتوقُ إلى الحديثِ إليه.. وحينذاكَ قد يخطِفُنا القدرُ، أو قد تخطفُ يدُ المنون مَن نُحبُّهم ونشتاقُ إليهم، فلا نعرفُ قدْرَهم الحقيقيَّ إلّا وقتَ الرّحيل!
وموقفٌ آخرُ لن تنساهُ ذاكرتي ما حيِيتُ حينَما قرَّرتُ زيارةَ جدّتي في مدينةِ حمص إثرَ غيابِ أسبوعينِ عنها بعدَ أن ودَّعَها وودَّعَنا جدّي -رحمهُ اللهُ- إلى جوارِ ربّه.. كانت جدّتي -رحمَها اللهُ- أمّيَ الثّانيةَ الّتي عشتُ في غرفةٍ مجاورةٍ لغرفتِها في دار جدّي طيلةَ أربعِ سنواتٍ إبّانَ دراستي الجامعيّةِ.. كانت تُعدُّ لنا الطّعامَ، وتغسلُ ملابسَنا، وكنتُ أتولّى تنظيفَ الدّارِ من أوراقِ شجرة التّوتِ وترتيبَ غرفتي وشراءَ حاجاتِنا من السّوق..

وصلتُ إلى دارِ جدّتي صباحاً.. كان صوتُ الشّيخِ عبدِ الباسطِ يصدحُ بنفحاتِ نشوةِ الإيمانِ في بيتِ عمّي أبي عدنان المقابلِ للمنزلِ الّذي عشتُ فيه سنينَ الدّراسة، فلم أبالِ بالأمر، فكان ما يهمُّني هو أن أرى جدّتي كي أقبِّلَ يديها الطّاهرتينِ، لتَطبعَ آثارَ قبلاتِها الحارّةِ على وجنَتيَّ.. قرعتُ جرسَ البابِ الخارجيّ فلم ألقَ ردّاً.. وأعدتُ المحاولةَ مرّاتٍ، ولكنْ لا صوتَ ولا إجابةَ، فقلتُ ربّما كانت منشغلةً.. فجئتُ إلى نافذتِها المطلّةِ على الشّارع وطرقتُها طرقاتٍ عديدةً وأنا أنادي: جدّتي.. جدّتي.. أين أنتِ؟

رآني بعضُ الأقاربِ أُنادي وأُنادي، فأدركُوا أنّني لم أعلمْ بوفاةِ جدّتي.. فنادَوني ودموعُهم تنهمرُ كحبّاتِ المطر: جدَّتُك هاهُنا ترقدُ في بيتِ عمّك.. لقد فارقتِ الحياةِ، تعالَ وودّعْها.. هذهِ حالُ الدُّنيا.. إنّهم السابقُون وإنّنا اللّاحقُون!

لا.. لا.. لا أصدّقُ! كيف ومتى؟ قبلَ أسبوعينِ ودّعْنا جدّي.. واليومَ نودّعُ جدّتي.. يا اللهُ رحمتَك ولطفَك.. فكانتِ الصّدمةُ وكانتِ الفاجِعةُ.. لم أستطعْ أن أودّعَ الشّجرةَ العظيمةَ حيّةً، وقد تفيّأتِ في ظلالِها سنواتٍ وهي تحثُّني على الدّراسةِ وتسهرُ على سلامَتي، وتتفقدُّني في قيلُولتي وفي سُباتي كلّما غابتْ أنوارُ غرفتي عن ناظرَيها!

الحياةُ جميلةٌ لكنّها مرّةٌ، ولو كانتْ شهداً من العسل..
الحياةُ مدرسةٌ، لكنّها قاسيةُ التّعليم..
الحياةُ أمٌّ لأبنائِها، لكنّها لا تعرفُ الرّحمةَ حينَما تغضَب..
الحياةُ كريمةٌ تمدُّنا بالعطاء، لكنّنا لا نعلمُ متى تكشّرُ عن أنيابِها فتسلبُنا كلَّ ما نملك..
الحياةُ رحلةٌ بين السّعادةِ والشّقاء، لكنّنا نجهلُ متى تمنحُنا السّعادة ومتى تسحقُنا بالبؤسِ والشّقاء..
الحياةُ فسحةٌ تمتدُّ بين الأملِ واليأس، ولكنّا لا نعرفُ متى تقرُّ عيونُنا بالأملِ، ومتى ينطفئُ نورُها في ظلامِ اليأسِ والحِرمان..
الحياةُ رحىً تدورُ بنا وتدور، ولكنّنا لا ندري متى تتوقّفُ عن عركِنا لتُلقي بنا في الأثْفال..
الحياةُ نهرٌ لا ندركُ بدايتَه ولا نعلمُ نهايتَه، ونجهلُ متى يصفُو ومتى يَكدُر..
الحياةُ بحرٌ متلاطمُ الأطرافِ والأبعاد، وكلٌّ منّا يظنُّ أنّه القرشُ المدلّلُ بين طوابيرِ الأسماك..
الحياةُ سفينةٌ تتلاعبُ بوجودِنا، ويظنُّ كلٌّ منّا أنّه الرُّبّانُ الأمهرُ في قيادِها إلى برِّ الأمان..
الحياةُ حبٌّ وكرهٌ، لا نعرفُ متى تُمطرُنا بالحبِّ ومتى تقصفُنا برعودِ الكراهية..
الحياةُ عيشٌ وموتٌ، بعضُنا يَفنى بجسدِه، لكنّ ذكراهُ تعيشُ أبدَ الدّهر، وبعضُنا يَفنى ويموتُ وما زالَ حيّاً لا يدري به إلّا ظلامُ الصّمتِ والنّسيان..
الحياةُ ليلٌ ونهارٌ، لا ندري متى ننامُ ولا نعلمُ متى نستيقِظ..
الحياةُ نورٌ وظلامٌ.. تارة نلهُو بأشعّتِها وتارةً تلهُو بنا في ظلامِها.. وليس في سوادِنا الأعظمِ آدميٌّ يعيشُ النُّورَ نوراً، وليس فينا إلّا القليلُ ممّن يرى في الظّلامِ نورا..

كلُّنا بشرٌ لسْنا إلّا ريشةً في مهبِّ الرّيح تتلاعبُ بنا الأزمانُ والأقدارُ.. فطُوبى لمن عرفَ العواقبَ وأدرك النّهايةَ والمصير، فعاشَ عبداً فقيراً قبل نهايةِ الرّحلةِ والمسِير!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى