الاثنين ١٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨

الأيام الأخيرة لأشباح المدينة في حلب

بقلم: ريمون جورجي

هل هناك أشباح في حلب؟ الجواب نعم بالتأكيد ولكن من هم؟ و كيف وصلوا إليها وماذا فعلوا بها؟ أسئلة تدور في مخيلة كل من يتوجه إلى مسرح دار الكتب الوطنية بحلب لحضور عرض مسرحية "أشباح المدينة "من تأليف وإخراج الدكتور وانيس باندك، والتي يستمر عرضها حتى السادس عشر من شهر نيسان الحالي ، وهي إحدى عروض المسرح القومي بحلب التابع لوزارة الثقافة،

المسرحية تتحدث عن مرحلة زمنية من تاريخ مدينة حلب بين عام 1798 م إلى ما يقارب عام 1875م وتتضمن أحداثاً مهمة كإرسال الفرسان لنجدة مصر، ومرض الطاعون الذي قتل الكثيرين من أهالي حلب، وأيضا الزلزال المدمر الشهير الذي حصل فيها بتاريخ الأول من آب عام 1821 م والذي حصد ما يقارب 15000 نسمة، ورغم كل هذه الأحداث والكوارث والغلاء والفقر والحريق والحصار، صمدت حلب ووصلت إلى ما هي عليه اليوم و حال أهلها يقول: " لن تموت حلب ولن يموت شعبها ".

تبدأ أحداث " أشباح المدينة " عند سفر 7000 فارس حلبي مع أربعمائة جمل محمل بالذخيرة إلى مصر لنجدتها وحمايتها من الفرنسيين، ويعقبها إرسال 4000 فارس آخر بعد عام،‏ (انصرنا يا رب انصرنا واجبنا ننصر أخوتنا لديار المصرية سرنا) هكذا كانت مشاعر أهل حلب في تلبية نداء إخوتهم في مصر، وتبقى حلب بدون فرسان أو قوة، فيصيبها الجوع والفقر وتُستباح أسواقها من " اليتجرية"، وهم فئات من القوات العثمانية المعروفة بالانكشارية، والتسمية التركية هي" يني جيري " التي كان يغلب على أفرادها البطش واللا رحمة وكان أغلبهم من اللقطاء الذين لا أهل أو موطن لهم, ومن ثم انفصل هؤلاء اليتجرية عن الجيش العثماني وشكلوا عصابات سلب ونهب وقتل وعاثوا فساداً في مناطق كثيرة حين ضعفت سلطات الدولة فيها، وهذا ما حصل لحلب عندما غادرها فرسانها وهنا تتوضح فكرة العدو الداخلي والخارجي للعمل الذي نجح في الربط بين العدو الخارجي الذي واجهته مصر، والعدو الداخلي الذي نما وتبرعم من نفس المنطقة، وتبقى إشارة العمل الواضحة إلى العيش المشترك بين الأديان السماوية الثلاثة في تلك المرحلة الزمنية من خلال العلاقة اليومية لشالوح اليهودي، وغسان المسيحي، و باقي المجموعة وفي مقدمهم شيخ الكتاب، والذين سهروا وعملوا وذهبوا للاستحمام في حمام السوق معاً، دون أي تباين أو تباعد أو نفور.

اعتمد مؤلف العمل على مصادر عدة، أهمها هو كتاب " نهر الذهب في تاريخ حلب" لمؤلفه الشيخ كامل الغزي الذي وثَق في كتابه عن مدينة حلب وصناعها، مدارسها، مذاهبها، أديانها، عاداتها، حياتها الاجتماعية في أحيائها القديمة والجديدة آنذاك.

وعن اعتماد التواريخ الهجرية ضمن حوارات المسرحية يقول وانيس باندك:" بأنه نقلها كما هي حرفياً حيث كانت تلك المرحلة تعتمد على تسجيل التواريخ وفقا للتقويم الهجري في ظل الحكم العثماني ودرءاً للتباين بين الزمن المعاصر و الزمن التاريخي واكتفى بذكر التاريخ المعاصر فقط عند الحديث عن الزلزال الكبير الذي تعرضت له حلب بتاريخ 1 آب من عام 1821 م وما خلفه من دمار على حلب وتوابعها، والحصار الذي دام حوالي الأربعة شهور من قبل العثمانيين( حصار خورشيد) الذي جوع حلب حتى أنهكها فدخلوها وسيطروا عليها بعد أن أطلقوا المدافع على أسوارها، وجرت معارك كثيرة انكسر الحلبيون بعدها، ودمرت حلب، وكانت مكافأة خورشيد باشا على هذا الخراب هي خنجر مرصع. ولكن حلب دمرت ومئات الآلاف من البسطاء، فبقيت حلب وبقيت قلعتها صامدة ولن تموت حلب ولن يموت شعبها.

تتسلسل التواريخ الرئيسة للأحداث ويديرها عناصر العمل بإتقان ملفت وفق حبكة مشوقة لحث المشاهدين على إعادة قراءة تاريخ مدينتهم والتمعن به، هذا بعد أن تكون المشاهد التمثيلية وحركات الممثلين المتناسقة المتسارعة مع وتيرة الحوار، قد هيأت المشاهد و دفعته لإدراك ضحالة معلوماته التاريخية فحركت لديه رغبة في البحث والاستقصاء حول تاريخ حلب، واستخدم المخرج مفهوم بريخت حول المسرح الملحمي الذي يُخرج المشاهد إلى الصحوة و يرجعه إلى الحالة الإنسانية كي لا يغرق في أحداث العمل.

إن " أشباح المدينة" عمل مسرحي وثائقي غير مطروح في سوريا (بهذا الشكل والكم من حيث المتعة والإمتاع)، وهي مسرح ضمن المسرح. كما أن رمزية الأحداث التي تتحدث عن حلب ترمز بوضوح إلى الوطن بأكمله بما مرت عليه من أحداث وآلام وكوارث وعاش شعبه وكافح للبقاء والصمود من خلال ما ألم به في ذلك العصر والزمان، وبالتالي يسهل على العقل الإنساني من عمل المقارنة بين العصر الحالي و الغابر ليستخلص الأمل مستندا إلى التاريخ، فمرض الطاعون الذي أصاب حلب عام 1229 هجري كان يحصد يوميا بين 800-1000 من المسلمين، وما بين 40-60 من النصارى، وما بين 20-30 من اليهود، لم يدفع الحلبيين إلى القنوع والاستلام إلى اليأس بل استطاعوا الانتصار عليه حينها، وبتلك الوسائل البدائية مع كل الفقر الذي كانت تعيشه حينذاك.

تدريبات العمل لما تتجاوز الشهرين بسبب ظروف وجود عمل مسرحي آخر للأطفال في الفترة الماضية، ولكن حرص المخرج وفريق العمل على إنجاز العمل الحالي وإظهاره بهذه السوية اللائقة من حيث الحركة والأداء والنطق الواضح للغة العربية الفصحى إضافة إلى الديكور والملابس، ولعل الموسيقى المرافقة مع كلمات الشعر والأغاني التي وصفت الأحداث بكلمات رومانسية وألحان حلبية قريبة للقلب استطاعت اختصار المكان والزمان، وقدمت الأحداث للمشاهد و كأنها تحصل أمامه و في حضوره.

يشغل مؤلف ومخرج العمل الدكتور وانيس باندك حالياً منصب مدير مسرح الطفل في المسرح القومي ومدير المسرح المدرسي في مديرية التربية بحلب، وله أعمال وتجارب سابقة منها : " قطعة العملة " لفرحان بلبل، و"الدراويش يبحثون عن الحقيقة" لمصطفى الحلاج، و"سكان الكهف" لوليم سارويان، و"من يقتل الأرملة " لوليد إخلاصي، و" الميراث" لممدوح عدوان.‏

أما ما بعد انتهاء عرض المسرحية في حلب، فتوجد أفكار مطروحة على فريق العمل لعرض المسرحية في محافظات سورية أخرى وربما تم عرضها خارج سوريا،

أسماء الممثلين: أسامة السيّد يوسف، جمال مكانسي، هوري بصمجيان، هيفي حسين ، محمد شمة، سمير الطويل، حسان الفيـصل، أسامة عكام، حسام محمود، أنور حاج مصطفى، فؤاد ويس، يمان الخطيب،

" لن تموت حلب....... و لن يموت شعبها " طبعها وانيس باندك على صفحة من صفحات " بروشور" المسرحية، أما أنا فأقول لن تغفو حلب، ولن تغيب ثقافتها، فعلى الرغم من تزامن احتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية، ومن قبلها كانت حلب عاصمة للثقافة الإسلامية، فلابد لهاتين العاصمتين من أن تدفعا الحراك والنشاط الثقافي في سوريا نحو مستقبل ناصع ومشرق، يجد فيه المثقفون أنفسهم على الكراسي لا على قارعة الطريق.

بقلم: ريمون جورجي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى