الاثنين ١ شباط (فبراير) ٢٠١٠
بقلم حسين سرمك حسن

يحيى السماوي: الشاعر المقاوم

 
(موائدنا تخلو من الدسم
قدورنا بيضاء
وأعذاق نخيلنا
لم تعُد تسيل عسلا
فما الذي أغوى
كل هذا الذباب البشري
لدخول العراق؟)
 
(أوشك أن أؤمن
أن الله
يحب العبد
على قدر كراهيته
لآلهة البيت الأسود في واشنطن)
 
(أيّا كانت مآسي الغد
أيا كان غضب الأعاصير
البراكين.. الطوفانات
الزلازل.. والأوبئة
فأجيال الغد لابدّ أن تكون أحسن حالا
مادام أن الغد
لن يشهد ولادة وحش جديد
اسمه:
جورج بوش الحفيد)
(يحيى السماوي)
(شاهدة قبر من رخام الكلمات) 

درس من «رسول حمزاتوف»:

هذه هي المرة الثالثة التي اقرأ فيها كتاب رسول حمزاتوف «داغستان بلدي» خلال عقد من السنين، وهو الكتاب الذي كتبت على صفحات الصحف العراقية قائلا أن في نفسي غصة أن يكتب مبدع عراقي كتابا عن بلده أو عن مدينته مثلما كتب رسول عن بلده داغستان، علما أن داغستان عبارة عن كتلة صغيرة صخرية لا يزيد عدد سكانها على المليون – أقلّ من البصرة وأقلّ من السماوة مسقط رأس يحيى السماوي - – وفيها عشرات اللغات والقوميات !!. قد أعود إلى هذه الملاحظات لاحقا، لكنني كلما قرأت كتاب رسول اكتشفت دروسا وعبرا عظيمة وأهمها الذي يتصل بالسلوك الإبداعي للمبدع. خذوا مثلا هذه الحادثة / الدرس، يقول رسول:

(.. كان الخان - إذا لم تشغله أعماله أو نساؤه - يحب أن يستمع إلى الشعراء، وفي يوم من الأيام سمع أغنية تتحدث عن قسوة الخان واستبداده وجشعه. فأمر الخان وهو غضبان، بالبحث عن الشاعر، الذي حرض على عصيانه، لم يستطع أحد العثور على مؤلف الأغنية، وعندئذ أمر الخان وزراءه وجنوده بالقبض على جميع الشعراء. وفي صباح اليوم التالي جاء الخان ليرى الشعراء المسجونين: - حسنا على كل واحد منكم أن يغني أغنية واحدة يمدحني فيها. وبدأ الشعراء يغنّون ويمجدون الخان وقلبه الطيب، أطلق الخان سراح من غنّاه من الشعراء. ولم يبق في السجن غير ثلاثة شعراء.. ظن الناس أن الخان نسيهم.. ومع ذلك فقد عاد الخان بعد ثلاثة أشهر ليرى الشعراء المساجين: - حسنا على كل واحد منكم أن يغني أغنية مديح واحدة. قال أحد الشعراء أن الأرض لم تشهد مثل هذا الخان في عظمته وعدله. وأطلق الخان سراح الشاعر وبقى شاعران رفضا الغناء.. فأمر الخان بنقلهما إلى محرقة أعدت في الساحة العامة. وقال الخان: سنلقيكما في النار. هذا إنذار نهائي. غنياني إحدى أغنياتكما. واحد منهما انخذل وبدأ يغني للخان فأفرجوا عنه، ولم يبق إلا واحد هو الذي أبى أن يغني، وأمر الخان: أربطوه بالجذع وأشعلوا النار. وعندئذ أنشد الشاعر وهو مربوط بالجذع أغنيته الشهيرة عن قسوة الخان واستبداده وجشعه، تلك الأغنية التي كانت سببا في كل ما حدث. وصرخ الخان: - فكّوا حباله. أخرجوه من النار. أنا لا أريد أن أفقد الشاعر الوحيد الحقيقي في بلدي).

لست واعظا وأعتقد أن استدعاء ما يمكن أن يقوم به الخانات العرب مع شاعر من هذا النوع يجعل ما سطره حمزاتوف – في نظر القارئ العربي عموما والعراقي خصوصا- يدخل في باب التمنيات الخيالية. لكن من الضروري أن يُحفظ توازن الوجود ويلجم بطش الخانات شاعر من هذا النوع. وهذا ما ختم به حمزاتوف حكايته حين نقل تعليق الشاعر " أبو طالب " على الحكاية:

(- الحق أني لا أعتقد كثيرا أن هنالك خانات في مثل هذا الذكاء، وفي مثل هذا النبل، ولكن في الواقع إن وجود بعض الشعراء من هذا النوع ضروري). 

يحيى السماوي.. الحلم المقاوم يتهشم:

.... ويحيى السماوي هو من نمط هذا الشاعر الجسور المقاوم، لكن الذي تلغي حكايته الموازية نبالة خان حمزاتوف. فخان السماوي أوشك أن يقطع رأسه حتى وهو لم يطلق أغنيته التعرّضية التي كانت محتبسة في أعماقه. لكن الشاعر حاول أن يقوم بفعل مقاوم يسقط من خلاله الخان المتجبر – وتفصيلات فعله صارت معروفة – فأُجهض فعله، واضطر إلى أن يتغرب في جحيم المنافي، وهناك بدأ يجهر بنداءاته الجريحة.. نداءات حارقة ضد الطغيان والاستبداد من أجل الحرية.. ضد الموت من أجل الحياة.. ضد ظلام القهر من أجل نور الإنعتاق. إنها نداءات من بعيد.. نداءات طير طرد خارج قفص الأسر الذي حبس فيه شعبه وظل ينظر إليه بانكسار عبر الحدود.

لكن الكارثة هي أن حلم الشاعر قد تهشم.. ونداءاته التي جرّحت روحه وأدمت أوتار حنجرته قد ضاعت طاقاتها. فبعد الطغيان يأتي الإحتلال، والأدق يعود إلى بلاد تخلصت منه بالدماء والنضال والتضحيات الجسام.. يعود إليها مع سرب من أدلاء الخيانة؟

وتتجلى مفارقة حارقة تدمّر وجود الشاعر وتشعره بهباء تضحياته الهائلة: حدثتني السيدة أم الشيماء زوجة الشاعر عن الرحلة الرهيبة التي سارت فيها مشيا ًعلى الأقدام من السماوة إلى الحدود السعودية حاملة طفليها الصغيرين: علي والشيماء، في أرض صحراوية مخيفة لتلتحق بزوجها الشاعر الهارب من مخالب البطش، والذي كان يتقلب على جمر القلق فزعا من أن تطال يد الجلادين عائلته بعد هروبه عام 1991 وتفصيلات الرحلة تصلح سيناريو لفيلم درامي من أفلام هوليود. هذه التضحيات صممت من أجل هدف اعتبره الشاعر نعمة لشعبه، وإذا به يصبح نقمة ترجع شبح الاحتلال الخانق. يصوغ الشاعر هذه المفارقة بصورة فنية محكمة في قصيدة " أطلقوا سراح وطني من الاعتقال "، وهي صيحة تعكس جانبا مطلبيا مباشرا وحازما، لكن إكمال قراءة القصيدة سوف يكشف مفارقة تصعّد درجة الإنفعال إلى حدودها القصوى. ولنمضي مع الشاعر الذي يخبرنا وبوضوح - بعيدا عن تلغيزات " الحداثة " المصطنعة – أن جيوش المحتلين قد خرّبت الحياة على صعدها كافة، لم تبق ولم تذر أي شيء جميل على المستوى الشخصي والجمعي والوطني، على مستوى السعادات الشخصية والاجتماعية والوطنية، حتى الطبيعة المجردة خربتها مخالب هذه الجيوش:
( القادمون من:

وراء المحيطات
الغابات الحجرية الأشجار
مدن الثلج والنحاس
فنادق الدرجة الأولى
اصطبلات رعاة البقر
المباغي الأيديولوجية:
أفرغوا حنجرتي من الصوت
وعيني من الدموع
وشفتي من الابتسامات
ومئذنتي من التراتيل
وصباحاتي من الألق
ومساءاتي من النجوم
وحديقتي من الورود
وحقولي من البيادر
وبيتي من الطمأنينة
والشارع من البهجة – شاهدة – ص 35و36 )

وليس من الممكن أن " تخلق " الحماسة شعرا يتمتع بالشروط الجمالية الآسرة، إنها من الممكن أن " تصنع " خطابا شعريا تعبويا متحمسا، أو بصورة أدق تُصدر هتافا شعريا – باستثناء أن تصدر الحماسة عن أرواح الشعراء الكبار المنفعلة – وتعبويا. هناك فارق كبير بين أن تنادي أمك بكلمة " أماه " في لحظة استرخاء وبين أن تطلقها في لحظة توتر، ويصبح الفارق شاسعا حين تصيح بها في لحظة ثكلان، فهنا لا تنطلق المفردة من أعماق الحنجرة تركيبا حروفيا منجرحا، بل من أعماق اللاشعور بكل ما اختزنه من شحنات حبية عاصفة تجاه الأم بكل حمولاتها الرمزية الثقيلة: البيت، الحبيبة، الحديقة، الأرض، الزوجة، رغيف الخبز، الجماعة، العقيدة، رائحة القمح. شعار الشاعر من الأم جئت وإلى الأم تعود بعيدا عن التورية القداسية المعروفة: من التراب جئت، وإلى التراب تعود، والتي تتأسس على البعد الرمزي للتراب كممثل أصيل للأمومة استلبته السلطة الأبوية القامعة. وهنا يفصّل الشاعر تمظهرات عملية " الإستبدال " التاريخية المناورة، هذه التي تجري بأصابع خبيثة وبطريقة مبيتة، حيث يُستبدل بكل ما هو أصيل وراسخ في الوجدان الشخصي والجمعي من معاني الشرف والجمال والقداسة، ما هو دنيء وقبيح وموغل في الدنس:

(استبدلوا:
بكوفيتي خوذة
بحصاني دبابة
بحديقتي خندقا
بنخيلي أعمدة كونكريتية
بأساوري قيودا
بـ " زهور حسين " " مادونا "
بالقرآن مجلة ستربتيز
ودماً بمياه الينبوع
وساندويشة ماكدونالد بخبز أمي – ص 36) 

ويحكم الشاعر قبضته على التسلسل الحروفي المعبّر عن الموجات الانفعالية الصاخبة حين يتحول بعد سبعة استخدامات لجمل تبدأ بالباء " الاستبدالية " المكانية، بجملة إضافة تبدأ بالواو " الزمانية " ليخلق انفتاحا شاسعا مدويا بعد طول احتباس – وتوصيفا المكان والزمان لحرفي الباء والواو مستقان من نظرية العلامة العراقي الراحل عالم سبيط النيلي -. لكن المفارقة التي تصدم تجربة الشاعر في صميمها تتمثل في أن من جاءوا بالاحتلال يتصورون أنهم قد أطلقوا سراحه – وهو خارج البلاد فعلا وأطلق سراح ذاته قبل مجيئهم – في الوقت الذي حبسوا فيه البلاد بكاملها، إنها لعبة شديدة المكر أن تفرج عن الضحية وتعتقل أمّها التي انتظرتها دهورا. وأتذكر هنا قصة للروائي الفلسطيني " أميل حبيبي " تتحدث عن سجين كان يلح على الجلاد في أن يرى عائلته، وذات يوم جاء الجلاد بالعائلة كلّها ليسجنها مع السجين المتلهف قائلا له: ها قد حققنا رغبتك !!. في بلاد السماوي لم يتحقق حتى هذا الحل المسموم، فقد أطلقوا سراح الإبن المتلهف لرؤية أمه، واعتقلوا الأم المتلهفة لرؤية ابنها:

( أطلقوا سراحي من قبضة الخرتيت
واعتقلوا الوطن – ص 36و37 )

ولا تتعادل كفتي ميزان "الربح" الفردي و"الخسارة" الجماعية أبدا، نحن هنا ننظر إلى كفة واحدة من ميزان الوجود تهوي صائتة بمهانة مزدوجة. يضاعفها أن الغزاة يعطون الشاعر المستلب قلما وورقة ليكتب عن الحرية، وهذا أمر مستحيل مع سلب حرية الوطن الأم حتى لو كان الإبن قد تخلص من القبضة المميتة، وبهذا لن يكون له أي دور في ترتيب عملية الاختيار، فنحن هنا – وفي ظل سطوة الخراتيت الغزاة – أمام خيار واحد ذي شقّين، أحلاهما حنظل: مهانة تبعية الوشاية المقيتة لصالح المحتل – كتابة التقارير - التي لن تكون عودة إلى مهمة محتقرة أفرزها الطغيان والتي كان شرطها الابتعاد عن دائرة كرسي التسلط والغناء لها، بل الكتابة الغادرة عمّن يشكلون ضمانة بقاء البلاد.. بقاء وحدتها الاجتماعية وتماسكها الوجداني ورهافتها الإنسانية وخصوصيتها الوطنية وحساسيتها الحياتية من خلال حرص روحهم الانتقادية. وفي هذا المقطع التصافقي الذي يعرضه الطغاة الجدد على الشاعر الذي شبع سجونا وتعذيبا ومهانة وتشردا تجد لعبة الإستبدال مستمرة بتعويض الباء التي هي حركة انبثاقية انفجارية تكرارية بالحرف " على " الذي يبتدئ بحرف العين الذي يعني حقا – والرأي للعلامة النيلي – اتضاح معالم الحركة المبهمة، فـ " العين " حركة جوهرية داخلية نهايتها اتضاح الحركة المبهمة.. وتكتمل الحركة فيه من داخلها بدون زيادات لتظهر واضحة المعالم – عالم سبيط، نظرية اللغة الموحدة – ص 263) وكأننا – فعلا – أمام محاولة الإنبثاق الخطيرة للطرف المعطل الذي يسبق الحرف (على) والذي كُبت طويلا، فهم – الغزاة – يريدون منه أن يكتب ليس عمّن يعطلون حركة الحياة أو يخربونها، لكن أن يبطش وشاية بمن يريدون إنهاضها وإشاعة البسمة على محياها الكسير، هذه المهمة التي نذر روحه من أجل تعزيزها وتفجيرها. هو الذي كان مضطهدا عليه أن يشي بالثوار، ومسحوقا بالمنسحقين، ومعدما بالمذلّين.. صار عليه أن يشي بمن كانوا يقارعون معه الطغيان، لا بمن يسندونه ويعزرونه:

(لأكتب.... تقارير
عن الذين يرفضون تحريض:
النار على الأكواخ
والقحط على الحقول
وأكياس الرمل على الشرفات
و " ابن طالب " على " ابن الخطاب "
و " أبي ذر الغفاري " على " القديس أوغسطين "
والخنادق على الحرائق
والسيوف على الرؤوس
والسيارات المفخخة على الأسواق الشعبية
والأكفان على مناديل العشق
والدخان الطائفي على قوس قزح
والرذيلة على الفضيلة
واللصوص على الوطن – ص 37و38 )

ولو تتبعنا النص منذ استهلاله وحتى هذا البيت لوجدنا أن الإفصاح عن هوية الطرف المقابل المحتل الذي خرب أحوال البلاد ودوّخ العباد تم بصورة تصاعدية مع تصاعد زخم الانفعال المرافق للمنحنى التقربي من هضبة الإفصاح الموجع. ليست مهمة الشعر إخبارية.. أبدا.. ولا هي إعلامية.. ولا فلسفية.. ولا سياسية.. إنها – وهذا ما يدركه يحيى بحدة – كلّ ذلك، كل هذه المعضلات مجتمعة، بل أكثر منها، ولكن ولا واحد منها كخبر أو كإعلام أو كفلسفة أو كسياسة.. إنها تأتي متخفية ومنسربة تحت أغطية الفن الباهرة. وبعد كل الأشواط الطويلة هذه من " الإستبدالات " ؛ باستبدال ما هو قائم جماليا ومؤسسا حياتيا – حتى لو كان في ضمير الماضي - حاضرا فاجرا يتلخص بعد طول تفصيل معان ٍ ببيت واحد مفاده:

(تحريض " الأمركة " على " العراقة " – ص 38)
لكن هذا ليس الفعل الشعري كله.. ولا أدناه، إن لم يحمل الروح الممزقة على أن تقف أمام مرآة انقهارها في سطح صقيل من جنس المعاناة، وها هو الشاعر يقف بين الرمضاء والرمضاء، بين الموت والموت، ويتضح هذا في حالة نادرة لا تتكرر في شعر السماوي حين ينفض يديه من تراب مسؤولية وطنه، مرة واحدة وإلى الأبد، ولكن ظاهرا، ها هو يصرخ:

(... فهل ثمة من يلومني
إذا صرخت ملء حنجرتي:
أعيدوني إلى زنزانتي
وأطلقوا سراح وطني – ص 38)

والشاعر الحديث " يخطط " ويرسم مسارات مشروعه ولا ينطلق ليعالجها فطريا، صارت الفطرة - الشاعر المفطور - عبئا على الحداثة أو أنها ضدّها. وعلى سندان الاحتلال البغيض كان الشاعر يشاهد - مفجوعا - كيف تُطرق أحلام عمره الهشة وتحطم، فيستولي شبح الخيبة على كل ما يكتبه من نصوص بعد تلك الكارثة. يستولي حتى على عنوانات قصائده، هذه قصيدته " إحباط " التي يفصح عنوانها بنفسه عمّا سنشاهده على خشبة مسرحها. هي اللحظة ذاتها التي تداس فيها الآمال العريضة. وهنا ترتبط بنزعة " التخطيط " الضرورية، القدرة على " هندسة " القصيدة التي يفتتحها الشاعر بـ " شخصنة " وطنه المتوفى.
وقفة:


وكنت أقول كثيرا إن قصيدة النثر لا تصلح لنوعين من فنون الشعر هما شعر الرثاء والشعر السياسي ففي الأول يتطلب الرثاء الإنفعال السريع الذي يعطّله اللعب الذهني وتعقيد الصورة وغيرها من خصائص قصيدة النثر، أما في الثاني فإن المتلقي يحتاج وضوح الصورة والرؤية والنفس التعبوي – وليس الموقف التعبوي الفج – وهذا ما لا يتوفر ي قصيدة النثر ولكنه يتوفر وبقوة في القصيدة العمودية وفي شعر التفعيلة، وفي الأول يقف الجواهري الكبير في المقدمة بلا منازع، أما في الثاني فقد ضرب المثل الأجود شعراء المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتهم المبدع الراحل محمود درويش. أي أن الشاعر – مثل يحيى السماوي – الذي سيقدم على هذه المحاولة سيواجه مأزق الموازنة الحرجة بين الاشتراطات الفنية للقصيدة وفعلها النفسي المباشر.
عودة:


ومما يصعّد من عاصفة الإحباط في روح السماوي عاملان إضافيان، الأول هو أنه كان يبشِّر ويستشرف تغييرا حاسما بطريقة تقرب من " النبوءة " وذلك في نصوص كثيرة منها على سبيل المثال لا الحصر رباعيته الثانية التي ضمتها مجموعته الشعرية (زنابق برية)، والتي يعود تاريخها إلى الرابع عشر من ديسمبر / كانون الأول عام 2001 حيث نشرها في صحيفة (المدينة المنورة) آنذاك:

يا نداماي أتاني حلمُ 
دُكّ فيه للخطايا صَنمُ
شبّ في الأرض ربيع ومشت 
في الفيافي بعد قحط نِعَمُ
وعلى بغداد رفّت غيمةٌ 
أمطرت نبضا فقامت رِمَمُ
ورأيت الناس – كلّ الناس – لا مقلة تبكي ولا يأسى فمُ

ولا تضعف موقف الشاعر " النبوئي " كون نذر التغيير المقبل قد جاءت في صورة حلمية، فليست أحلام الشعراء محض أضغاث وأوهام، إنها رؤى " النبوّة " التي تعكس اختمارا مديدا وملتهبا في محتويات لاشعوره التي تختزن أوجه المحنة الشخصية والجمعية، وتتفاعل في أحشاء هذا اللاشعور لتنعكس منسربة في أحلامه، خيالاته ونصوصه، نصّ الشاعر هو حلمه. والحلم هو – حسب معلم فيينا – الطريق الملوكي إلى مملكة اللاشعور، والذي يتساءل عن أهمية القيمة العملية لدراسة الحلم قائلا:

(.. غير أنني أسمع سؤالا: وماذا عن القيمة العملية لهذه الدراسة من حيث هي وسيلة إلى فهم النفس وإلى الكشف عن الخصائص المختبئة للأفراد المختلفين؟ أليس للإندفاعات اللاشعورية التي يفرغها الحلم قيمة القوى الحقيقية في الحياة النفسية؟ هل لنا أن نستخف بالمغزى الخلقي للرغبات المكبوتة – وهي رغبات تولد اليوم الحلم ولكنها قد تولد كذلك أشياء أخرى يوما ما.إني لا أشعر بحق في الإجابة عن هذه الأسئلة: فما ذهبت خواطري إلى أبعد من هذا المدى. غير أنني أعتقد مع ذلك أن الإمبراطور الروماني قد جانب الصواب إذ أمر بإعدام أحد رعاياه لأنه حلم باغتياله. فقد كان أولى به أن يحاول الكشف عن معنى الحلم، وأغلب الظن أن معناه كان يختلف عن ظاهره، ثم إنه لو كان ثمت حلم مختلف المحتوى ولكنه تضمن هذا المعنى الآثم تجاه الذات الإمبراطورية، أفما كان ينبغي أن نذكر قول أفلاطون: إن الرجل الفاضل يكفيه الحلم حيث يقدم الرجل الشرير على الفعل؟ ( تفسير الأحلام – فرويد – ترجمة مصطفى صفوان – مراجعة مصطفى زوير – دار المعارف – القاهرة – ص601).

ولكن حلم المبدع هو نصّه، فهل يحق لـ " الخان " أن يقطع راسه من أجل هذه الأحلام النصّية الصارخة؟؟

المهم أنه على ركائز صور تمنيات الأبيات الثلاثة الأخيرة الباذخة من المقطوعة والتي يتخيّل فيها فردوسا هائلا سيعم ببهائه البلاد والعباد بعد ظلمات ضيم وطول معاناة جسيمة، يتأسس العامل الثاني من عوامل الإحباط الساحق، والذي يتمثل في كارثة الاحتلال. يقف الشاعر منكسر الروح ومهشم الوجدان ومسحوق الذاكرة وهو يرى وطنه الذي تحرر منذ ثمانين عاما يعود ليقع بين براثن مخالب الاحتلال الممزقة. يحصل هذا والعالم بأكمله، أو في معظمه يسير نحو التحرّر الناجز وطيّ صفحة الإحتلالات والكولونيالية. يحصل هذا في بلاده التي ابتكرت ولأول مرة في تاريخ البشرية مصطلح " الحرّية " وكان اسمها " أمارجي " بالسومرية وتعني العودة إلى الأم كما قلنا في مناسبة سابقة. ويبدو أن هذا هو الفهم الحقيقي لمعنى الحرّية التي يصفها أحد المفكّرين بحق بأنها – أي الحرية – تعني " الحياة بلا قلق "، والمكان الوحيد منذ خلق الإنسان، وعبر مسيرة البشرية المديدة الذي لا يعاني فيه الفرد من أي شعور بالقلق ويحيا فيه للمرة الأولى والأخيرة بلا مخاوف هو الرحم الأمومي / فردوس الهناءة الأول، ولذلك أشاد " أوتو رانك " نظريته في " صدمة الميلاد " على افتراض أن كل شقاء الإنسان الذي يواجهه في حياته ينبثق من قلق الإنفصال عن الرحم المنعم. ألم نقل إن الحضارة العراقية بمراحلها الخمس – لاحظ أن العالم بأكمله فيه ثلاث حضارات قديمة – هي حضارة أمومية الطابع؟!. 

والمصيبة أن كارثة لا تقل هولاً قد هزّت أركان ذاكرة شعبه وهشمت مفاهيمه الجمعية التي تأسست عبر آلاف السنين عن الحرية والتحرّر. فحين يسأل الطفل العراقي أباه أو معلمه عن معنى كلمة التحرير في السابق سيجيبه مطمئنا بأنه مثل تحرر العراق في ثورة العشرين مثلا حيث كان الهدف كما هو حال التحرير عبر التاريخ التخلّص من السيطرة الأجنبية معبرا عنها بالخلاص من الجيش الغازي. أما أن يتغيّر مفهوم الحرية والتحرير وتصبح عودة البلاد إلى الاحتلال الأجنبي – وبعد ثمانين عاما من تحررها من هذا الاحتلال البغيض بعطايا الدماء والأرواح المباركة – فإن هذا مسخ لكل معنى وتقويض لكل مفهوم جمعي حول معنى الاحتلال والسيادة. وهذا ما يعلن السماوي فيه عن فجيعة مشروعه الحلم الذي بشّر به في سلسلة من الإحباطات المتكررة في نصوص متلاحقة. في قصيدة " إحباط " والتي كما قلنا يعكس عنوانها الدلالة الواضحة على ما قلناه يعلن الشاعر عن فاجعة مرعبة وهو يلقي نظرة الوداع على جثمان وطنه ويصور موت بلاده التي سوف تُدفن في مقبرة الطائفية:

(زرته كي
ألقي النظرة الأخيرة عليه
قبل دفنه
في المقبرة الطائفية – شاهدة ص 45)

وهذه صورة مباشرة هي التي أشرت – قبل قليل - إلى أنها قد تهدّد فنية قصيدة النثر، هي مقولة متواصلة ومتسلسلة لا تقطيع صوري أو نبري فيها، ولا لعب استعاري يشكل روح المجازفة اللغوية الشعرية. لكن السماوي الذي يمسك بثقة واقتدار بسرّ الفعل الشعري الذي يحول تراب اللغة إلى ذهب الشعر، يبدأ بتشخيص مظاهر مضاعفات هذا الموقف المَرَضية التي مسخت وجوده، فيستعير " علامات الترقيم " المعتادة ويجعلها بقدرة محكمة مشبهات بها يصوغها "تشكيليا" – وصار ارتباط الشعر بالرسم حقيقة راسخة ومعلما حداثيا يميّز الشاعر الحديث – ليستفيد من معاني أشكالها المظهرية ومن معانيها اللغوية المعبّرة عن فعل اندهاش اللاشعور البدائي – ولاشعور الشاعر هو الوحيد الذي يبقى بدائيا بين البشر وذلك في لحظة الخلق الرهيفة -.

... أقول إن السماوي استفاد تشكيليا من رسومات علامات الترقيم ليخلق سلسلة من صور التحولات الانمساخية التي أصابت شعوره باعتباره الذاتي وهو يقف مشيعا جثمان بلاده بنظرة الوداع. ولأن الثقافة مترابطة في مكوناتها، ولأن الأدب هو مفتاح من مفاتيح دراسة الشخصية القومية، فقد أحالني هذا " القبر الطائفي " الذي يتحدث عنه يحيى إلى التحذيرات الكثيرة التي أطلقها العلامة الراحل "علي الوردي" من أن الطائفية ستتفجر يوما في العراق وستبتلع كل شيء، وذلك عبر خمسين عاما من عطائه الثقافي، وهذا ما أثبته في مخطوطة كتابي "ورديات" والذي سوف يصدر بعد وفاة الكاتب إن شاء الله. ويقدّم السماوي هذه السلسلة" الترقيمية " لمراحل التشوّه الوجودي في حلقات مترابطة تنطلق من علامة التعجب لتمر بعلامة الاستفهام وعلامة الفارزة لتنتهي من خشية الإنكماش الختامي والمميت في علامة النقطة:

(دخلتهُ
وأنا منتصب القامة
مثل علامة التعجب
تجولت فيه
وأنا منحني الظهر
مثل علامة الإستفهام
فغادرته
وأنا ضئيل
مثل علامة الفارزة
خشية
أن أنتهي مجرد نقطة
في كتاب مقبرة
ممسوح السطور – شاهدة، ص 45و46).

ومن حيث لا يدري شعوريا، ومن حيث يدري تماما لاشعوريا، فإن استعارات العلامات الترقيمية هذه لم تنبع من إدراك الشاعر لتعبيراتها الشكلية المظهرية، اتنصاب علامة التعجب، وانحناءة هامة علامة الاستفهام، وضآلة الفارزة... ولكن في العمق تلوب المحمولات المضمونية. فليس عجبا أن جذر التعجب (عجب) يعني قاموسيا المرأة العجباء والإستكبار والزهو والكبر، كما أنه يعني مؤخر كلّ شيء وأصل الذنب عند رأس العصعص، كما يعني الغليظة من النياق. وكأن رسم علامة التعجب قد اكتمل الآن مبنى ومعنى. وهذا سيحيلنا إلى جانب من فرضية حول نشوء اللغة والمتمثل في أن التسميات لم تأت من الخارج وفق مواصفات " الشيء " المسمى حسب، بل – وفي جانب كبير منها – مسقطة من خصائص الجسد البشري على مكونات الطبيعة. وليس عبثا أيضا أن جذر السؤال (سأل) يعني طلب واستعطى واستدعى، ويعني الحاجة والمطلب.. وأن تستعطي أو تطلب حاجة يعني أن عليك أن تحني هامتك قليلا أو كثيرا. كما أن من النتائج الحتمية لهذه الفرضية أن يكون من معاني جذر الفرز هو القطع والعزل والطريق في الأكمة ( الوحشة والإنفراد !! ) والشق في الأرض الغليظة، والرغيف يسقط في التنور، وفتات الخبز، وقِطَع العجين.. إلخ، وأن يكون من معاني النقط التلاشي شيئا بعد شيء والتفكك والمرض.... والناقط والنقيط هو عبد العبد !!. وحين تلاحظ الصورة الأخيرة:

(خشية
أن أنتهي مجرد نقطة
في كتاب مقبرة
ممسوح السطور!) 

فسنجد سمة أسلوبية مركزية تميّز الفعل الشعري للسماوي، وهو إحكام ارتباط استهلالات وبدايات الصور والقطع والقصائد بخواتيمها، معزّزا وحدتها العضوية. وهذا ما أشرت إليه مرارا كخلل خطير في فهم الشباب الذين يكتبون قصيدة النثر من الذين وقعوا في المصيدة ذاتها التي يعيبون على القصيدة العمودية الوقوع فيها سابقا وهي أنها – أي قصيدة العمود هي قصيدة بيت، وهي نص منضد بيتا فوق بيت بحيث أن رفع أي بيت أو تقديمه على أي بيت آخر لن يخل بوحدتها العضوية – فصارت قصيدة النثر قصيدة صورة، صورة منضدة فوق صورة أخرى بحيث أن إزالة أي صورة من النص أو تقديمها على سابقتها لن يطيح ببنيتها. لقد بدأ يحيى قصيدته بالنظرة المشيعة الختامية إلى جسد بلاده وهو يُدفن في " المقبرة " الطائفية، وانتهى إلى إعلان من أن ينتهي مجرد نقطة ضئيلة في كتاب " مقبرة " ممسوح السطور. ثم انظر إلى الكيفية التي تتنقل فيها روح " المقبرة " وإيحاءاتها السوداء الخانقة عبر القصيدة كلّها لتصبح أولا " زنزانة "، أليست الزنزانة مقبرة صغيرة ذات قضبان؟.. ألا يتآكل فيها وجود الإنسان و"ينقبر "؟. الشاعر القدير " لا ينسى " كل مفردة ولكل صورة وأي نأمة معنى. والوصف الذي قاله " أندريه بريتون " عن الضوء المشتعل في غرفة الشاعر بعد منتصف الليل والقطعة الصغيرة المحذّرة " الشاعر يعمل" المعلقة على الباب هي ما تعكسه دقّة السماوي، الشعر سهر وعمل وعرق وعلم، ولكنه العلم الذي يتعالى على كل العلوم. يحول يحيى المقبرة إلى زنزانة يتمنى أن " يغفو " فيها لأنها أفضل من وطن لا أمان فيه:

(إن زنزانة أغفو فيها آمنا
لأوسع عندي
من وطن
لا أمان فيه... – شاهدة، ص 46).

وحين تتأمل استخدام الفعل " أغفو " بدلا من " أُسجن " وهو المناسب لحالة السجن في الزنزانة، فسنستقي من الغفوة عدوى تحيلنا إلى النوم الأبدي في القبر. لكن لم هذه الأمنية المميتة؟ خياران أحلاهما الموت !! والإجابة التي يقدّمها السماوي تحيلنا إلى ظاهرة أوسع شديدة الخطورة وتتعلق بسمة " التضاد الوجداني - ambivalence" – وليس الإزدواجية - الفظيعة التي تسم الشخصية العراقية. فمنذ فجر تاريخ هذه الأرض وإنسانها المبتلى يواجه حالة التضاد التي تقض مضجع روحه حالة الاختيار الممزق.. ثمار فردوسه دامية وجحيمه في جنته و في شرّه. والمحنة التي يحيلنا إليها السماوي لا تتمثل في تصارع الأطراف السلبية والإيجابية حسب، بل في عدم القدرة على " التمييز " بينها:

( كيف لي أن أميّز:
بين سيف " عروة بن الورد " وسيف " هولاكو"
بين " عمامة الحسن البصري " و" قلنسوة تيمورلنك "..
بين " الحرّ الرياحي " و " زياد بن أبيه "
بين لحية مخضبة بالديناميت
وأخرى محناة بدموع النسك
بين البرتقالة والقنبلة
بين " العربي " و " العبري "
بين " سيجار جيفارا " و " مسواك السياف "
بين الخيط الأبيض والأسود – شاهدة، ص 46و47 ).

إن الشاعر يضعنا هنا – وهذه من سماته الأسلوبية التي تحدثنا عنها في دراستنا عن مجموعته " مسبحة من خرز الكلمات " – أمام سلسلة من الطباقات.. طباقات معنوية تاريخية وحياتية يومية، تاريخية يقابل فيها بين نماذج إيجابية وسلبية، وحياتية راهنة يقابل فيها بين متغيرات وأدوات جاء بها وحش الاحتلال فخلطت أوراق الموقف بصورة عنيفة. ونتيجة كل هذا الإيغال هو تعزيز سمة التضاد الوجداني السلبية التي تُربك المواطن العراقي عبر تاريخه. وحتى عندما يفصح الشاعر بدرجة أكبر عن أطراف عملية التناقض القائمة في شكلها الراهن محدّدا طرفا سلبيا واحدا استبدل بطرف إيجابي آخر، فإن الضباب الذي يغلف عملية الاستبدال هو الذي يشوّش الرؤية وتحديد شواخصها المستقلة:

( كيف لي أن أميّز
...................
إذا كان الدخان
يمتدّ من نافذة الصباح
حتى ستارة الليل
والقائمون على أمره
قد استبدلوا " صورة الكرسي "
بـ " آية الكرسي "
و " الحجر الأبيض " بـ " الحجر الأسود "؟ - شاهدة، ص 47 ).

هكذا هي محنة إنسان هذه البلاد.. هو دائما في حالة اختبار تمزّق الإرادة.. وليس من التعدّي ذكر ما كتبه أرسطو ودانتي والفيلسوف ( بوريدان ) عن الحمار الذي ترك في الإسطبل مع كيسين ممتلئين بالعلف واحد على اليمين والثاني على اليسار، فمات جوعا لأنه لم يستطع أن يقرّر بأي الكيسين يبدأ. ولكن الكيسين الآن فارغان. وقد يقول قائل إنك تغالي حين تقول ذلك، كما أن السماوي ذاته يغالي أيضا حين يشير إلى أنه لا يستطيع التمييز بين اللص والناطور بقوله:

( كيف أميِّز
بين اللص والناطور
إذا كنت مفقوء العينين
في وطن
أضحى مرعى للملثمين؟ – شاهدة، ص 47 ).

لكن العامل المربك الذي يشل إرادة التمييز ( فقء العينين ) هو سبب في ضبابية الحالة التي يعيشها الإنسان هنا، فقد جاء الإحتلال ختاما لسلسلة من العقود التي شرخت الشعور بالمواطنة الناضجة والناجزة لدى المواطن العراقي، ومحاطة بستار دخاني كثيف من المبرّرات والوعود والترهيبات والمغويات والاختراقات. ومن جديد فإن الشاعر لا ينسى، في المناخ الكلي الذي سيطر على أجواء القصيدة، ولا في التعبير اللغوي التفصيلي حالة الموت، موت وطنه، ولا نظرة الوداع الأخيرة. ففقء العينين الذي يعاني منه، والذي جعله لا يميز بين اللص والناطور، هو نوع من الموت، من الإنقبار حيا إذا ساغ الوصف، هو انخصاء نفسي منهي. إن العينين المفقوءتين بما تمثلانه من فقدان للقدرة على التمييز هما مقلوب حالة نظرة الوداع التي استهل بها الشاعر قصيدته مشيعا بها جثمان وطنه وهو يُلقى وبلا رحمة في مقبرة الصراع الطائفي الطاحن. ولكن مقبرة العيون هذه تقابلها مقبرة من نمط مغاير شكلها لا يشي بالعمى الفعلي، ولكن بعمى رهيب في البصيرة ويتمثل في الملثمين المتوحشين الذين يشكلون مقبرة للروح الإنساني ومدفنا للمحبة والتسامح.  
وقفة أوسع مع الموقف التنبؤي:

وللموقف النبوئي أو الاستشراف النبوئي للمقبل من الوقائع بوجهيها: الخلاصي الإنقاذي أو الإرتكاسي المميت، جوانبها المربكة في شعر السماوي. في الإبداع لا محل للتقارير الإستشرافية الدقيقة التي تأتي كتقارير دوائر الأنواء الجوّية – وحتى هذه عرضة للزلل – ولكنها تأتي كتوقّع.. كاستشراف.. كحدس.. كتململ موجع في أحشاء الروح. لقد " تنبأ " جورج أورويل في روايته الشهيرة " حقل الحيوان " التي كتبها عام 1945 ووصفها بعض النقاد بأنها " الرائعة الخبيثة " بانهيار الاتحاد السوفيتي وما ستبعه من انفلات لا أخلاقي مدمّر على مسرح السياسة العالمية إلى حدّ التفاصيل الدقيقة. كما كتب الشاعر الكبير " أدونيس " قصيدته الشهيرة التي تحدث فيها عن انهيار أبراج نيويورك قبل وقوع أحداث الحادي عشر من أيلول / ديسمبر بأكثر من ربع قرن !! ولكن في كل نبوءة أو استشراف يقدمها المبدع هناك " نقص " ما. فهو ليس فلكيا وغير معنى بتأثيرات قوى الإدراك الحسي الخارقة - extrasensory perception ، إن لاشعوره يعمل كمشغل تشتبك فيه التساؤلات عن معنى وجود الإنسان والنهايات الممكنة ضمن إطار وضع اجتماعي مأزقي محدّد. ولهذا نجد توقعات السماوي كانت تتراوح بين الأمل والرجاء من ناحية واليأس والتشاؤم الخانق من ناحية أخرى. والسبب هو حالة التضاد الوجداني التي أشرنا إليها والتي هي من سمات شخصية الفرد العراقي. وأمام يحيى – والأهم انعكاسات هذا " الأمام " على لوح نفسه فائق الحساسية – كانت تضطرم المتناقضات المدوّخة حدّ غثيان الإدراك. فنجده يعلن في مجموعة شعرية واحدة هي الأفق " نافذتي " – الصادرة في استراليا في كانون الأول من عام 2003 أي قبل احتلال بغداد بشهرين – عن توقعات نبوئية متصارعة. فهو تارة يطلق تفاؤلها صادحا وقويا يقفز فوق كل مظاهر الخراب، ليعلن بملء فمه أنه قد ملأ يد روحه من أمل التغيير والخلاص كحتمية تاريخية لن يعطلها أي ظرف، سوف يزول الطغيان وسوف تعود حبيبته بغداد بهية ودارا للسلام كما كانت رغم المشانق والحرائق والقهر والسل والطاعون:

( متفائلٌ
رغم المشانقِ والحرائقِ
واجتياح ِ السُّلّ ِوالطاعون ِ
والقهرِ المبرمج ِ
رغم هذا الليلِ والكابوسِ
والعيش الزؤامْ
متفائل أن الغد الآتي سيشهدُ
من يعيد الماءَ للناعورِ
والناعورَ للبستانِ
والبستان َ للكفِّ التي حرثتْ
وأن حبيبتي بغدادَ
سوف تعود ثانية كما كانت تُسمّى
في قواميس المدائن والهوى

" دار السلامْ " – مجموعة: الأفق نافذتي، قصيدة سأنام مغتبطا " – ص 180و181).
ولكنه في تارة أخرى يفصح وبجلاء عن التوقّعات المناقضة. هنا وخلاف ما يصله من إشارات متفائلة زائفة من بغداد الأم عن واقعها المُعاش، عن الربيع الآتي الذي سينعش الآمال، نجده يؤكد أن خريف الخراب القائم – وليس ربيع النماء المرجو – هو الذي سيدوم على أرض الرافدين لألف عام !! وآية ذلك أن الموت في كل مكان ولكأن العالم الأسفل قد لفظ أحشاءه وقاء محتوياته فأصبح الشاعر محاصرا بجثة من الخلف ومقبرة من الأمام: 
 

( لي ما يبرّر وحشتي
بغداد تُطنب في الحديث عن الربيع
ونشرة الأخبار تنبيء عن خريف
قد يدوم بأرض دجلةً ألف عام ِ..
وأنا ورائي جثة تمشي
ومقبرة أمامي – مجموعة: الأفق نافذتي، قصيدة: لي ما يبرر وحشتي هذا الصباح، ص 111 ).

وقد يقول قائل إنك قد بالغت وأربكت وجهات نظرنا التي نحملها عن معنى النبوءة، وهذا صحيح حين نأخذ هذا المعنى المؤصل كإخبار عن الغيب بإلهام من الله، ولكنه غير دقيق عندما نضع أمام مداركنا أن إلهام الشاعر يأتي من " إلهه " – والأصح شيطانه – الرابض في مجاهل لاشعوره أولا، وأن هذا اللاشعور لا يعمل كسطح راداري فائق الحساسية بحيث يحدّد أنواع الأجسام التي تدخل مجاله الجوي بدقة مفرطة، ولكن على طريقة جهاز ترتجف مؤشراته منذرة ومحذّرة من أن كارثة ستحصل، ثم تحصل ويترك لنا العمل الواعي لتحديد مكان وزمان الرؤيا. وما سيحسم هذا الإلتباس هو ختام قصيدة السماوي: " حلمتُ يوما " وفي المجموعة نفسها:

( حلمتُ يوما أنني العراقْ
وحينما فركت أحداقي
تخثّرت على أجفانها الأهدابْ
وكان ما بيني
وبين الله في المحرابْ
" أبرهةُ " الجديد في " الكرخ "
وفي " الرصافة " الذئابْ – ص 58و59 )

فما الذي سيقوله المعترضون؟ ما الذي حصل للعراق بعد شهرين فقط من " رؤيا " السماوي هذه؟ وأبرهة كما هو معروف للجميع رمز للغازي الذي جاء ليحتل بيت الله.. وقد جاء واستقر في " الكرخ " في المنطقة الخضراء ".. وأعطى الإشارة لذئاب الموت تنهش لحم العراقيين في " الرصافة " !!.. 

لعبة الطباقات والجناسات الجديدة:

أود الآن أن أقف وقفة تفصيلية على سمة أسلوبية محورية لدى الشاعر و ترتبط بالتمظهر الآسر للعبة الطباقات والجناسات الجديدة البليغة التي أشرت إليها والتي هي من السمات الأسلوبية الحاكمة في المنجز الشعري ليحيى السماوي، تهمني العودة إلى أنموذج نصّي أقدم في مسيرة يحيى الشعرية المديدة والغزيرة، ولكن بمعاني المنجز المقاوم القريب الذي أعقب الاحتلال ويتمثل في قصيدة من شعر التفعيلة هي " نقوش على جذع نخلة " الطويلة ( 25 صفحة من القطع الكبير ) والتي تضمنتها مجموعته الشعرية: " قليلك لا كثيرهن – جدّة – الطبعة الثانية – 2007 ". في هذه القصيدة – وسأتناول ما له صلة باللعبة الطباقية حسب لكي لا نشتت مسار بحثنا - بناء باهر ولا يُضاهى لعملية الطباقات – بأنواعها المختلفة – التي تتوسع من المفردة اللغوية لتشمل الظواهر الكونية مرورا بالواقعات الجسيمات التي تعصف بوطنه وصعودا إلى المعضلات الوجودية المؤرقة. وبدءا من العنوان: " نقوش على جذع نخلة " والذي أعود إلى القول إنني لا أؤيد – بشكل كبير – الأطروحة البنيوية الشائعة التي ترى أن العنوان ثريا النص على طريقة أن " المكتوب يُفهم من عنوانه "، فلا يوجد عنوان يكشف مكنونات النص بصورة جامعة مانعة إلا إذا أكملنا الصورة الكلّية – GESTALT" التحليلية للنص، حيث نضع العنوان بعدها في موقعه الطبيعي وعندها سنندهش في كثير من الأحيان لأن هذه الصورة الكلية هي التي ستضيء العنوان وليس العكس. وإذا كان المكتوب يفهم من عنوانه وكان العنوان ثريا تتكفل بإنارة زوايا النص المعتمة، فقل لي ما الذي يوحي به إليك عنوان رواية الروائي الكبير " فؤاد التكرلي " " خاتم الرمل "؟ إن خاتما من رمل يوحي فورا – من الناحية الرمزية - بانفساخ العلاقات وتبدّدها وعدم الولاء وانحلاله و.. و.. إلخ من المعاني الفنائية، لكن ما سنراه هو في الموقع المناقض لكل هذه المعاني، سنجد خاتما محارميا يربط الإبن " هاشم " بأمه المتوفاة حدّ استقباله بهدوء وجلد رصاصة في قلبه رغم تحذيره بصورة متكررة – راجع كتابنا عن التكرلي -. الهام هنا هو أن لا ننقاد مستسلمين للأطروحات الغربية المغوية وأن نمحص ونراجع وندقق. فما هي النقوش التي نرسمها على جذع النخلة؟.. إن النقش الأول الذي يحفره السماوي – ينقشه أكثر مما يرسمه لأن فعل الرسم ملطّف وظاهري – هو طباقات مبهمة رغم أنها شديدة التحكم في حياتنا ووجودنا، وهي مما لا يُنقش عادة على جذع نخلة في أي مكان من العالم، فكيف الحال في العراق.. وجنوبه تحديدا الذي يؤمن أهاليه البسطاء بأن أي شظية تصيب جذع النخلة تميتها !! - هل ظهرت هذه الخرافة بفعل الحروب، خرافة تؤسطر النخلة كأم وخلاصة لوجود هش تمحقه شظية.. هل هي تعبير عن صرخة جزع هي: كفى لأن غولة الحرب توشك أن تبتلع الوجود الأمومي كاملا؟ -. ينقش السماوي المقطع الأول على جذع نخلته:

( الكون مرآة ُ..
كل النهاياتِ بداياتٌ
إذن؟
كل البداياتِ نهاياتُ..
وتلك آياتُ – مجموعة: قليلك لا كثيرهن،قصيدة: نقوش على جذع نخلة، ص 171)
نحن هنا قبالة موقف وجودي ذي طبيعة صوفية.. موقف دائري.. بمعنى كمال معضلة وجودنا التي تبدأ وتنتهي عند ذاتها أو عند نقطة انطلاقها.. هذا الكمال الدائري هو الذي جعل الشكل الدائري هو أرقى أشكال الجمال – وهكذا استرجع الآن صيحة بائع الرقي البسيط وهو يمر أمام بيتنا الخرب في الديوانية: " من حلاوته مدعبل " !!، وهذا هو الذي جعل أعظم مدن العالم مدوّرة: بغداد المحروسة وروما وباريس.. إلخ -.. لكن ترتيب النتيجة / المقدمة الصغرى في الظاهر والكبرى بالمعنى النفسي والوجودي على هذه المقدّمة الكبرى وفق التعبير الأرسطي – نسبة إلى المنطق الصوري لأرسطوطاليس - هو الذي يقودنا إلى نقشٍ ثانٍ أكثر عمقا ولا يمكن أن يحفر على جذع النخلة العادية – وأرجو الإنتباه إلى مواضع علامات التنقيط -:

( أتستحق هذه الحياة أن يعيشها الإنسانْ؟
مِسخاً.. ذليلا.. خائفا.. مُهانْ؟
...
في حفرة ضيّقة يأنفها الحيوانْ
مختبئا كان... وكان الموت والنيرانْ
يحتطبان الناس والبستانْ
 ...
ليس شجاعا ليقرّ أنّه جبانْ – قليلك لا كثيرهن، ص 172 ).

إن تشكّلات دائرية الطابع ومضافة يستمدها الشاعر من البناء المركزي الهيكلي الاستهلالي.. ولكنها تشكّلات خرابية المضمون مزّقت محيط الدوائر المبهمة الافتتاحية. لكن مادامت كل النهايات كانت – أو " تكون " بدايات – وكل البدايات – كنتيجة – تكون – أو " كانت" نهايات - فإن خواتيم حالنا المتردّي هو دائرة مهانة، نهاياتها المنخذلة تكمن في بداياتها المنحطة.. ملتفة على ذاتها. بل أنها ليست بحاجة لنهاية ولا لبداية.. هي نقطة هائلة إذا عدنا إلى جذرها اللغوي – وانظر أيها القاريء الكريم إلى عبقرية اللغة العربية، هذه اللغة المحتقرة والمضيّعة خلف أستار الهجمة الحداثوية التي تشهّر بجمودها وانحصار معانيها ورتابتها ولعب مترادفاتها و... إلخ – فسنجد أن من دلالات النقطة دوّامة التآكل.. تقول العامة: نقط الإناء أي قطر.. وتنقطتُ الخبز: أكلته نقطة نقطة.. أي شيئا فشيئا.. والنقطة نفسها كرة صغيرة توضع فوق أو أسفل الحرف فتثقله بالمعاني.. والأهم أن التقطير يستخلص روح الشيء أو الظاهرة، يستنزفها مثلما يستنزف استمراء الذل والانسحاق والخوف - كما يقول يحيى - حياة الإنسان المستخذي ليحوّلها من دائرة هائلة - أو يمكن أن تكون كذلك بالمداومة العزوم - مفعمة بالرفعة والعز والكرامة، إلى نقطة.. شرخ.. أو ثقب يرشح منه مصل اعتباره الذاتي.. وإذا لاحظت الفواصل المنقّطة بدقة فستكتشف وظيفتها الدلالية المهمة.. فهي ليست نقاطا مجردة.. بل مفردات.. بل أبيات ٌ مُعادة الإيحاءات.. كلام شعري مضاف وشارح.. فبعد أول بيتين يأتي سطرا التنقيط ليضاعفا من انفتاح حركة التساؤلات عن معنى أحقية هذه الحياة في أن يعيش الإنسان فيها مذلا مهانا - حسب التوصيف الرائع لدستويفسكي في روايته " مذلون مهانون " -، أما سطرا التنقيط اللذان يعقبان الأبيات الثلاثة التالية فإنها توسّع رؤية الشاعر حول الحفرة – وهذه عودة، لنسمّها استباقية، لموضوعة " المقبرة " – المذلة والموحلة التي تسقط الإنسان فيها استمراؤه لـ " نعم " الضعف والمهانة. نصل بعد ذلك إلى انكشاف " التركيب " الشعري والمبدئي الذي يرتئيه الشاعر، وينقشه على جذع نخلة قصيدته:

( ما قيمة التحرير ِ
إن كان الذي هبّ إلى نجدتنا
حرّرنا
واعتقل الوطنْ؟
 ...
 ...
ما شرفُ اليد التي تُبعد عن أعناقنا القيدَ
وعن عيوننا الوثنْ
حين يكون الوطنُ الثمنْ؟؟ - قليلك لا كثيرهن، ص 172و173 ). 

وهنا يأتي سطرا التنقيط ليراكما طبقات التساؤلات عن معنى أن يأتي من " يحرّر " وطننا، ليلقي الوطن نفسه في زنزانة الاحتلال؟؟.. نقاط تفتح دائرة التساؤلات لتطلق منها سهام التساؤلات المفزعة عن معنى أن نعود بعد عقود إلى الوقوع في جب مظلم شديد التعاسة خرجت منه الشعوب وخلصت من " الحلقة المفرغة – viscious circle " التي دمّرت ثرواتها وضيّعت أرواح أبنائها ومحقت مستقبلهم وداست آمالهم. وهذه الحلقة المفرغة يعود الشاعر إلى تجسيدها الآن شعريا بصورة تزاوج بين تعبيرات القلق الوجودي التي بدأ بها القصيدة، وبين شحنات الخوف على وطنه الأم الذي أصبح مسيحا يُمثّل به، ولماذا مسيحا وليس حُسينا يُقتل عطشا وتُقطع رأسه وتُدار بها أمثولة في الأمصار بطريقة لم يشهدها التاريخ؟:

( لا ماءَ في النهرِ.. ولا أمانْ
في الدارِ..
والبستانْ
مكبّل الظلال والأفنانْ
 ...
 ... 
جريمة المُثلة بالأوطانْ
ليست أقل في كتاب الله
من جريمة المثلة بالإنسانْ – قليلك لا كثيرهن، ص 173 ).

وتبدو الحياة البشرية بأكملها خطيئة حين تعيد تفاصيل - أو حتى الملامح العامة - واقعة المهانة التاريخية التي عاشتها الرموز المخلّصة. لقد زرعت هذه الرموز في نفوسنا الشعور بالمهانة.. فقد عُذّبت في الوقت الذي استرخينا فيه على أفرشة الاستكانة.. وقُطّعت في الحال الذي احتفظنا فيه بسلامة أجسادنا غير شاعرين بتشظّي كرامتنا وقيمنا.. راحت ضحية كسر" الطباقات " الوجودية والحياتية المهادنة، صارت ضحية تناشز البدايات عن النهايات. 

لكن الشاعر ينهج نهجا جديدا مضافا في طباقاته فهي ليست طباقات إيجاب (لا يختلف فيها الضدان بالنفي) صفات أو أحوال متضادة كقول الله تعالى " وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " (سورة الكهف / الآية 18)، أو أفعال متناقضة كما في قول الشاعر:

لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب برأسه فبكى

ولا طباقات سلب (حيث يكون التضاد بين المعنيين بالنفي والإثبات) ولكنها طباقات معنوية إذا جاز الوصف من ناحية، وصوري (في الصورة الشعرية) من الناحية الثانية. ففي قصيدته (أنا مثلك يا أنطوان..) التي أهداها إلى صديقه الشاعر أنطوان القزي، يصرح الشاعر بأنه مثل صديقه يدين كل الحروب مهما كانت أنواعها ومبرراتها، ولكنه يؤيدها إذا كانت حرب:

(النور على العتمة 
الصعاليك على الأباطرة
البطون الخاوية على المتخمين
الربيع على الخريف
المطر على الجفاف
والمحبة على الضغينة – شاهدة، ص 88 ).

ثم ينتقل إلى " مطابقة " الصور الباهرة والأفكار والمعاني التي تتضمنها، كما يحصل – على سبيل المثال لا الحصر لأن الأمثلة كثيرة – في قصيدة " المدجّج بالعشب والأقحوان):

(متى نشيد مدينتنا الفاضلة
إذا كان الأباطرة
يهدمون حيّا كاملا
كلّما أقام الصعلوك
كوخا طينيا؟
يحرقون حديقة على سعة العالم
كلما استنبت العاشق
وردة في مزهرية؟ - شاهدة، ص 59 ).

أو في قصيدة ( إعتذار متأخر ):

( أعتذر:
لتفاحة الرغبة قطفتها قبل الأوان
لصراط جنحت عنه بعربة نزقي
لليقين قيدته بحبال الظنون – شاهدة، ص 69 ).

ولا أعلم كيف يكون تناقض مفردتين في المعنى كافيا – حسب وجهة نظر البلاغة التقليدية – لكي يكونا من المحسنات المعنوية من دون أن يكونا جزءا من صورة كلّية تتجمع أطراف المعنى من خلالها ملتحمة بكلّ شكلها اللفظي وليس بأجزائه. ففي قصيدة " هذيان لا يخلو من حكمة " – في المقطع الرابع منها – تأتي صفتان متناقضتان هما: أوسع وأصغر، وهما طباق إيجاب، ولكن السماوي يضعهما في سياق صورتين شعريتين لا يمكن أن يكتمل دورهما الطباقي دون أن يكونا جزءا من كلّ يقلب دلالتهما إلى ما يعاكسها:

( آه... ما أوسع وطني
كيف اتسع
لكل هذه المقابر الجماعية
السجون
الجيوش
المرتزقة
الدجالين
اللصوص
والسفلة؟
آه... ما أصغر وطني؟ كيف أصبح منديلا في جيب سفير؟ - شاهدة، ص 40و41 ).

أعتقد أن الطباق الشعري تختلف مواصفاته عن الطباق النثري.
أما في مجال الثنائيات الجناسية، فهي قد تأتي " معنوية " بمعنى أن التكامل الجناسي لا يقوم على تطابق الشكل الحروفي كجناس تام (قال تعالى: يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة) (سورة الروم / الآية 55)، أو كجناس ناقص (قال تعالى: فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر) (سورة الضحى / الآية 26). ولكنها تستند إلى تكامل المعنى. هذا ما نراه في نصوص كثيرة جدا للشاعر مثل قصيدته: " كي نغفو مطمئنين دون كوابيس ":

(ستبقى حقولنا حطبا لمواقدهم
وصدورنا هدفا لرصاصهم
وسيغدو ربيعنا مأوى للخريف
ما لم نتحد اتحاد:
العطر بالوردة
الجذر بالطين
الخيمة بالوتد
والعلم بالسارية
وما لم نحصّن:
أنهار مسيرتنا بسدود اليقين
وبصرنا بالبصيرة – شاهدة، ص 120و121). 

 
كما أنها قد تأتي بصيغة جديدة كجناسات " مشهديّة " إذا جاز التعبير في الصورة الشعرية والأفكار والمعاني التي تتبعها. فالشاعر يكرّر حرف النفي " لن " لينفي به فعل الصورة الثانية بعد أن ينفي فعل الصورة الأولى بالحرف " لا ". في قصيدة أنا مثلك يا أنطوان..) يقول الشاعر:

(مثلك – أؤمن – يا أنطوان
أن الأيدي التي لا تجيد
غرس الرصاص
في صدور الطواغيت
لن تجيد غرس الفسائل في الواحات
والتي لا تُحسن نسج الأكفان للغزاة
لن تُحسن نسج مناديل العشق – شاهدة، ص 88 ). 

التوليد الصوري:

وهناك سمة أسلوبية أخرى من سمات الإبداع الشعري لدى السماوي تتمثل في " توليد " الصور والمعاني وفق صلات قريبة من صلات العلة والمعلول أو علاقات السبب والنتيجة. وفي بعض الأحيان، وهو الأكثر دقة، هو أنها صلات وعلاقات الدال بالمدلول تقريبا:

(القادمون من
وراء المحيطات
(.................... )
أفرغوا حنجرتي من الصوت
وعينيّ من الدموع
ومئذنتي من التراتيل
وصباحاتي من الألق
ومساءاتي من النجوم
وحديقتي من الورد – شاهدة، ص 35و36) 

وهنا يطول " نفس " القصيدة بحركات متسلسلة ومتوالية، حركات تمنحها إيقاعية داخلية آسرة. وتتكرر هذه الثنائيات كثيرا في نصوص السماوي مثل قصيدة " أكل هذا الكرم ويقولون العراق بخيل؟ " التي يحاول في مقطعها الأخير تصوير درجة الحرمان التي يعاني فيها من وطنه، وطنه الذي يطفو على بحيرات من الذهب، ويجوب على أرصفته فيه العدد الأكبر من الشحاذين في العالم، وطنه الذي يعدّه الناس واحدا من أغنى بلدان العالم في الوقت الذي لا يحظى منه سوى بالسخام والرماد والصفعات:

(لي من نفطه: السخام
من حقوله: التبن
من تنوره: الرماد
من بقرته: الروث
من عسله: الشمع
من بحار خيراته: الزبد
من سمائه: الرعود
من واديه: السبخ
ومن شرطته: الصفعات
عجباً !!!
أكلّ هذا الكرم ويقولون: العراق بخيل؟! – شاهدة، ص 105و106)

وعلى ذكر حالة "التضاد" هذه التي أسميتها " ثمار الفردوس الدامية " وهي التي ينطبق على حرمان العراقي من ثروات بلاده وصف " كالعيس في الصحراء " فإن أحد المفكرين " حمّل " بلاد الرافدين مسؤولية ويلاتها التي تنهال عليها وبلاء الأطماع الأجنبية التي تلاحقها عبر تعبير مجازي جميل حيث قال إن في بلاد الرافدين الكثير من العسل يجذب الكثير من الذباب (أحد اللصوص الجدد يبرر استمراءه سرقة أموال العراق بالقول: ما تخلص !!)، وهذا الحال يقلبه السماوي بصورة أكثر إيلاما من خلال استفهامه التعجبي:

(موائدنا تخلو من الدسم
قدورنا بيضاء
وأعذاق نخيلنا
لم تعد تسيل عسلا
فما الذي أغوى
كل هذا الذباب البشري
لدخول العراق؟ - شاهدة، قصيدة " هوامش في كتاب العمر، ص 144). 

الاستثمار الخلاق للموروث الجمعي:

ورغم أن الشاعر يعالج محنة راهنة مدمّرة تعصف بوجود شعبه، إلا أنه يمتح من مخزونات مختلفة لتوفير الشكل الملائم للتعبير الفني. من هذه المخزونات ما استقر في وجدانه من موروث قرآني شديد الغنى، موروث حاضر أبدا ويبقى على الشاعر أن يحدد الكيفية التي يوظّفه من خلالها. ولا أعلم سرّ ابتعاد الكثيرين من الشعراء الشباب عن هذا الموروث الذي يلامس وجدان المتلقي العربي أكثر بالتأكيد من رموز ومسميات توراتية وإغريقية:
 في قصيدة " إحباط " يستثمر الشاعر موضوعة اختلاط الخيط الأبيض بالأسود اللذين أضاع دخان المحنة قدرته على الفصل بينهما:

(كيف لي أن أميّز:
...................
بين الخيط الأبيض والأسود
إذا كان الدخان
يمتدّ من نافذة الصباح
حتى ستارة الليل – شاهدة قبر، ص 47 )

وتتمثل مقدرة الشاعر في مضاعفة المقابلة اللونية بين لوني الخيطين المجرّدين هنا: الأبيض والأسود من خلال مقابلة زمانية بين اللونين ولكن على مستوى اختلاط الحقائق.. حقائق نافذة الصباح البيضاء بإرباكات ستارة الليل السوداء.

 في قصيدة " العراق – عجّل الله فرجه – متى يخرج من البئر؟، يستثمر الشاعر، كما هو واضح، محنة النبي يوسف الذي ألقاه إخوته في غيابة الجبّ. ولكن الاستثمار البائس هو الذي يأخذ الدلالات الحرفية القديمة رغم غناها، في حين أن التوظيف المقتدر يجب أن يعيد إلينا القصّة أو الأسطورة محملة بإيحاءات جديدة تغنيها وتثريها. والسماوي هنا يضفي على هذا الرمز القرآني ما يختزنه في لاشعوره الجمعي من معطيات راسخة عن أسطورة المنقذ التي أنجبتها الثقافة الرافدينية وانتقلت إلى بقية الحضارات القديمة، فيجعل الخروج المنتظر من بئر المحنة مرتبطا بانبعاث الخضرة في الحقول والأمن والسلام، والخلاص من الغزاة وأدلاء الخيانة:

(العراق – عجّل الله فرجه – متى يخرج من البئر؟
فيعود الخبز إلى المائدة
والخضرة إلى الحقول
والزورق إلى نهر الضوء الصوفي
والأمن إلى البيوت
والمشرّدون إلى الوطن
والغزاة إلى بلدانهم داخل توابيت
أو على ظهور الخيبة
وخلفهم أتباعهم
كخراف خلف الراعي – شاهدة قبر، ص 79 ). 

ولن يربكنا استخدام الشاعر لشيء من موروثه الشيعي المتمثل في وصف – عجل الله فرجه – والذي يستخدم للإمام المنتظر لأن موضوعة الغائب المنتظر تجد جذورها في أسطورة الغياب والإنبعاث الممهورة باسم الإله دموزي / تموز.
 في قصيدة " ضعفاء ولكننا الأقوى " يعيد الشاعر إلى أذهاننا المواجهة بين فيلة أبرهة الغازي وطيور الأبابيل التي رمته بحجارة من سجيل فجعلته كعصف مأكول:

(.. فخذوا بنصحي:
عيونكم لا تقوى
على عواصف صحارانا
أفيالكم الفولاذية
لن تتحمّل " سجّيل أبابيلنا "
دارنا أصغر من أن تُقسّم
وأكبر من أن تُبتلع – شاهدة قبر، ص 99 ).

وهو اقتباس مباشر قد لا يبدو فيه شيء من الإثراء للثيمة المعروفة، لكن ما هو مميز في موقف الشاعر في هذه القصيدة هو وحدة المتقابلات اللغوية والصورية، طباقات وجناسات كما رأينا. وفي هذه القصيدة يلعب الشاعر على وتر مزدوجات نفسية جوهرها كمون القوة في التواضع والجبروت في الصبر، والظفر في التحمّل.. أي انبثاق ما هو غير متوقع من مظاهر القوة من المكونات البسيطة والصغيرة، ولهذا جاء وصف " سجيل الأبابيل " متسّقا عزّز رؤية الشاعر وحافظ على زخم القصيدة النفسي.
 وفي قصيدة " كلمات متقاطعة " يلتقط صفات معروفة ومتداولة جاءت في النص القرآني ليصوغ منها صورة، ودائما يتقابل فيها توظيفان يحملان درجة من الروح التحرّشية التي تشعل المقارنة بين الحالتين:

(نحن الصعاليك
سيماؤنا في وجوهنا
من أثر تحديقنا بالأفق
أما الأباطرة
فسيماؤهم في " مؤخراتهم "
من أثر التشبّث بالكرسي
متسبّبين في إصابة الوطن بالبواسير
هم يلوّثون الجدران بتصاويرهم
ونحنُ
نطرّز فضاء الوطن
بالفراشات – شاهدة قبر، ص 129 ).

وفي هذا المقطع – وهي من السمات الأسلوبية البارزة للمنجز الشعري للسماوي – هناك" إغلاق " معنوي للصورة التي بدأ بها، حيث قام الشاعر بتوسيع السيماء الأولى الناجمة عن التحديق في الأفق، وذلك من خلال السمة المتواشجة الأخيرة التي تأتي بضمير المتكلمين حيث تتوسع مديات الأفق بفعل إيحاءات زرع فضاء الوطن بالفراشات.
 وفي القصيدة نفسها يستعير صورة وتعبيرا قرآنيا يقلب دلالاتهما الأصلية ليصف السلوك المخزي لأدلاء الإحتلال، فهم بدلا من أن يتمسكوا بحبل الله صاروا يعتصمون بحبل المحتلين الغزاة، وبدلا من يتعففوا ويزهدوا صاروا يولغون في دماء شعبهم ويفترسون ثرواته:

(معتصمون بحبل الأجنبي
متعاونون على " المنّ والسلوى "
عاقدون العزم
على عقد الصفقات السرية
أهذا وطن؟
أم سوق نخاسة؟ - شاهدة قبر، ص 129 ). 

 وضمن استثماره للموروث الديني يوظّف ما هو راكز في لاشعوره من ثوابت مثل موضوعة الغائب المنتظر وهي – كما قلت – ذات مرجعية عراقية قديمة، سومرية تحديدا، فيصف غيبة العراق الصغرى في جب الطغيان ويقارنها بالغيبة الكبرى التي طوحت به إلى جبّها عاصفة الإحتلال. ولعل في استعارة صفة لها قداستها (عجّل الله فرجه) وإضفائها على العراق يمثل – رغم الانجراح الواضح – مزيجا من شحنة طاغية من نفاد الصبر ورعشة مهابة لائبة. وفي السنوات الأخيرة، ومع اشتداد لهيب المحنة صارت تتزايد محاولات الشعراء في استعارة ما هو مقدّس ومنحه إلى ما هو يومي أو أرضي. مؤخرا أهدت الشاعرة العراقية (نجاة عبد الله) مجموعتها الأخيرة (ذات وطن) التي ستصدر قريبا إلى (وطني السعيد: العراق عليه السلام).
 
العزف على أوتار الفكرة والصورة:

ومن خصائص الفعل الشعري للسماوي عموما وفي مجموعته هذه خصوصا هو أنه يعيد الطرق على أوتار الصورة التي يصوغها في نص معين في أكثر من موضع ووفق سياقات جديدة. إنه يقلّب الصورة على أوجهها المختلفة غائصا في عمقها، مستخرجا معان جمالية ومضمونية مضافة. وتهمني إحالة القاريء إلى مسألة هامة وهي أنه ليس عفويا أن الشاعر قد افتتح مجموعته هذه بقصيدته الطويلة التي يرثي بها أمه التي رحلت إلى العالم الآخر وهو في المنافي – راجع دراستنا عنها: الرثاء في الشعر العراقي المعاصر -. إنها حركة مقصودة ومصممة مسبقا. فرحيل الأمومة يعني في مغازيه العميقة رحيل المكونات المركزية في الحياة.. حياة ستفقد رمز خصبها ونموها.. تفقد الرحم الحاني المنعم بلا حساب.. تخسر العدالة والحق والحب.. فكل عطايا السلام والحب والأمن والفن في الحضارات هي عطايا الأنوثة المباركة، أما نفثات العدوان والخراب فتأتي من عمق سيكولوجية النفس الذكورية المحملة بالعدوان.
وكون الشاعر قد هز مقومات وجوده احتلال بلاده فإن أفضل ما يمكن أن يلخص أبعاد هذا الاحتلال هو رحيل أمّ. بلاده هي أمّه التي تُحتضر وهو بعيد عنها يرقبها بروح جريحة، بعد أن ثُكل برحيل أمه الأصلية وهو بعيد عنها أيضا. إن رحيل الأم يعني أن الموت سيصبح حقيقة بعد أن كان الفرد ينكره لاشعوريا. ولهذا تجد أن شبح الموت متسيّد في نصوص هذه المجموعة، مثلما تتسيد تمظهراته اللغوية مثل المقبرة التي كانت مفردة مفتاحية في النص الأول: شاهدة قبر، والنص الثاني: هذيان قد لا يخلو من حكمة.. ليعود الشاعر ويتناولها في النص الثالث: إحباط. ويستمر السماوي في تكرار استثمار موضوعة الموت وتمظهراتها المركزية: اللغوية والرمزية في النصوص المتبقية. فحتى في قصيدة " إخوانية " مثل " المدجج بالعشب والأقحوان " يهديها إلى صديق له يؤكد بأن المقابر سوف تتناسل كالطحالب:

(يقينا أن حرير الصبر
سيغدو حسكاً
والمقابر سوف تتناسل كالطحالب
ما لم نكن
نهرا يهزأ بالمسافات
لا ناعورا يدور حول نفسه – شاهدة، ص 58)

وقد يقول قائل إن الاستدراك الأخير يعكس نظرة تفاؤلية تجهض اليقين الخرابي الأول، ولكن الشاعر يعود سريعا ليؤكد المنحى التشاؤمي:

(أجزم أن الناعور
عراقي الولادة والنسب
ليس لأننا الأمة الوحيدة التي مابرحت
تدور حول نفسها من قرون
دون أن تجتاز العتبة
إنما:
الوحيدة التي تكتفي بالصرير
وبصهيل حصان معصوب العينين
بينما الغرباء يلغون في نهرها – شاهدة، ص 60و61 )

وفي قصيدة: " أربعة ألواح من طين الوجع " يتأكد ما قلته من أن الشاعر لا يترك الصورة تذهب بعد معالجة واحدة ولكنه يعود ليعتصرها حتى ثمالتها الجمالية والصورية والفكرية. فقد تحدث في قصيدة " إحباط " عن الكيفية التي دخل فيها إلى الوطن كعلامة تعجب وخرج منه بمخاوف أن يتحول إلى نقطة في كتاب المقابر، فإنه يرجع ليصور لنا كيفية ثانية لدخوله وخروجه إلى وطنه المغتصب:

(عدتُ ولا بـ " خفي حنين "
دخلته وأنا تابوت
وغادرته وأنا مقبرة – شاهدة، ص 72 ).

وإذا وقفنا عند هذا الحد فستكون استعادة الصورة السابقة تكرارا مباشرا لا جديد فيه. ولكن لو أخذنا – من جديد الصورة الكلية، فسنجد معالجة فريدة مشبعة فنا ورؤى. فهو مبتلى الآن بالكيفية التي يخرج بها وطنه من " وطنه "، إننا أمام مشهدية تلتقط بعدسة عين الفكرة السينمائية، وقد كثرت أيضا فكرة نقل " جثة " من الوطن إلى خارجه، أو من مكان، إلى آخر وبالعكس. ولكن السماوي، وبقدرة كلّية سحرية يريد نقل وطنه العراق كاملا من " العراق " إلى المنافي، وكأنه يريد توسيع تجربته الشخصية الباهظة فيمنحها بعدا خارقا وجسيما في أبعاده الجغرافية والمعنوية. ولكن هذه العملية الإنقاذية التي هي هروبية الطابع تُجهضها حتى قبل أن تبدأ احتمالات المخاطرة والإنكشاف التي تعظّم خصائص " الفقيد " المهرّب وعلاماته الفارقة:

(المعضلة:
لا خيمة منفى تتسع له
ولا عربة تقوى على نقله
وحتى لو تدبّرت له جواز سفر مزوّر
فإن علاماته الفارقة
ستكشف عن هويته
في أول نقطة تفتيش
لذا
تركت الوطن وديعة
عند السيّد الزمن – شاهدة، ص 72و73 ).

وهناك التعبيرات المفرداتية عن موضوعة الموت التي تشيع في أغلب نصوص المجموعة مثل: المآتم، الموتى، الجثة، التابوت، الدفن، الخراب، القتل..إلخ. - وهناك إعادة توظيف للفكرة.. للرؤية الداخلية.. للموقف الوجودي في صورة شعرية مغايرة تثري الصورة الأولى وتغنيها. وهنا تتجلى جوانب مهمة من قدرات الشاعر الذي يحمل رؤيا ( بالألف ) تحكم فعله الإبداعي وتجيب عن السؤال الخطير: ( لماذا أبدع؟ ). فكونك تحمل رؤيا عن أبعاد معنى دورك كخالق في هذه الحياة سيتيح لك استكشاف أوجه مضافة وأكثر عمقا لموقف فكري أو نفسي أو وجودي أو حتى ظاهرة حياتية بسيطة كنت قد نظرت إلى وجه محدّد منها سابقا. فمن ينتبه إلى ملاحظة مستخفة في الظاهر وشديدة الحكمة في الباطن إلى أننا نجلس على أعظم العروش بعجيزتنا، سيكتشف القيمة الزائلة والمتهافتة للقوة والتسلط. يقدم السماوي هذا الموقف البليغ مشخصا إياه من خلال مقابلة الإمبراطور بالشحّاذ إمعانا في إهارة الإنتفاخ السلطوي من ناحية وتوسيع دلالات الموقف الجمالية من ناحية أخرى:

(أيها الإمبراطور:
لا فرق بينك وبين الشحاذ
فكلاكما يجلس على عجيزته
الفرق:
بين رياش كرسي الأبنوس
وحجارة الرصيف
فعلام عجرفتك؟؟ - شاهدة، قصيدة: أيها الإمبراطور، ص 65 ).

وبعد عدة قصائد يرجع الشاعر إلى التوقف عند الحكمة التي تحفظها أحط أعضاء الإنسان قيمة. وفي كتاب الجراحة الشهير المقرر على طلبة الطب في أغلب كليات الطب في العالم تقرأ " الحكمة " الأولى على الصفحة الافتتاحية: " ربي إذا أردت أن تقبض روحي، فلا تأخذها من خلال إحليلي ". وبالمناسبة فإن كلّ الطغاة لديهم – كما يشير المحلل النفسي الشهير " إريك فروم " في كتابه " تشريح التدميرية البشرية " – درجة شديدة من " التثبيت الشرجي - fixation anal " والذي يحمل شحنات عدوانية سادية مدمّرة. ويمكن النظر – وهذا ما يمسك به السماوي من دون أن يكون محللا رسميا – إلى صور الطغاة الكثيرة التي تتم بها تغطية جدران شوارع المدن كتعبير عن رغبة في " التلويث ". لكن الشاعر يجعل بون المقارنة شاسعا من خلال تغيير طرف المقارنة الذي كان وحيدا في الوقفة السابقة (مؤخرة الإمبراطور ومؤخرة الشحّاذ) وجعله طرفين: سيماء وجوه الصعاليك التي امتلأ أفقها بالفراشات، ومؤخرات الأباطرة التي تلوث الجدران بالتصاوير:

(نحن الصعاليك
سيماؤنا في وجوهنا
من أثر تحديقنا بالأفق
أما الأباطرة
فسيماؤهم في مؤخراتهم
من أثر التشبث بالكراسي
هم يلوثون الجدران بتصاويرهم
ونحن
نطرّز فضاء الوطن
بالفراشات – شاهدة، قصيدة الأباطرة، ص 128و129). 

 وتتكرّر موضوعة محنة الإنقاذ، إنقاذ الوطن الذي صار جثمانا من جديد، مرة أخرى في قصيدة (الوطن استحى.. فمتى يستحي الرجال؟). وفي مطلعها يعبر الشاعر عن خيبته من زيف الوعود وكذب الذين جاءوا مع المحتل في تنفيذها. فوق ذلك فإن هؤلاء الأدلاء قد قاموا بعكس ما أعلنوه، فبدلا من الوحدة زرعوا جرثومة الفتنة، وبدلا من الرفاه نشروا الفقر، وبدلا من الحفاظ على كرامة الإنسان كبناء لله هتكوا الأعراض. وسيلاحظ القاريء أنني كرّرت (بدلا من) ثلاث مرّات، وقد يجوز هذا في النثر، وقد يُستحسن أحيانا، لكن هذا التكرار من مقاتل القصيدة الحديثة، وهذا ما يدركه السماوي فنراه يذكر الفعل (وعدونا بـ) في استهلال القصيدة ثم يمضي ليكرّر حرف الباء فقط محققا التركيز ورشاقة الجملة الشعرية:

(وعدونا بالمصانع
فأقاموا السجون !!
بالمسرّة..
فغرسوا الفتنة !!
بالميلاد..
فأقاموا المآتم !! 
بالمساواة كأسنان المشط
فجعلونا كأسنان التماسيح – شاهدة، ص 82 ).

ولكن ما يهيض جروح الشاعر ويمزق روحه هو أن كلّ هذا الخراب والضيم من دماء ودموع وفقر وتهجير لم (توقظ " السيوف " من سباتها – ص 83) وكأننا أمام تحقق فعلي لبيت الشاعر القديم (لقد أسمعت لو ناديت حيّا...) ولهذا تأتي ردّة فعله في صورة خيبة عنيفة جدا يحسب فيها الوطن كتابوت ممدّد لا رجاء من استجابته. وهنا ينبغي أن لا نقع في سوء تفسير لموقف الشاعر يرى أنه يقف ضدّ بلاده كما حصل من سوء تأويل لقصيدة الجواهري عن بغداد التي اعتبروها ذمّا لعاصمته الحبيبة. وهذا خطأ فاحش إذ أنه يهدر مسيرة الشاعر المقاومة طوال عقود من عمره ومسيرته الشعرية المديدة من جانب كما أنه لا يفهم طبيعة اشتغال ردود فعل الشاعر على المؤثرات المريرة من جانب آخر. إن نقمة الشاعر الهادرة على وطنه هي صيحة استغاثة من أجل هذا الوطن، صرخة تحفيز وإنهاض لأبنائه من خلال الإمعان في تصوير تمزّقاته، إنها تشبه صرخة الأم المذهولة: يمّه.. إبني مات !!، وهي ترى دم ابنها العزيز ينزف من جرح في جسده مهما كان هذا الجرح صغيرا، إن نقمة الشاعر في الواقع تعبير عن أقصى درجات حبه الممزوج بقلق الفقدان:

(.. إن لوحاً خشبيا في بحر
قد يكون البديل
عن وطنٍ
يتمدّد كالتابوت
في خارطة العالم !
من أين للوطن الغريق
بلوح خشبي.. أو طوق نجاة؟
أما من جواز سفر مزوّر
لوطنٍ رؤوم
نكّس ترابه خجلاً
من قادته المدجّنين؟ - شاهدة، ص 83و84).

ولعل ما قلناه يجد دليله المعبر عنه بدقة في لوعة الشاعر وهو يلوب بفعل ضياع الخيارات الإنقاذية وعودته المحكمة إلى ما يؤكد أن محنة وطنه الفاجعة هي نتاج الأدلاء " الرجال " الذين لا يستحون كما أعلن في عنوان القصيدة. وهذا ما يعود الشاعر إلى معالجته بوضوح في القصيدة التي تلي القصيدة السابقة مباشرة وهي " إلى من لا يهمهم الأمر " حيث يعود إلى " الرجال " الذين كانوا أدوات نشر الخراب الذي صمّمه المحتل، هؤلاء الجالسون خلف المسرح في الكواليس وهي تورية دقيقة عن مكمن هؤلاء في " المنطقة الخضراء " فهي بالنسبة لمشهد المسرح العراقي الهائج هي الكواليس فقد قال عنها قبل قليل بأن أبوابها لا تنفتح إلا بالمفاتيح المشفّرة وأنها أعتم من بئر كهف ( راجع قصيدة: المنطقة الخضراء ). وهؤلاء لا يستحون فهم الآن يسرقون من البيدر ليس على قدر سعة حواصل العصافير ولكن بسعة جوف التماسيح. ثم ينعطف ليؤكد ما قلناه عن حبّه لوطنه من هؤلاء الذين لا يستحون والذين ينتشرون كالسرطان في جسد الوطن:

(سأبقى خائفا على وطني
طالما بقي في " قصر الخلافة ":
سياسي فاسد واحد
انتهازي واحد
تاجر دين واحد
إرهابي واحد
عميل واحد
ولصّ واحد
هؤلاء كالطحالب
سريعو الإنتشار مثل بثور الجدري – شاهدة، ص 86و87 ). 

ولكن هذا لا يمنع من إبداء تساؤله المندهش من تعطّل رد فعلنا تجاه هؤلاء الذين يتعلمون البطولة بأطفالنا والفحولة بأعراضنا كما يقول، وهي دهشة مشروعة حتى لو كانت شديدة الفوران لأن شاغلها المحبة والحرص على حاضرنا ومستقبلنا:

( كيف نبدو وديعين كالحمام الداجن
حين نراهم في المقاعد الأمامية
دون أن نستعير
من الصقور مخالبها
ومن الجرّاح مبضعه
لاستئصال الإصبع المسرطن
قبل أن يصل إلى الرقبة – شاهدة، 87)

وفي الدعوة لـ ( الإستئصال ) عودة للتذكير بخطر استئصال وطن الشاعر رغم أنه ليس زائدة دودية كما قال في القصيدة السابقة: " الوطن استحى... ".
وقفة:


ولكن من أين جاءت روح اللصوصية هذه التي طفحت في سلوك هؤلاء الجالسين خلف الستارة؟ إليكم جزءا ممّا كتبه العبد الفقير في جريدة ( السيادة ) عام 2005 تحت عنوان: (لصوص.. فلا تأتمنوهم على العراق ):

(... لقد أصدر الرئيس الأمريكي " بوش الإبن " قرارا بتعيين السيد جيمس بيكر وزير خارجية الولايات المتحدة السابق مسؤولا عن متابعة تسوية ديون العراق الخارجية. العراقيون أصحاب قلوب طيبة وذاكرة سمحاء سرعان ما تنسى، ولذلك لم يتساءلوا عن سرّ هذه الغيرة المفاجئة التي أصابت هذا الشخص جيمس بيكر وهو الذي هدّد بإعادة الشعب العراقي إلى العصور الوسطى !! تصوّروا هذا السادي، لم يهدد الحاكم الذي غزا الكويت بل يهدد شعب العراق بتحطيم كل بناه التحتية وإعادته إلى العصور المظلمة. نسينا هذا وصدقنا ما طلع علينا به السيد الرئيس بوش وقلنا من الجائز أنه لم يجد سياسيا محنكا وعطوفا على الشعب العراقي غير " بيكر " الذي كان واحدا من الذين أشرفوا على تحويل حرب تحرير الكويت إلى حرب تدمير العراق في عام 1991. فانظروا الآن ماذا فعل هذا (... ) بعد أن تسلم مسؤولية خفض ديون العراق؟

هاكم ما نشرته صحيفة ( الغارديان ) في عددها ليومي 13و14 تشرين الأول. تقول الصحيفة:

( عقد جيمس بيكر المسؤول عن خفض ديون العراق صفقة سرية مع المسؤولين الكويتيين لغرض استحصال 25 مليار دولار لهم من العراق مما يسمى بـ ( التعويضات الحربية )، على أن يستقطع بيكر نسبة 5% من المبلغ لحساب شركته المعروفة " كارالايك " ولشركة أخرى تقودها وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة " مادلين أولبرايت " – انتهى الخبر -.

هل ستعيدون اعتراضكم علي وتقولون إن وصف " اللصوص " لا يليق بالخطاب السياسي الحديث والمتحضر؟ هل ستجدون أكثر سفالة من شخص يؤتمن على مصير شعب ممزق محطم مبدد الثروات مديون مهموم متعوب وحيد مستوحد مستوحش يعاني من قلة الصديق وانعدام الرفيق ومشقة الطريق وطول السفر، فيقوم هذا المؤتمن يقطع ما تبقى من اللحم الحي لأطفال هذا الشعب؟ أنا طبعا لا ألوم الطرف الثاني في صفقة الدنس والسحت هذه، لكنني أتحدث عن اللصوص ( الحرامية ) فلا تأتمنوهم على العراق المقدس ) – انتهى المقال -. 
 
العزف على أوتار الحروف:

وهناك سمة اللعب الخلّاق على التركيب الحروفي للكلمة وتقطيع المفردة اللغوية الذي يقوم به الشاعر في كثير من الأحيان بطريقة تخلّف وقعا مأساويا مشوباً بالسخرية المريرة. إنه نوع من الكوميديا السوداء إذا جاز الوصف. وهذه تعكس في الوقت عينه ميزة من ميزات عبقرية اللغة العربية – والتي لها صلة بالفرضية النظرية التي طرحتها سابقا باختصار – هو أن الكلمة ملتحمة المعنى ولا توجد أي زيادة صوتية فيها كما قد يظن البعض في النظرة السطحية السريعة ممن يتهمون اللغة العربية بترهل مفرداتها والإفراط في مترادفاتها وغيرها من الصفات السلبية التي يلوكونها بلا علم:

 في قصيدة " أربعة ألواح من طين الوجع " وبعد أن يتحدث – ومقاطع السماوي مترابطة بقوة رغم أن القراءة السريعة تفككها وتشتت مفاصلها وهذا هو أخطر ما يمكن أن يصيب نصوصه – في المقطع الثالث عن حالة غريبة وشاذة تجتاح وطنه، بل العالم بأسره بفعل الطغيان الأمريكي الدموي والأهوج الذي جعل كل شيء يقف مقلوبا على رأسه معنى وقيما وأسس عمل في الحياة، حيث المتهم أخرس، والقاضي أصمّ، والشاهد أعمى، (فما الفائدة إذن، من فصاحة القانون، وبلاغة المعنى؟) كما يتساءل الشاعر.. فإنه يكشف ببلاغة هائلة كيف أن المعنى يمكن أن تمسخه حركة حروفية واحدة، فكيف إذا اتجهت نحوه أساطيل " التعريب" و"قاصفات " التأويل؟!:

(ضلوعي تساقطت نخلة.. نخلة
ساعة الزمن لم تتعطل
لكن عقارب المكان قد صدئت
أفراحنا ناقصة
كصلاة دون وضوء
ونهدٍ دون حلمة
وعراق دون " راء " – شاهدة، ص 74 ).

أي أن السماوي وعبر تسلسل الصور المتقابلة الثلاث الأخيرة يمنح حرف الراء الذي ينقص الكلمة وجودا ماديا يوازي حلمة النهد الضائعة، أو – وهذا هو الأعظم – الوضوء الذي لا تكتمل الصلاة من دونه. لكنه يصعد بنا إلى ذرى تشخص جانبا اشد عمقا من عبقرية اللغة العربية التي يكشفها الشعر حيث تلعب " النقطة "، والنقطة المجردة دورا مخيفا، فالفرق بين " الفرد " والقرد " نقطة واحدة، والفرق بين " الرفيع " و " الرقيع " نقطة واحدة أيضا. ولكن أفق دور النقطة يتسع على يدي الشاعر لأنه سيضع هذا الدور ضمن إطار أعم وأشمل يرتبط بالمحنة التي يعيشها شعبه محتلا ومهانا:

0 الفرق بين الحرّية والحربة
نقطة واحدة
بين البحر والبرّ
حرف واحد
ومع ذلك
فإن شعوبا كاملة
غرقت بالدم
وأوطانا شاسعة سقطت من خارطة العالم نتيجة انزلاق نقطة
من موضعها في كلمة
أو خطأ في الإملاء – شاهدة، ص 66 ).

وقبل أن ينتقل إلى معالجة موضوعة مضاعفات " الفرق " في بناء المفردة على أساس نقطة واحدة، فإنه يختم هذه القصيدة بما سيراه العقل الذي اعتاد التفسيرات السطحية السريعة وعدم تحمل عناء رحلة اكتشاف " المعنى الكامن – latent content " كما هو الحال في عملية تأويل الحلم التي عدّها معلم فيينا مفتاحا لفهم أغلب ظواهر الحياة البشرية، يختمها بالإشارة إلى حقيقة أن البحر رغم كبره وضخامته فإنه " أصغر " من أن يروي وردة عطشى، أي أنه أصغر من نقطة، نقطة ماء منعشة، وتحديدا تلك النقطة التي بإمكانها أن تحيل " بحر " إلى " نحر "، ثم يضع الشاعر النقطة الصغيرة، أو الشيء الصغير الذي تحتاجه الشعوب من أجل تحقيق سعادتها، وهو نقطة حكمة توازي بل وتفوق في ثقلها بحر الغطرسة:

(ما أكبر البحر !
لكنه..
أصغر من أن يروي وردة عطشى
ما تحتاجه واحات الشعوب:
جدول صغير من الحكمة
لا بحراً من الغطرسة – شاهدة، ص 67)

... أقول إن الشاعر قد مرّ بنا من فعل النقطة، وعبر وقفة انتقالية لنصل بعد قصيدة واحدة إلى لعبة حذف الراء من اسم العراق، ثم - وبعد ثلاث قصائد - إلى مراجعة لفعل النقطة التي صارت معنوية الآن والتي يسبب عدم إدراك الطغاة لمعانيها ضياع أوطان وشعوب:

(إن قطرة قيح واحدة
تكفي لإفساد نمير الكوز
وصوتا نشازا واحدا
قد يُفسد النشيد الجميل
وأن قائدا سياسيا فاسدا
قد يؤدي إلى ضياع وطن
وتمزيق أمة – شاهدة قبر، قصيدة " إلى من لا يهمه الأمر، ص 86 ).

 وفي لعبة حروفية جميلة أخرى نجد الشاعر يتعفف من ذكر طرفي الصراع الطائفي في بلاده، لكي لا يرسّخ هذا الأمر البغيض في أذهاننا، و " يصغّر " حجم التأثير النفسي للمفردة التي تمثل كلّ طائفة فيأخذ الحرف الأول منها:

(العراق - عجّل الله فرجه – متى يستفيق
لتقوم المواطنة العادلة
فيتساوى الجميع
مثل نخيل بستان واحد
لا فرق بين " شين " و "سين "
وعمامة وعقال – شاهدة، قصيدة: العراق - عجل الله فرجه - متى يخرج من البئر؟، ص80).

وكأن الشاعر يريد من ذلك أيضا، أن يصوّر الأمر لا كفوارق جذرية، ولكن كتنوع حروفي يكمل بعضه بعضا مثلما تلحق الشين السين في تسلسل حروف الأبجدية.

 وهناك التقطيع المعبّر لكلمة الديمقراطية الذي يرسم أمامنا المعنى الحقيقي لتجربة شكلية زائفة مرّرت تحت أغطيتها مخططات الدم والموت والخراب:

(يلزمن حبل
من " هافانا " حتى " سانتياغو "
لأنشر عليه
صفحات الكتب السوداء
لراعي البقر الأمريكي
وهو يقود قطعانه عبر البحار
لإشاعة " الدم – قراطية " – شاهدة، ص 92). 

 
حداثة الأبيض والأسود:

وفي نصوص السماوي المقاومة هناك دائما ظاهرة الإنتباه للأمور التفصيلية ومراجعة المكونات الجزئية للحدث الكلي الهائل: واقعة الاحتلال. وهنا يظهر دور عظيم يقوم به المبدع تجاه بلاده بعيدا عن الأطروحات الحداثوية وما بعد الحداثوية التي تسعى إلى إفقاد الشعوب المسحوقة واحدا من أمضى أسلحتها في مواجهة أعباء الحياة على الصعد كافة، ألا وهو سلاح الإبداع، وخصوصا الشعر بالنسبة للأمة العربية والفنون الأخرى بالنسبة للأمم الأخرى. وهذا ما كشفته المؤلفة الفرنسية لكتاب " من يدفع أجر عازف البيانو؟ " الذي عرضت فيه التمويل الهائل الذي كانت تقدمه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى " منظمة الثقافة الحرة " التي ورطت بعض المبدعين العرب، والتي اعتذر الناقد والشاعر المعروف " ستيفن سبندر " وكان رئيس تحرير مجلة " encounter " الشهيرة، عن أنه لم يكن يعلم أنها منظمة استخبارية مسخّرة لأهداف أمريكية، واستقال منها. إن سعيا حثيثا وغريبا لفصل الأدب عن المجتمع وهموم الشعب.. ترى ما الذي سيجده نقاد ما بعد الحداثة في المقطع الأول من قصيدة السماوي " من وحي تمثال الحرية في نيويورك " الذي يقول فيه:

(أيها الرب الرخامي المنتصب كالمشنقة
ليس مِشعلاً للحرية ما ترفعه
إخفض يدك
فالبنتاغون يراه فتيلا
لإحراق حقول العالم
وال " c.i.a " تراه سيفا
لاستئصال رقاب من يرفض الإنحناء
لآلهة " المعبد الأبيض " – شاهدة قبر، ص 90).

هنا قد يطلع علينا ناقد ما بعد حداثوي أن هذه النصوص مباشرة ولا تحمل من الفن الذي يعتمد التورية والتكثيف والتركيز والنبر إلا قليلا !! وأنا أعرف أنهم يريدون نصا يتحدث فيه يحيى – ابن السماوة المعذبة ( السماوة دميتي في حجرة الكون... وفراشتي في حديقة العالم – ص 73 ) كما يصفها، عن هموم بروفورك وليلة عوليس.. إلخ.

وكيف تكون الحداثة إن لم يعبر عنها " يحيى " بهذا التوظيف المتكرّر المفارق والفريد في كل وقفة. في القصيدة السابقة ختم المقطع الأول بالإشارة إلى " آلهة المعبد الأبيض " المميتة التي دمّرت سلام العالم وأمنه. ولكن كيف وصل إلى هذه الآلهة، وهذا التعبير عنها مرسوم على الصفحة التسعين من المجموعة؟. لقد وصلها عبر سلسلة طويلة من الطرق المضني على سندان مقابلة السواد بالبياض، كبنيتين تحمل كل منهما مدلولات رمزية عميقة ومتشعبة لا تخفى على القارئ. تبدأ هذه المقابلة الباهرة من النص الافتتاحي الأول والأطول الذي قاله الشاعر في رثاء أمه الراحلة، ليتنامى مع كل قصيدة – مستترا أو مكشوفا – ليحكم حلقات التشبيه بما يحفظ الوحدة العضوية ليس لنصوص محددة بل للمجموعة كلّها. فحين يعلن الشاعر – مثلا – انتصار " الأمركة " على " العراقة " فهو يرسم معادلة انتصار السواد على البياض :

(إنها أكثر صمما من حائط
وأعتم من بئر كهف
في ليل يتيم القمر والنجوم
أضيق من كفن
وأكثر وحشة من مقبرة (عدنا إلى المقبرة: الناقد)
عشبها أشد وخزا من الدبابيس
فراشاتها الشظايا
وسقسقاتها أزيز الرصاص المخاتل
غزلانها بسيقان من الجنازير
شوارعها معبدة بالدبابات – شاهدة، ص 56 )

في لقاء شخصي مع المبدع الكبير مظفر النواب دار حوار حول غموض ما ينشر من شعر هذه الأيام تحت غطاء الحداثة، قال: أنا أكتب الشعر منذ أكثر من خمسين سنة.. والآن لا أفهم الشعر الذي يكتب في الوقت الحاضر. وهذا ما أشار إليه أستاذنا الدكتور (عبد الواحد لؤلؤة) في كتابه ( مدائن الوهم – شعر الحداثة والشتات) (دار رياض الريس – بيروت – 2002) وهو يحلل قصيدة لشاعر مهجّر:

(يرى بعضنا أن السوريالية وخليفتها الدادائية، من أنواع فقدان التوازن العقلي أو المنطقي. ويرى بعضنا الآخر أن ذلك مقبول في الشعر، لأن الشعر ضرب من الجنون كما أشار أكبر العقلاء: طيب الذكر أفلاطون. ونحن نقبل هذا القول على شيء من المضض، لأن في تراثنا الشعري مجنونا كبيرا من بني عامر، لكن، يردّ بعضنا الآخر، إن كلام ذلك المجنون في ليلاه " كلام مفهوم "، وهو لذلك شعر.. جميل. ولكن، أية فيافي شعرية دخلنا مع السوريالية والدادائية والبنائية والتفكيكية وبقية ذوات " الإيّة "؟! – ص 186و187). 

بساطة يحيى تجعل الشعر كما كان.. طعام النفوس المخذولة والمحطمة.. الكلمة الأمل للحيوات المكبلة بالخيبات والمحاصرة بسواد الإحباط.. الكلمة الطيبة بيضاء دائما.. ولهذا فهو يكمل صورة القصيدة الكلية التي اجتزأنا منها المقطع السابق:

(.. شوارعها معبدة بالدبابات
صالوناتها مكب لنفايات البنتاغون
ساحاتها مسيجة بالكتل الكونكريتية
ليلها أكثر ثقلا
من صخور الخطيئة
سادنها أقذر من طمث مونيكا لوينسكي – شاهدة، ص 56 و57)

ويكون الاستنتاج الطبيعي أن " مدينة " مثل هذه تجسد لبّ السواد، فالصمم سواد، والكفن سواد رغم بياضه... وصخور الخطيئة سواد:

(فكيف إذن تُسمّى " المنطقة الخضراء "
تلك الطعنة السوداء
في جسد الوطن؟ - ص 57)

.. و" مونيكا لوينسكي " هي الشابة المتدربة في المكتب البيضاوي التي اعترف السيد الرئيس بل كلنتون وكانت تقف خلفه، وعلى شاشة التلفاز، زوجته المغدورة هيلاري مفتخرة وهي تقول: إنه شجاع.. لقد اعترف.. فبماذا اعترف رئيس أعظم دولة في العالم.. رئيس دولة ما بعد الحداثة؟.. اعترف بأنه كان يواقع مونيكا – ودعوني أكون مثلهم صريحا فهم يريدون تربيتنا على هذه الصراحة – جنسيا، وكان يطلب منها أن لا ترتدي لباسا داخليا لكي تتم العملية بصورة أسرع بخرط الزنجيل !!! صدقوني كانت تلك رسالة أمريكية إلى العالم كله: أن لا أخلاق بعد اليوم ولا مبادئ بل سوق لغرائز الموت والعدوان والسفالة !! سيقول قائل إن هذا سلوك شخصي، طيب طيب هذا سلوك شخصي.. لكن أين كان يتم هذا السلوك؟ .. كان يتم في البيت الرئاسي الأبيض ! وعند العرب يعد البيت الرئاسي مقدّسا مثل كعبة !! أي أنه بنية بياض مقدسة تقابل بنية سواد مدنسة. ويلحّ على الذاكرة الآن مشهد من رواية " المنطقة الخضراء " للمبدع " شاكر نوري "، مشهد يقطع القلوب، ومكتنز بالدلالات عن سيكولوجية المحتلين، وهو حقيقي يعرفه الذين قاتلوا المحتلين. في هذا المشهد يجري حوار في " المنطقة الخضراء " بين المترجم العراقي (إبراهيم) والكولونيل الأمريكي بعد أن وقع الأول عقدا مع الأخير للعمل كمترجم للقوات الأمريكية:

تألم إبراهيم كثيرا بعد أن انتهى من توقيع عقد العمل مع الكولونيل الأمريكي الذي استقبله في مكتبه. وأثناء توديعه عند الباب، قال له:

" اسمي الكولونيل ديفيد روبنسون، ويمكنك أن تطلق عليّ داود "
" الكولونيل داود "
" عليك أن تشعر بالأمان هنا "

وأضاف:

" عندما دخلت فرقتنا الثالثة المنطقة الخضراء، فرّ سكانها منها، ولم تقاومنا إلى النهاية سوى فرقة عسكرية واحدة، قمنا بدفنها في مقبرة جماعية في هذا المرآب " وأشار بيده إلى المكان الذي كنا ندوسه بأقدامنا.

" يا إلهي، هل أنني أمشي فوق قبورهم؟ "

وكأن الكولونيل داود قرأ ما كنت أفكر به في تلك اللحظة، فسارع إلى القول:

" هذه هي الحرب، أما ان تقتل أو تُقتل "

ثم أضاف مبتهجا:

" ولكن أرجو أن لا تتصور أن الحرب تعيسة إلى هذا الحد، يوجد هنا ما لا يقل عن ست حانات.. "

وضحك ثم علّق بدعابة:

" يجب مزج الحرب باللعب حتى لا نشعر بالملل – ص 49و50). 

وبالمناسبة فقد افتتح شاكر نوري روايته بمجموعة من المقولات في مقدمتها، وأول هذه المقولات هي: " المنطقة الخضراء.. تلك الطعنة السوداء في جسد الوطن " ليحيى السماوي.
ويرتبط بالمنطقة الخضراء – السوداء، مكان آخر متناقض بين توصيفه اللوني الشكلي ومضمون أدائه الشنيع. السماوي في قصيدته التالية عن البيت الأبيض يعلن أن:

( ما يلوح في الأفق
ليس بيتا أبيض
إنه:
جبل
من أكفان ضحاياه – شاهدة، قصيدة البيت الأبيض، ص 133 ).

أي أن البياض المغدور والمتراكم يمكن أن يكون سوادا وبلا رحمة، ولكنه السواد اللعوب الذي لا يمسك بمعانيه إلا الشاعر الجسور المقاوم، الذي يدرك أن البياض بياض مهما حاولت القوة الغاشمة إلباسه سواد الباطل الزائف، وهذه حلقة من حلقات السلسلة المتناوبة التضاد بين أبيض وأسود، وبالعكس، والتي تلظم خرز مسبحة الصور المتسلسلة، والتي تستمر في أخذ بياض روح الأشياء الذي لا يصيبه الفساد ( إذا فسد اللحم نعالجه بالملح، فكيف إذا فسد الملح؟) مقابلا شكل الأشياء السود التي يلتحم جوهرها بمظهرها:

(مشفى أبيض
للقلوب السوداء 
ثلاجة خرافية
للضمائر المحنطة
والشرف المتفسخ
تلال من الملح
مهيّأة
لنثرها في جراح الشعوب
شاهدة بيضاء
في مقبرة العولمة
خُطّ عليها بالحبر السرّي:
هنا وُئدت السيدة " قوة الحق "
تنفيذا لأمر الحاكم " حق القوّة " – شاهدة، ص 134 )..

وهذا هو الذي يرسخ في الأذهان ما قلناه عن أن السواد الجديد سيمحق أي جزء من بياض الحياة والعدل والكرامة، ولكنه سيراوغ في تعبيراته بسبب جبروته المادي وعنفوان قوته فيصوّر ذاته بياضا متربعا على تلة السواد الكونية، وهذا مقلوب حاله الفعلي في البناء النفسي الداخلي. لكن مهارة يحيى الشعرية التصويرية تكمن ليس في توسيع هذا التصوير العام لخطوط الواقعة المتصارعة التي تجري على أرض بلاده كتمثيل لما يجري على الساحة العالمية حسب، بل في اختصاره وتركيزه وتكثيفه كما تفرض اشتراطات الحداثة. فالشعر كان قديما فن الإطالة والوصف واستعراض العضلات الشعرية اللغوية أساسا، أما الآن، وحسب التعبير الموفق للمبدع الراحل " محمود درويش " " فإن الشعر هو فن الحذف ". وفي المقطع الأخير من هذه القصيدة " امتلاء " التي تسبق القصيدة السابقة مباشرة فإن السماوي يختزل أبعاد المحنة الكونية، أو لنقل بطريقة معاكسة لا تخل بالاستنتاج أنه كان يريد بطريقة تقدمية أن ينطلق من نقطة ابتدائية يحملها معان كونية إلى نقطة جسيمة الأبعاد تتمثل في عذابات بلاده الذبيحة التي اتسعت لتتحول – وعلى الطريقة الصوفية أو البوذية - إلى ذرة الرمل أو الرز تلك التي تحمل في أحشائها الصغيرة العالم، بل الكون كله، وبالعكس. والمشكلة الامتيازية المضافة تتمثل في " الذرة / النواة " التصويرية التي يختصر بها الشاعر صراع الوجود الكلي المؤرق هذا:

(المشكلة
ليست في استحالة
إقامة الإلفة
بين القطة والسمكة
إنما
في استحالة
أن تتنفس القطة
تحت الماء
وأن تتنفس السمكة
خارج حوضها – شاهدة، ص 132). 

النزعة التفاؤلية:

.. ولكن ما الذي سيفعله الشعر إذا تحول إلى نداءات شجب وغضب ونقمة ملتهبة فقط؟ وما هو دور الشاعر الإنقاذي الفعلي إذا كان يشجب الأفعال المدنسة ويصوّر أهوال الشدائد الفاجعة حسب مهما كان هذا الشجب والتصوير رائعا ومخلصا؟. لا مراء أن هذه أفعال هامة وحاسمة، فهي تنتصر للحقيقة ولكرامة الإنسان وتعزز قوى جبهة التحرر في مقاومة قوى الطغيان وتفضح الأبعاد الوحشية للسلوك اللاإنساني للغزاة والمحتلين. لكن كثرة الطرق على الناحية الشاجبة والساخطة قد ترسخ النزعة التشاؤمية في نفوس المتلقين وتجعلهم يراوحون عند عتبات أبواب الخراب كحقيقة نهائية. إنها قد تصبح، في المآل الأخير، استعراضا للقوى الغاشمة، ولقدرتها على تحقيق كل هذا الخراب الواسع، وإمعانها فيه من جانب، وقد تجعل النفس البشرية بحفزاتها المازوخية المعروفة، تستمرئ نصوص التشكّي والسخط والحرمان وتقريع الذات من جانب آخر. إن الشق المكمّل لهذا الموقف هو الحض على النهوض وتصعيد إرادة الإنعتاق وتحشيد رؤى المتلقين في إمكانية تحطيم قيود العبودية وسحق غيلان الشر. وهناك رأي شائع يتداوله العامة وهو أن (الكلمة لا تؤكل خبزا !!) بمعنى أنها عاجزة عن إحداث أي فعل تغييري حازم في الواقع الخانق القائم. ولا أريد الإنسياق خلف التبريرات الأسطورية والسماوية التي ترى أن الكلمة تحيي وتموت وأن الله كلمة وأنه يقول للشيء كن فيكون رغم أهمية هذه التبريرات الحاسمة. مشكلة هذا العصر هو أنه سحق المكون الأسطوري والروحي في اللاشعور الجمعي للإنسان وألقاه في مصيدة المقارنات المادية التي نتيجتها بالتأكيد ليست في صالح الإنسان المقهور. فمحنة الإنسان الدائمة هي أن الشر مسلّح بمخالب وأنياب (راجع الصورة النمطية للشيطان) في حين يتسلح الخير بالنوايا الطيبة. أقول لا أريد الانسياق وراء تلك التبريرات على الرغم من أهميتها الفائقة، وأميل إلى الأمور العملية الإجرائية. لنشاهد ما يكتبه السجناء السياسيون على جدران الزنزانات في المعتقلات وسنجد أن كثيرا منها من أبيات وقصائد الشعر المشهورة. إنها أكثر حتى من النصوص الدينية لأن جذوة الأمل بالماورائيات والميل إليها يضعف بمرور سنوات العذاب وتطاولها. حتى العبارات التي تنتخي بالأم أو الأولياء أو تستعيد الذكريات البعيدة تأتي في تعبيرات شعرية. لقد كانت الجماهير تخرج في تظاهرات حاشدة ضد السلطات بعد أن يكمل الجواهري العظيم قصيدته. فما الذي حصل الآن؟ إذا كان فقدان الشعر لدوره الإنساني المقاوم نتيجة لهذا المد المضلّل والذي أسيء فهمه وتوظيفه وذلك من خلال تحويله إلى أحاجي وألغاز وألعاب ذهنية يفهمها الشعراء أنفسهم، وأحيانا لا يفهمونها ولكنهم يجاملون بعضهم بعضا، فوق أن أغلب النقاد يقعون ضحية ما يمكن أن أسميه بـ " الإرهاب الحداثي " عندما يعلنون مواقف مضادة لهذه الموجة التي غرّبت الشعر وجعلته فن نخبة النخبة، فهم سيتهمون فورا بأنهم متخلفون وتقليديون ولا يفهمون أسرار الحداثة. ولعل من الأمثلة على هذه المجاملات الإخوانية التي تدوس على رقبة الحقيقة وتمسخ الأخلاقيات الإبداعية ما ذكره الدكتور " عبد الواحد لؤلؤة " في كتابه " مدائن الوهم – شعر الحداثة والشتات " وهو يعلّق على مجموعة شعرية لـ "خالد المعالي" هي (عيون فكّرت بنا ) فيقول: (لا يكاد المرء يصدق أن كلاما مثل هذا يجد طريقة إلى النشر في (مجموعة شعرية) باسم الحداثة.. على امتداد مئة وخمس وخمسين من صفحات هذه المجموعة، لا تكاد صفحة تخلو من غلطة لغوية أو أكثر , نحوا أو صرفا أو اشتقاقا , و هو أمر لا يمكن التساهل فيه , إذا كان الشاعر يكتب بالعربية لا بالألمانية، كما يقال لنا في غلاف الكتاب. من لا يحسن كتابة الشعر الموزون لا يحسن كتابة الشعر الحر أو المنثور. ليس هذا رأي أصحاب الحداثة في الغرب وحسب، مثل (باوند) و (اليوت)، بل ثمة كثير من الأدلة على ذلك في شعر المعاصرين من أبرز شعراء العربية (... ) رصف كلمات لا تفيد معنى ولا تثير إحساسا بإيقاع نغم أو تفعيلة , تحت مظلة الحداثة في الشعر الحر تذكرني بزميل مصري خفيف الدم , يندر أمثاله (هذه الأيام؟!) كان بارعا في محاكاة صورة الشاعر (الحداثي) في إطراقته و نظرته الساهمة، يأتي كل صباح بقصيدة حرّة حداثية مازلت أذكر منها:

وكما أحتقر الفضيلة أحترم رجال الدين و ألتهمُ برتقال الجيران فيلٌ في حمام الأطفال والفوطة...) 
ثم يفضح الأستاذ الشيخ (لؤلؤة) لعبة التواطؤ والمجاملات الإخوانية فيقول: (لكن المرء يعجب من هذه القدرة على رصف كلمات تخفق في إيصال أي معنى، إلى جانب افتقارها إلى أي إيقاع أو جاذبية موسيقية. يُقال لنا على غلاف الكتاب إن الشاعر ولد في صحراء العراق ويعيش الآن في ألمانيا وإنه قد حصل على جائزة أدبية ألمانية عام 1988. وهذا كله جميل، ويدعو للزهو بأديب انتقل من جدب الصحراء إلى نضارة العيش في كولونيا. ويخبرنا «صديقه؟» (عباس بيضون): (أن نص خالد المعالي يحفر في موضعه.. يدمّر في موضعه.. يتفرّغ من صوره و معناه فلا يعود آخر الأمر سوى شخص للفراغ. هذا الفراغ إمارة العقل الأسود).

لستُ أدري إن كانت اللغة العربية هنا تفيد المديح في وصف كلام " يتفرّغ من صوره ومعناه " فيكون علامة " العقل الأسود " ! هنا " لا يتكوّن الكلام إلا... بلاهة ونفايات " – ص 125 – 130).

لكن يحيى السماوي يقدم النموذج الموفق الذي يحلّ هذه الإشكالية، إشكالية أن تكتب شعرا ملتحما بأرضه وآلام بلاده وهموم شعبه ويحمل في الوقت نفسه سمات الحداثة في الصورة واللغة والبناء. ولأنني قد استعرضت الكثير من السمات الأسلوبية لمنجزه الشعري في هذه الدراسة وفي الدراستين السابقتين، فسوف أتحدد بتبيين أبعاد نزعته التفاؤلية التي تبشّر بانتصار إرادة الإنسان – إنسانه العراقي تحديدا – في قصائد " مفهومة " تمنح القصيدة العربية حرية أكبر وقبولا أوسع من قبل قطاعات واسعة من المتلقين والنقاد دون أن تغرقهم ألغاز " الحداثة " المفتعلة أو يسلط على رؤوسهم سيف الإرهاب النقدي " الحداثي ". ولعل مسخ صورة المتجبّرين الذين قد يقع الإنسان المقهور في وهم تصوّرهم " سوبرمانات " خارقة يعكس جانبا من نزعته التفاؤلية. فبالنسبة إليه هؤلاء مهزوزون في أعماقهم وقلقون وعابرون في مجرى التاريخ:

(أمن ثقل وَزر الخيانة
أم الحبوب المهدّئة للأعصاب
تترنح سيقانهم؟
يريدون التحكم بمجرى النهر
مع أنهم
ليسوا أكثر من " واو " عمرو "
في تاريخ مجراه – شاهدة، قصيدة هذيان لا يخلو من حكمة، ص 43و44)

إن السخرية من هذه الرموز الخانعة التابعة التي هي (على أبناء جلدتها أسودُ) كتعويض عن تبعيتها ومهانتها في علاقتها بالغازي المحتل يضعها في موقعها الطبيعي كنماذج بشرية مزرية لا ككائنات خرافية:

(لا طاعة لحاكم محكوم
لماذا يمشي الطاووس متبختراً؟
ألا يعرف أنه ودجاج حديقة الحيوانات
يسكنون قفصا واحداً؟ - شاهدة، قصيدة كلمات متقاطهة، ص 126). 

ولعل من الصور الشعرية الرائعة والنادرة هي الصورة التي يستقيها من بيئته الصحراوية – وخالد المعالي من البيئة ذاتها – حين يصف الكيفية التي سوف يلفظ فيها التاريخ هؤلاء الخونة:

(مثلما ينفض البدوي عباءته بعد العاصفة
سينفض التاريخ من صفحاته البيضاء
الساسة الذين ملأوا:
مياديننا بالميليشيات
وحاراتنا بالملثمين
وبيوتنا بالنحيب – شاهدة، قصيدة ما قاله التاريخ، ص 54 ).

وهو – في القصيدة عينها - يدعو حبيبته إلى نبذ اليأس، ويستشرف اليوم القريب الذي سوف تتدلى أعناق هؤلاء السياسيين من سقف الصفحات السود في كتاب التاريخ:

(فلا تقنطي ياحبيبتي
..................
ستتدلى حتماً:
الزهور من الشرفات
........................
وخونة الوطن من الحبال
الحبال المتدلية
من سقف الصفحات السوداء
في كتاب التاريخ – شاهدة، ص 55)

وستلاحظ هنا " إغلاق " دائرة القصيدة من خلال العودة إلى استهلالها الذي يستشرف الكيفية التي سوف يلفظ بها التاريخ هؤلاء الساسة المنافقين. وقد جاءت هذه العودة موفقة فنيا من خلال تحويل الصفحات البيض من كتاب التاريخ إلى صفحات سود، وذلك لأن البياض لا يتعايش مع العفونة والنفوس الشائهة، في حين أن السواد يتناسب معها، وهذا الوعي من اشتراطات الحداثة.

وحين أشرت إلى أن المعالي من البيئة نفسها فلكي أحيل إلى الكيفية التي يمكن أن تكون فيها محليا وحداثيا في الوقت نفسه. يقول المعالي في قصيدته ( خطاب – 1):

( وقتي رأس حمار أشهب، ربما يضيع التسليم بأمور وأفكار وسيعة كهذه الذكريات التي تسيح كالتراب، إذ من أين للذكر والذي كان تافها ومرّا مَثَلي؟ [ مَثَلي كذا ] وهو يعدو باسطوانات المذيع ويذكّر الآخرين بالتواريخ. قال الصديق: وهو يشبهني عن ظهر قلب: هي الخطوات أن نتقاتل أو نحتفل، وقد أذكر، لكنها رسائل لا تصل، فيما أمضيت وقتي في التذكر أو مداعبة الوريقات... الصديق الذي ذكرتُه.. كان يحمل لي مشورته ساهما كالحمار أمام نفسه – مدائن الوهم – ص 128 ).

والشاعر – وهذه سمة عملية – ليس هتافيا بلاغيا يقع في شراك الحماسة العمياء التي تسهم في توسيع الآثار السلبية لما سمي بـ " العقلية الشعرية " التي تفضي إلى انتفاخ الشعور الذاتي وضعف اختبار الواقع والحسابات الخيالية والاستهانة بالحواجز الفعلية والتي تجعل الصدمة رهيبة عندما تحل أي هزيمة. هذه العقلية هي في الواقع عقلية عصابية، وهي واحدة من أهم أسباب هزائم الأمة وتدهور حالها. إنه واقعي في نزعته التفاؤلية. فأولا هو مبادر لا يخدع ذاته بالنظر إلى النصف المملوء من الكأس الفارغة كما تقول الحكمة التقليدية ولكنه يسعى إلى ملء النصف الفارغ:

(شوك التفاؤل أجدى لروحي
من حرير القنوط
لا أكتفي بالنظر
إلى النصف المملوء من الكأس
وحين يكون فارغا
أملأه برحيق الأماني
وندى الأمل
وشهد الأخيلة – شاهدة، قصيدة امتلاء، ص 130 ).

وهو يؤمن أن قدرات الإنسان على العطاء لا تحدها حدود، ليس بمعنى الانتفاخ النرجسي المرضي ولكن بمعاني العطاء الواقعي الذي يبدأ من الكلمة.. كلمة الدعاء الإيجابية. فالعقلية الشعرية السلبية هي عقلية التمنيات وأحلام اليقظة والآمال، في حين أن العقلية التي يدعو إليها السماوي هي عقلية الأفعال المبادرة الخلاقة مهما كانت بسيطة في الظاهر. فالكأس التي يتحدث عنها السماوي حين تفيض إنما تأتي من تجمع قطرات صغيرة. والمشكلة لا تكمن في الطرق الوعرة بل في الخطى الواهنة:

(هب أنك
أضعف من أن تغرس البذرة
لكنك حتما
تمتلك القدرة على العطاء
إن لم تستطع
سقي البذرة بعرق الجبين
فبماء دعاءٍ
تعضد به أيدي الغارسين
لا يوجد طريق وعر
توجد خطى واهنة
لنفوسٍ
آثرت التدثّر بريش الظنون
في وقت
هي بحاجةٍ إلى شوك اليقين – القصيدة نفسها، ص 131و132 ).

ومعادلة ريش الظنون / شوك اليقين تعكس وعي الشاعر الحاد في تأمين وحدة قصيدته، فهي تقابل معادلة حرير القنوط / شوك التفاؤل التي استهل بها القصيدة.

ويلجأ الكثير من الشعراء الذي يكتبون نصوصا مقاومة إلى إطلاق خطابهم بصيغة " الأنا " التي تحل محل ضمير الجماعة. ومع تعاظم جسامة المسؤوليات التي ستتحول من كاهل الجماعة إلى كاهل الفرد لا يجد الأخير مناصا من أن يوازي تعاظم المهمات بتعاظم ذاتي مكافئ فنجد الإعلان عن القدرات الخارقة والطاقات المؤسطرة والتحولات الخرافية التي ستمحق القتلة الغادرين. لكن السماوي واقعي النظرة وعملي الروح يؤمن أن أي فعل تغييري شامل لن يتم إلا من خلال وحدة الرد الجماعي.. ويدرك أن الشفة الواحدة لن تكون فماً:

(لأنّ الشفة الواحدة لن تكون فما
وليس من نهر بضفة واحدة
لأن الوردة لا تكون بمفردها حديقة
وما من طير يكون سِرباً بمفرده
فقد آن لكل الجداول أن تتحد
لتصنع الطوفان – شاهدة، قصيدة: كي لا نُذل أكثر، ص 100)

وتتجسد هذه القناعة في أن أغلب قصائد " الأنا " الفرد تكون ذات روح تشاؤمية والقليل منها ذو تطلعات متفائلة، أما قصائد الجماعة: المتكلمة والمخاطبة، فهي على العكس من ذلك، فأغلبها ذو طابع متفائل نزّاع إلى الخلاص، في حين أن القليل منها تسيطر عليه روح التذمر واليأس والاستكانة. في قصيدته " الجنة ليست منجم فحم حجري " مثلا، وهي من قصائد " الأنا "، يعلن الشاعر تخلّيه حتى عن مدينته محاصرا بالموت والخراب واليتم والمفخخات:

(سأعود إلى صحرائي
وخيمتي..
وناقتي..
هذه المدينة مسلخ بشري
خفيفا سأخرج
ها أنا أعرض خردواتي على الرصيف:
عندي سيارات جاهزة للتفخيخ
ومن الأطفال ما يكفي لافتتاح
عشرين مقبرة جديدة – شاهدة، ص 117).

أما في قصيدة " كي نغفو مطمئنين دون كوابيس " وهي من قصائد الصوت الجمعي فإن الشاعر يرسم طريق الخلاص من خلال الإلتحام العام:
( ستبقى حقولنا حطبا لمواقدهم
ما لم نحصّن:

أنهار مسيرتنا بسدود اليقين
بصرنا بالبصيرة
وقلوبنا بالإرادة
لنغفو مطمئنين
تحت ظلال المآذن
دون كوابيس تقرّح أجفاننا
برؤية خنزير
من خنازير البنتاغون – شاهدة، ص 120و121).

في قصيدة " ركض في منفى الشمس " وهي " تسرد " بصوت الأنا، والتي يشي عنوانها بانفتاح أبواب المحنة على مصاريعها الجهنمية، ينشغل الشاعر باجترار همومه الحارقة ومعاناة وحشته وضياعه وتشرده في المنافي:

(أليس من حقّ فراشاتي
أن ترتشف قطرة ندى
بعد طول هجير؟
وأن يكون لقدَمَيّ رصيف؟
ولرأسي وسادة؟
ولأطفالي هوية؟
ولخيمتي وطن من تراب
لا من حروف، كالذي يغفو خجولا
في جواز سفري المزوّر؟ - شاهدة، ص 112)

أما في قصيدة " كي لا نُذلّ أكثر " وعنوانها عملي يشي باجتراح طريق تفضي إلى الخلاص من المهانة وقيود المحنة، فإنها تأتي بضمير الجماعة، وبدعوة ساخنة للتوحّد ومزج الطاقات للإطاحة بجدار الإحتلال:

(لنكن:
حجرا على حجر
كي ينهض الصرح
لونا إلى جانب لون
ليشع قوس قزح
..............
جدولا مع جدول
ليكون النهر العظيم
كلمة تقفو كلمة
ليكتمل المعنى 
خطوة ترفد أخرى
لتتواصل المسيرة 
ويدا إلى يد
لنُطيح بجدار الاحتلال – شاهدة، ص 100و101).

ويجتمع ما قلناه عن سمات الأنموذجين: شيوع النبرة التشاؤمية الساخطة في نصوص أنا الشاعر حين تثقل كاهله همومه المدوّية التي لا منفذ لها ولا مهرب منها، وتسيّد التوجه التفاؤلي الخلاصي في النصوص التي يتمثل بها الشاعر ضمير الجماعة وأوجاعها المريرة، يجتمعان في نص واحد هو " كلمات متقاطعة "، ومفردة متقاطعة، بخلقها للتناوب، معبرة لأن الشاعر حين يتحدث بلسان أناه (في المقطع الخامس)، يعلن عن حنقه ونقمته على من يريدون تخريب وطنه وقتله:

(وطني ليس هندوسيا
ولم يمت بعد
فلماذا يصرّون
على إحراقه حيّا؟ - شاهدة، ص 128)

ولكنه حين يتحدث بلسان جماعته الصعاليك (في المقطع السابع) فإنه يفخر بانتسابه إليهم، هم الذين يطرزون سماوات الوطن بالفراشات، ويفضح، بالمقابل، انحطاط مستوى الأباطرة الطغاة الذين يلوثون فضاءات الوطن بصورهم الكريهة:

(نحن الصعاليك 
سيماؤنا في وجوهنا
من أثر تحديقنا بالأفق
أما الأباطرة
فسيماؤهم في مؤخراتهم
من أثر التشبّث بالكرسي
متسبّبين في إصابة الوطن بالبواسير
هم يلوثون الجدران بتصاويرهم
ونحن
نطرّز فضاء الوطن
بالفراشات – شاهدة، ص 128و129).

ولأن الاعتراف بالخطأ فضيلة، فقد راجعت التعبير السابق الذي قلت فيه: (.. الطغاة الذين يلوثون فضاءات الوطن بصورهم الكريهة) محاولا تقديم وصف يوازي ما جاء في مقطع السماوي الذي يقول فيه: (.. هم يلوثون الجدران بتصاويرهم) مستبدلا الفضاءات بالجدران، والصور بالتصاوير)، فوجدت أن الشاعر كان أكثر دقة ونفاذا إلى جوهر الصفات والمسمّيات، فهل تُعلّق الصور في الفضاءات أم على الجدران؟ كما أن هناك الفارق اللغوي بين الصورة التي تأتي بمعنى الصفة والنوع والهيئة وهذا مالا يريده السماوي بالتأكيد لأنه يرخي شدّة الهجمة من خلال ارتخاء حدود المعنى، في حين أن التصوير لا يعني سوى فن تمثيل الأشخاص بالألوان. هل يخطط يحيى لكل ذلك بمسطرة الوعي؟ لا أعتقد، وأؤكد أن لاشعور الشاعر – بخلافنا – هو شعوره.
وقفة:


وفي هذا الإطار لابد من وقفة توضح إلتباسا متوقعا قد يلقي البعض من النقاد – بقصد مسبق أم بنية طيبة تقوم على سوء التأويل – ظلاله على موقف يحيى السماوي المقاوم. فهم قد يقولون إن الشاعر بدعوته إلى سحق المحتلين بكل الأشكال قد يصل في موقفه - من دون أن يدري – إلى النتيجة التي يخلط بها الإرهابيون فيها الأوراق فيحرقون في طريقهم الأخضر واليابس بعنفهم المنفلت الذي يمزق جسد الوطن أكثر من قوات المحتل فيتضاعف خرابه تحت أغطية المواجهة والتصدّي. ولكن هذا ما أدركه السماوي بقوة. ها هو لا يتردّد في الإعلان المباشر أنه ضد استخدام العنف إلا إذا كان موجّها إلى رؤوس الطواغيت وصدور الغزاة والخونة:

(أنا ضد استخدام الرصاص
باستثناء الرصاص الذي يثقب:
رؤوس الطواغيت
صدور الغزاة
لصوص المطر
والقادة الإماء – شاهدة، قصيدة هذيان قد لا يخلو من حكمة، ص 40و41).

وهو يعود إلى إعلانه هذا بأشكال مختلفة وفي نصوص عديدة. ولكن عينه الشعرية ذات النظرة الثاقبة تلتقط أيضا تلك الإشكالية الملتبسة التي جعلت العراقيين يعيشون مفارقة عنفية لم يشهد لها التاريخ مثيلا وهي أنهم لم يعودوا يسألون عن من يقوم بالقتل، بل عن من الذي لا يُقتَل منهم !! فالكل يقتلون.. بائع الثلج والحلاق والطبيب والضابط السابق والمعلم والمرأة والرجل والطفل والشيخ... إنها حملة إبادة بشرية بشرت بها أمريكا منذ عقود ويمكنك مراجعة تجربتها في أمريكا اللاتينية التي أشرف على تهيئة وتدريب فرق الموت فيها (جين نغرو بونتي) _ هل عبثا أن أمريكا عينته سفيرا لها في العراق؟! –. ولهذا نجد السماوي يشجب وبقوة أي عمل إرهابي يستهدف الشعب، ويصف من يقومون به بـ " الهمجيين":

( أيها الهمجيون
الجنّة ليست منجم فحم حجري
لتفتح أبوابها بالديناميت
ليست مسلخاً لتدخل بحزّ الرؤوس
إذا كان الإرهاب جهاداً
والقتل الأعمى تُقى
فإن "أرييل شارون"
أتقاكم جميعاً
ولا ثمة أجدر من "الفوهرر"
بالإمامة – شاهدة، قصيدة:الجنة ليست منجم فحم حجري، ص 119). 
 

وحدة المناخ النفسي وقرائن ذاكرة القصيدة:

إن على الشاعر الذي يدرك اشتراطات الحداثة في القصيدة أن يوفر لا أسباب التحام جسدها الفردي حسب بل ارتباطها بالنصوص الأخرى التي تسبقها أو تليها في المجموعة الشعرية التي يصدرها. هنا يمكن أن نتحدث على " وحدة المناخ النفسي " الكلي للمجموعة الذي يوفره الموضوع المركزي – وهو هنا الدور المقاوم للشعر ضد الاحتلال والغزاة والتبشير بقرب انتصار إرادة الإنسان والمراهنة عليها دائما مهما ادلهمت الخطوب وتعاظمت قوى الطغيان، لأن:

(ثمة بين الشعر والنضال حبل سرّي
كلاهما يُحدق في تخوم الغد
وكلاهما جسر ذهبي
يربط
بين شجر الأحلام
وطين اليقظة
وكلا رياضهما يا صديقي
لا تنجو
من حسد الطحالب – شاهدة، قصيدة أوراق العزلة، ص 137)

... ولكن من خلال ما يمكن أن أسميه بـ " قرائن الإحالة في ذاكرة المجموعة " بمعنى أن هناك قرائن مفرداتية أو صورية تتكرر في نصوص المجموعة فتحيل كلّ نص إلى الآخر حتى لو لم يتطابق السياق الكلي الذي ترد فيه هذه القرائن. فمن أسس عمل الذاكرة البشرية أنها كي " تربط " و " تستدعي " شيئا ما من مخزوناتها فإنها إما أن تستدعيه بقرينة لغوية ترتبط بخصائصه أو بطريقة تنظيمه أو بدلالته العاطفية... إلخ. وعن هذه الطريق تصبح للمجموعة ذاكرة عامة قائمة على الوشائج والصلات الشكلية أو المضمونية بين نصوصها. وهذا ما يقوم به السماوي كثيرا – وبقصدية واضحة – في مجموعاته الشعرية خصوصا المتأخرة منها. وقد تحدثنا – مثلا – عن تكرار ثيمة الموت والتمظهرات اللغوية المعبرة عنه في أغلب النصوص.. عن المدخل الرثائي الشخصي الذي مهّد لحالة رثاء الطن والآمال العامة.. عن سمات شكلية تتكرر في النصوص: جناسية وطباقية وغيرها.. وهناك مثال آخر هام يتمثل في أن مفردة معينة ذات وقع نفسي مختزن في وجداننا تتنقل من نص إلى آخر.. وفي كل نص يوظفها الشاعر بطريقة جديدة نسبيا.. لكن تبقى السمة الحاكمة هي شكلها وشحنتها النفسية. خذ على سبيل المثال مفردة " الحبل " وما تعنيه من معاني عامة بدلالات استعمالاتها القاموسية لدى أي متلق ٍ من جانب، وما تعكسه من ذكريات وتداعيات في ذاكرة المتلقي العراقي من جانب آخر. تتكرر هذه المفردة في قصائد هي: ما قاله التاريخ، أنا مثلك يا أنطوان، من وحي تمثال الحرية في نيويورك، كلمات متقاطعة، وأوراق العزلة. ولن أتوقف عند جميع هذه النصوص خوفا من الإطالة أولا وكي أترك جانبا لانتباهة القارئ التحليلية التي أراهن عليها دائما ثانيا. في قصيدة " ما قاله التاريخ " تأتي وقفة الشاعر التوظيفية مع " الحبل " كأداة عقاب - مشنقة - يتدلى منها خونة الوطن الأدلاء، لكن الشاعر الذي يتسامى بروحه النبيل على أعمال السفّاحين يخفف التعبير القصاصي ويجعلها حبال تتدلى من سقف صفحات التاريخ السوداء. وباستخدام مفردة السقف تكتمل ممكنات الصورة المادية ولكن مجيء " الصفحات " في الوقت المناسب يلغي العنف الفعلي فيها:

(.. وخونة الوطن من الحبال
الحبال المتدلية
من سقف الصفحات السوداء
في كتاب التاريخ – شاهدة، ص 55 ).

ولكن لاحظ ما الذي يحيل إليه " واو العطف " في بداية هذا المقطع. إنها تحيل إلى "تدلّي" نقيض يؤجج الوقع النفسي للصورة، ويشيع الإحساس التفاؤلي رغم النهاية العنيفة:

(لا تقنطي يا حبيبتي
لا تقنطي
الغد يتسع للفرح
ستتدلى الزهور من الشرفات
العناقيد من الأغصان
الحقائب المدرسية من ظهور الأطفال
وخونة الوطن من الحبال... إلخ – شاهدة، ص 55)

وبعد عدة نصوص تتكرر هذه المفردة في قصيدة " أنا مثلك يا أنطوان " كأداة قصاصية مميتة أيضا، ولكن محجمة بالنزعة الشعرية النبيلة نفسها أيضا. لا يمكنني أن أتصور مبدعا كبيرا لا يكون قبلها إنسانا كبيرا. صحيح أن الشاعر ضروري للحياة البشرية في دوره الشيطاني المحرّض أكثر من دوره الرسولي المصلح، لكن الشاعر – في أعظم تجلياته – شيطان حنون !! هذا هو سر خلود دستويفسكي وفلوبير – وراجع محاكمة الأخير على مدام بوفاري - والسياب والجواهري والتكرلي.. إلخ. يقول يحيى:

(مثلك أحلم
أن أصنع من أضلاعي
مسامير لنعوش الطغاة
وأن أضفر أهدابي حبلا
لرقاب أعداء الطفولة – شاهدة، ص 88و89).

وحبل من أهداب جفن الشاعر لا يشنق ولا يخنق !!

ثم يعود الشاعر إلى استثمار هذه المفردة في القصيدة اللاحقة " من وحي تمثال الحرية في نيويورك " حيث يكررها أربع مرّات تكون في كل مرة أداة مادية لنشر الغسيل القذر للخنازير الأمريكان – ولا تقولوا لي حدّد الجهة المسؤولة وافصل بين الحاكم والمحكوم فقد حاصرونا شعبا كاملا بسبب حاكم وقتلوا منّا مليون بريء في الحصار الجائر لغرض إسقاطه !! هل يبدو أنني أكثر عنفا من يحيى؟ لسوء الحظ أعتقد أن ذلك صحيح:

(يلزمني حبل أمدّه
من " هيروشيما " حتى " بغداد "
لأنشر عليه
ثياب الأطفال الذين حصدتهم
مناجل البنتاغون
يلزمني حبل
من " ناغازاكي " حتى " الفلوجة "
لأنشر عليه
قائمة بأسماء الأمهات اللواتي
أثكلهن الديناميت الأمريكي
.............................
.............................
يلزمني حبل
من " غوانتنامو " حتى " أبو غريب "
لأنشر عليه
آخر مبتكرات شرطة أمريكا
في فن التعذيب – شاهدة، ص 91و92)

وفي المقطع اللاحق يستمر استخدام الشاعر للفعل " يلزمني " ولكن مع تحوّل " الحبل " إلى " قلب "، وكأننا في عملية استلام وتسليم دائبة تشبه تسليم العصا في سباق عدّائي البريد.
وفي قصيدة " كي نغفو مطمئنين دون كوابيس " يصبح الحبل تعبيرا عن فاجعة احتلال بلاد الشاعر بأكملها. فهو الحبل الدموي المسلّح الذي نُشر عليه جسد العراق الشهيد:

(غسلوا الوطن بدم أبنائه
مدّوا حبلاً من سرفات الدبابات
من قمة " بيره مكرون "
حتى آخر نخلة في " جيكور "
نشروا عليه العراق – شاهدة، ص 120).

وفي هذا المقطع " يحسب " السماوي موقع ودلالة كل مفردة. فاستهلال المقطع بالفعل " غسلوا " يجعل المسار الدلالي متسقا لكي يرتبط بالفعل " نشروا " ليصبح الأول تمهيدا لاستكمال دور النشر على الحبل. وإذا كنا قد اعتدنا أن نجمل جغرافية العراق الكلية بالتعبير المتداول: من زاخو إلى الفاو، فإنه قد استعاض عن الفاو بجيكور التي لها منزلة كبرى في ذاكرة ووجدان المتلقي العراقي فهي قرية السياب الكبير أعظم رموز الروح العراقية الحيّة.
ولكن كيف تنتهي هذه القصيدة " كي نغفو مطمئنين.. " التي استهلها بصلب جسد الوطن " نشره على حبل سرفات الدبابات من الشمال إلى الجنوب: من بيره مكرون إلى جيكور؟ هنا تظهر احترافية السماوي العالية فهو يختمها بالمكونات نفسها: الحبل وبيره مكرون وجيكور مع إضافة هي أن الحبل سوف ينشر بفعل انبعاثي عظيم وخارق فهو حبل من ضوء يمتد من قمة جبل بيره مكرون إلى آخر نخلة في جيكور، ولا يجرؤ يحيى على نشر جسد الوطن على هذا الحبل فهذا فعل تمثيلي من أفعال الغزاة يشجبه ويمقته ويترفع عنه هو العاشق لبلاده، إنه ينشر عليه تقاويم أعياد الفرح الدائمة، لنحتفي بعيد كوني نردد فيه أناشيد الشاعر عبد الله كوران (بيره مكرون) وترانيم لبدر شاكر السياب (جيكور):

(.. ومن قمة " بيره مكرون "
حتى آخر نخلة في " جيكور "
سنمدّ حبلا من ضوء
ننشر عليه
تقاويم أعيادنا 
مردّدين أناشيد " عبد الله كوران "
وترانيم " بدر شاكر السياب "
وأغاني محمد القبنجي – شاهدة، ص 122).

هنا يجمع شمال الوطن ممثلا بكوران بجنوبه مجسدا بالسياب، يلتقيان بصوت القبانجي الصادح من حنجرة وروح بغداد الأم. 
 
وهذه المراجعة نفسها التي قدمناها عن تعدد وقفات الشاعر التوظيفية لرمز الحبل يمكننا أن نقولها عن مفردات أخرى مثل: الجواز المزوّر، السرفات، إله من التمر، الديناميت، النخلة، نهر الضوء الصوفي، مناديل العشق، اللحى، الحزن........ إلخ.
 
اعتراض:

وقد يسأل سائل إذا كان ما قلته عن وحدة المناخ النفسي للمجموعة حقّا فكيف تفسر انبثاث قصائد حب ونسيب بين نصوص المجموعة؟ ألا تضعف شحنة التعلقات العاطفية من قوة التيار الناقم على وحشية الخنازير الغزاة وأدلائهم؟ والجواب سيكون مختصرا لأنني سوف أخصص دراسة مستقلة عن دلالات الحضور الأنثوي في شعر يحيى السماوي، فأقول أن نصوص التشبيب المبثوثة بين النصوص المقاومة تسهم في إشاعة المناخ نفسه وتعزيز وحدته في المجموعة من خلال أن الشاعر في أقصى حالات الإنهيام بمحبوبته يراها ملتحمة بأرضه ووجود بلاده وتنسرب مفردات الأرض الأم في ثنيات الخطاب الحبي من ناحية وهو – أي الشاعر – لا يوفر فرصة، مهما كانت محايدة أو متعادلة نفسيا في الظاهر – دون أن يعزز الموقف المقاوم الرافض في شعره من الناحية الثانية. في قصيدة " لو كنت.. " نبدأ بداية غنائية يتعهد فيها الشاعر بأنه لو كان ربيعا فإنه سوف ينشر الخير والخضرة والنماء في كل صحارى العالم، وهي تمنيات توحي بالفعل الإنبعاثي المختزن الطموح إليه في لاشعورنا كدفاع في وجه المثكل:

(لو كنت ربيعا
لما تركت صحراء
إلا وأقمت فيها
مهرجان خضرتي – شاهدة، ص 95).

ولأن فعل الشاعر الشعري يقوم على ملاحقة الضد بالضد (وبضدّها تتبين الأشياء كما يقول المتنبي)، فإنه يلحق بالصورة الربيعية السابقة صورة يتمنى فيها أن يكون القرين " السلبي " للربيع وهو الخريف في واحدة من أروع التمنيات:

(لو كنت خريفا
لانتحرت
كي لا تحني الوردة رأسها
حُزنا على الفراشات – ص 95)

وفي حركة ثالثة يتمنى أن يكون المطر كي يحيي الأرض بـ " دموعه ":

(لو كنت مطرا
لواصلت بكائي
كي تضحك السنابل – ص 95)

وهكذا يستدرجنا في دروب التماهي مع مكونات الطبيعة وتحولاتها ليغيّب انتباهتنا، ويسير بنا في طريق " طبيعية " محايدة لا صلة لها بالسياسة. وبعد أن يؤسطر – ضمن التمني طبعا – طاقاته الخارقة مستعيرا أفعال الطبيعة الكونية من ربيع وخريف ومطر فإنه ينهي القصيدة بأمنية صادمة يجعلها متسقة مع الشكل " الطبيعي " للأمنيات السابقة وذلك من خلال اجتياح البيت الأبيض كطاعون مجتثا إياه بأداة زراعية هي المنجل:

(لو كنت طاعونا
لاتخذت البيت الأبيض
حقلا لمنجلي – ص 96). 

وما يثبت هذا الإنهمام بصورة أصدق وأكبر هو قصيدته " العائلية " التي حملت عنوان " العائلة " وتكونت من خمسة مقاطع كل مقطع مُهدى إلى واحد من أفراد عائلته الخمسة: زوجته أم الشيماء وأبنائه: الشيماء وعلي ونجد وساره، وتفحصنا - على سبيل المثال - القسم الذي أهداه إلى نجله "علي" فسنجده يوصيه:

(يا وزيري وولي عهدي الأمين
(.............. )
أليس حماقة أن تحب العراق مثلي
وأن يكون قلبك
أكثر بياضا من حمامة " بيكاسو "
في زمنٍ
أكثر سوادا من دخان قنابل البنتاغون؟
وصيّتي:
أن تكمل مشواري
في كره
شياطين البيت الأسود في واشنطن – شاهدة، ص 50 )..

وياريت كل العراقيين يكتبون مثل هذه الوصية لأبنائهم... لقد ملأ هؤلاء الأوغاد السفلة قلوبنا قيحا، حتى صرنا نتمنى أن تكون لنا قلوب من نوع آخر حسب أمنية السماوي كي نعرف اللذة التي جنوها من اغتصاب وحرق الصبية العراقية الطاهرة المغدورة ( عبير قاسم حمزة ). يقول السماوي:

(يلزمني قلب " هولاكو " وضمير " جنكيزخان "
لأعرف حجم لذة " المحرّر الأمريكي "
بعد اغتصابه " زهرة الله " عبير قاسم حمزة
قبل رش صدرها بالرصاص
وإيقاد النار في جسدها
ليذيب الجليد المتجمد في عروقه – شاهدة، قصيدة " من وحي تمثال الحرية في نيويورك، ص 92و93).

وفي نهاية القصيدة يضع السماوي هامشا ليذكر فيه من لم ينتفع من الذكرى يقول فيه:
( عبير قاسم حمزة: صبية عراقية من مدينة المحمودية – كانت في طريقها إلى بيتها حين شاهدها رهط من الجنود الأمريكيين، فتبعوها حتى دخلت بيتها، فاقتحموه.. قتلوا أباها وأمها وبقية أفراد عائلتها، ثم تناوبوا على اغتصابها، قبل قتلها وإضرام النار في البيت لإخفاء جريمتهم.. وإثر قيام حملة استنكار عالمية ضد هذه الجريمة الوحشية، تمت محاكمة المجرمين في محكمة عسكرية أمريكية، فعوقب بعضهم بالسجن حفنة شهور، وأطلق سراح البعض الآخر – ص 94).. فكيف يكون الوغد ابن الوغد إن لم يكن أمريكيا من سلالة جورج بوش؟ وكيف ستطمئن الإنسانية على مستقبلها بوجود مثل هؤلاء الوحوش السفلة؟:

( أياً كانت مآسي الغد
أياً كان غضب الأعاصير
البراكين
الطوفانات
الزلازل
والأوبئة
فأجيال الغد لابدّ أن تكون أحسن حالاً
مادام أن الغد
لن يشهد ولادة وحش جديد
اسمه:
" جورج بوش الحفيد " – ص 93). 
.. لا تسامحوهم..
 

لحظة وداع:

في ختام هذه الدراسة، وإذ يرتفع - الآن - صوت مؤذن الفجر في سماء دمشق العربية - أتذكر هذا الصوت الجبار وهو يرجف روحي في بغداد المحروسة بالله مع انتهاء ساعات القطع الكهربائي المبرمج، صوت البشير الأزلي يأتي مع خيط الفجر الأول يعلن: الله حي... العراق حي... فتقشعر روحي التي أدماها يحيى السماوي وجدانيا وأرهقها نقديا.. تاليها وياك يحيى السماوي؟..

ويا أيها القاريء العزيز.. يا شقيق روحينا المجهول.. كلانا أتعبك.. فعذرا.. ووداعا.. 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى