الأحد ١٧ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم فؤاد اليزيد السني

التجربة الشعرية عند ماريه راينر رلكه (1875-1926)

الشاعر

تَبْتَعِدُ َعنّي أَيُّها الزَّمَن!
تَجْرَحُني ضَرَباتُ أَجْنِحَتِك،
وحيدا: ماذا أَفْعَلُ بِفَمي؟
وماذا بِلَيْلي ونَهاري؟
 
***
 
لا حَبيبَة َلديّ ولا مَأْوى،
ولا مكان حَيْثُ أَعيش،
فَكُلُّ الأشْياء التي أَهَبُها نَفْسي،
تَسْتَغْني بي، على حِسابي.

وحدة

شَبيهَةُُ هي الوَحْدة،
بِهذه الأَمْطار،
صاعِدَة مِن البَحر،
ماشِيَة نَحوالمَساءات،
عَبْرَ السُّهول تَسير،
مُبْتَعِدَة، ضائِعَة،
ومِن السَّماء،
تَساقَطُ على المَدينَة.
 
***
 
تَبْكي هذه الوَحدة،
في ساعاتِِ حائِرَة،
حين نَحوالصّباح،
تَلْتَفِتُ الشَّواِرع الجَديدَة،
حينَ هذه الأَجْساد،
المُنْهَكَة بالاحْتِقار،
تَنْفَرِج حَزينَة،
ظامِئَة غَير مُرتَوِيَة،
وحينَ تَرى الرِّجال،
المُحْتَقرين لِبَعْضِهِم،
مُضْطَرّين لِلنَّوْم،
في سَرير واحِد،
حينَها تَبْتَعِدُ الوَحْدَة،
عَبْرَ الأَنْهار.

ألأَسْمى هوالرَّحيل

أَلأَسْمى هوالرّحيل،
شَيءُُ مِنّا بِالرَّغْمِ عَنّا،
عِوَضًا مِن المَشْيِ وَرائَنا،
يَبْتَعِدُ عَنّا رَغْبَة في السّماوات.
 
***
 
فَلِقاءُ الفّنِّ الأَسْمى،
أَ لَيْسَ ذاك الوَداعُ الوَديع؟
والموسيقى، هذه النَّظْرَة الأَخيرَة،
هذه التي نُلْقيها بِرَغْبَتِنا على أَنْفُسِنا!

مقدمة لا بد منها حول الترجمة.

من جهتنا، نعتبر الترجمة فنا له أساليبه، ومهنة لها شروطها وأدواتها، حتى لا تصبح النصوص المنقولة من لغة لأخرى، عبارة عن صورة مشوهة للنصوص الأصلية. لهذا ننبه القارئ الكريم، بأن هذه الدراسة التي خصصناها للشاعر الكبير" ماريه راينر رلكه"، اعتمدنا فيها على نقل القصائد الأصلية إلى اللغة العربية، انطلاقا من مراجع موثقة. ولقد سمحنا لأنفسنا بحرية إعادة تشكيل وصياغة بعض القصائد، حتى يتأتى المضمون الذي عبر عنه الشاعر، مستوفيا لشروطه الفنية و"الشاعرية" في حلة جمالية، تليق به وتعبر عن فحواه. وحتى لا نكون قد تجاوزنا الحدود المسموح بها لنا، نسوق تنبيه الشاعر نفسه حيث يقول بشأن الترجمة:" إنني أعتبر كخيانة لشعري، كل ترجمة لا تأخذ بعين الاعتبار إعادة صياغة أفكاري. وفي الوقت نفسه، كل من اعتبارات الزمن والحركة الداخلية والإيقاع الموسيقي للنص الأصلي. فالترجمة الحرفية مهما كانت دقتها، تظل في وجهة نظري، ليست سوى استبدال لجسد حي بآخر من الشمع، أي جثة باردة." ولا أحسبه إلاّ مرددا نوعا ما لتلك المقولة الجاحظية الشهيرة، تلك القائلة بأن:" الشعر لا يترجم. لأنه إذا ترجم، فقد موطن التعجب منه."

نبذة وجيزة عن حياة الشاعر النمساوي رلكه.

ولد راينر ماريه ريلكه، واسمه الحقيقي، "رنيه كارل ولهلم جوهان" جوزيف في براغ سنة 1875. وكمواطن نمساوي، كانت لغته الأم الألمانية. وعن تكوينه نقول، بأنه كان قد التحق بالمدرسة العسكرية للضباط، حيث بدأ أول تجربته الشعرية. ولأسباب صحية، مثله مثل الكاتب الفرنسي الشهير مارسيل بروست، صاحب مجموعة "البحث عن الزمن المفقود"، اضطر الشاعر أن يتخلى عن تكوينه والخروج مسافرا، عبر آفاق المعمورة. سافر إلى إيطاليا، فإسبانيا، فروسيا حيث التقى ï بليون تولستوي، فالدانمرك، إلى أن ساقته الأقدار وحطت به الرحال على أرض فرنسا. وفي باريس تعرف على النحات الفرنسي الكبير أوغست رودان وإبان إقامته عنده تزوج ب "كلارا وستوف" وأنجبا طفلة اسمها." روث" ولقد سجل لنا التاريخ، لقاءً بين ريلكه ورودان، حين سأل الأول رفيقه عن معنى الحياة قائلا له: كيف بإمكان الإنسان أن يعيش؟ فأجاب رودان: بالعمل. وأدرك ريلكه للتوبان تجربته الشعرية ستكون تجربة عمل. وأن القصيدة مركبه الوحيد لعبور قنطرة الدنيا، المحفوفة بالكآبة والقلق والآلام.

بالفعل لقد كانت ولادته شعرا وحياته شعرا ووفاته شعرا. وإبان إقامته في باريس فاجأته الحرب العالمية الأولى فاضطر إلى مغادرة البلد باعتباره مواطنا نمساويا. وهكذا خرج من فرنسا وقد سلبت منه كل ممتلكاته. وحطت به الرحال من بعدئذ ومن جديد في النمسا وفي "دوينو" بالتحديد، عند صديقته الأميرة "مارية دولا تور" في قصرها المنعزل والواقع في جوار ضفاف الأدرياتيك. وهنالك عندها، ألف من أجلها ولها مراثي "دوينو". وانطلاقا من 1919 رحل إلى سويسرا عند صديقه الثري "ونترثور" الذي وهب له برجا لإقامته، إلى أن حانت ساعته ودق جرس الرحيل، فحمل جثمانه من قبل بعض أصدقائه إلى كنيسة رازوني التي تقع في " فاليه راروني" حسب وصيته. هنالك في مقابل الجبل الذي يطل على الكنيسة، حيث صار الصدى يردد آخر أبياته، هنالك حيث بإمكانك أن تقرا على شاهدة قبره وصيته الأخيرة.

صورة بريشة

التجربة الشعرية

لقد كانت تجربته في البدء شعرا، كما صارت في النهاية شعرا. لقد عاش للشعر وبالشعر، لأنه حسب تعبيره، قد اكتشف في فضاء الشعر ليس فقط الأبيات المشحونة بالعواطف والأحاسيس، وإنما البيت الشعري كتجربة حياتية. وفي هذا السياق نورد كلمته بهذا الخصوص حيث قال:" من أجل أن تكتب بيتا شعريا واحدا، عليك أن تكون قد سافرت وشاهدت مدنا وأشخاصا وأشياء." وهنا تحضرني مقولة تشيكوف الرائعة:" إذا أحببت أن تكتب عليك أن تنزل إلى الشارع". فحسب تجربته الشعرية التي مارسها في مستهل القرن العشرين، يصبح بإمكاننا أن ندرج ماريه راينه رلكه من بين كبار شعراء المدرسة الرومانسية من أمثال ألفونس.د. لامارتين، لورد بايرون، شيلي، شيلر، نوفاليس، ألفريد.د. فينيي، جرار.د. نرفال، تيوفيل غوتييه وألفريد.د. موسيه والقائمة طويلة، سوى أننا نقتصر على هؤلاء الذين سردنا أسماءهم كنموذج للتجربة الرومانسية. فلغة رلكه من هذه الناحية، أي من حيث انتمائه إلى الفضاء الشاعري الرومانسي، هي لغة كئيبة وسائلة، تنساق في صور انطباعية شفافة، شبيهة إلى حد بعيد، بتلك التي كان يمارسها في فترته فنانوا فيينا الانطباعيين. وكان نموالقصيدة وتطورها عنده يمر بمراحل تراتبية، كتراتب السحب، لغاية ما يدرك مستواها الأعلى. ويقول رلكه بهذا الصدد:" لقد كانت قدراتي محدودة، وحياتي العاطفية مملوءة بالقلق، والمخاوف والخشية، ولم يكن بإمكاني أن أمنح قارئي أغلى شيء على قلبي." ونلمح في هذا الاعتراف، تلك الكآبة العميقة التي سترافقه طوال حياته. فلنصغ إلى هذه الكآبة الفينة التي تسكن هذه المقاطع:

آه لَكَمْ تُؤَثّر فيّ،
ألأَنغام البوهيمِيّّة العَتيقَة،
إلى قَلبي تَنْفُذ وتوحي إِلَيه،
بِالحُزْنِ وجُرن المَعْمودِيَة.
 
***
 
حِين يُدَنْدِنُ طِفلُُ ما،
في مَكان ما،
وهويُعَشِّبُ مُدَنْدِناً،
باقْتِلاعِ الأَشْواك،
أَشْعُرُ بِأُغْنِيَتِه تَتَعَقبُني،
لِغايَةِ أَوهام حُلُمِ اللّيْل.

وهذا الحزن وهذه السماء نفسها التي تتخذ لديه رمزا لِلاّ نهاية، لا تفتأ تدخل بدورها في آفاق تصور الشاعر متغلغلة في ذاته:

كذلك الحنين

كَذَلك الحَنين: السَّكَنُ على الأَمْواج،
وأَن لا يَكون لَكَ أَبدًا في الزَّمَنِ مَنْفى،
وكَذلك هِي الرّغَبات: حِوارُُ خافِتُ الصَّوْت،
عَن الزّمَنِ الرَّتيب مَع اللاّ نِهاية.

***

كَذلك الحَياةُ لِغايَةِ ذاكَ اليَوم،أَمْس،
تَرْتَفِعُ الوَحيدَة مِن بَين كُل السّاعات،
ومُبْتَسِمَة بِخِلافِ كُلّ شَقيقاتِها،
تَصْمُتُ مَوْهوبَة ًلِلخالِد الأَبَدي.

ويزداد هذا الحزن، بل ويكبر هذا الحنين ويزداد انسيابا في داخله، حسب تعبيره، حيث يقول:" يزداد نزولا في هذا الأنا الذي أحمله والذي لست أدري ماذا يدور فيه." إنه يتعلم الرؤية من الداخل، فلنستمع إليه:

ضَجّاتُُ جَديدَة أَشدّ صَخبا،
حياتي هذه العَميقَة،
وكأَنها في انْحِدار،
في سَرير مُوَسّع الحَواشي.
دائِما وأَكْثَر فَأَكْثَر قُرْبًا،
دائِمًا إذ تَصيرُ الأَشياء،
وتُصْبِحُ أَكْثَرَ رُؤْيَة،
فأَشْعُرُ بِأَنّي أَكْثَرَ اسْتِئناسًا،
بِذاك المُنَزّه عَن الوَصْف.
وحَواسي مِثْل عَصافير،
مِثْلَها حَوْل سِنْدِيانَة،
ومِثْلَها تَضيع في سَماء،
مُضْطَرِبَة بِالرّياح.

وهكذا كان شعر ريلكه، يقع مثل ضوء حيّ في منتهى النعومة والمسامحة، على المناظر الطبيعية التي كان يحبها، بل يعشقها بمظاهرها الطبيعية البسيطة والمباشرة. لقد كان في البداية، يكتفي بملاحظة مظاهر الأشياء، ليشرع من بعدئذ باختراق ظلال جمالها الظاهري، متجها نحومنبع ذاك الجمال العصيّ، الذي لا يتجلى إلا لذاك الذي منح قابلية الاستعداد الروحي، للنفوذ إلى جوهره والتوحد به. وتصبح مناجاة الشاعر في هذه الأثناء، رجع صدى لموسيقى خفية، قادمة من آفاق اللاّ نهاية. فلنصغ إليه عندما يقول:" كل الأشياء التي أمنحها نفسي تستغني بي وتنفقني." ويضيف قائلا من دفاتره "المالطية" تلك المسماة بدفاتر مالطا والتي بإمكاننا أن نعتبرها كجزء من مذكراته الذاتية:" إنني أتعلم النظر. لست أدري لماذا كل شيء يتغلغل في بعمق ولا يمكث حيث يلامس نهايته. بل يزيد في التعمق والانتشار في داخلي، في هذا الأنا الذي أجهله والذي لست أدري ماذا يدور فيه." هذا التصور هوعبارة عن علاقة دفينة، تربط الشاعر بالعالم الذي يتجلى متذبذبا تارة في صور ذات إيقاع رتيب، وطورا في صور يطفح إيقاعها ويفيض مندفعا في موجات غنائية، حيث تبدأ الأشياء فجأة بالتداخل، محمولة بزخم شاعري قوي، رابطة فيما بينها بأغرب العلاقات الإسترسالية. ونذكر بهذه المناسبة ملاحظة "إدموند جلو" بخصوص نوفاليس والتي تنطبق بالمناسبة على شاعرنا رلكه إذ يقول:" ثمة أشياء هي من حيث اللطافة أدق وأصعب من أن تخضع للأفكار، فكيف بك إذا أنت حاولت إدخالها إلى حيز التفكير ونطاقه." وتستحضرني هنا مقولة أبي حامد الغزالي بهذا الخصوص، وأسوق العبارة من الذاكرة، حيث يقول معبرا عن تجربته الصوفية:" ثم يرقى الحال، من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجة يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها، إلا واشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز منه." وليست هذه الرؤية الغزالية إقحاما منا لتراث صوفي إسلامي في تجربة الشاعر رلكه، وإنما هي تجربة حقيقية عاشها الشاعر إبان إقامته في إسبانيا. الشيء الذي سنعرض له فيما بعد والذي نعتبره الأساس المستجد في هذه الدراسة، ألا وهي تجربته الإسبانية.

ونضيف معلومة إضافية بهذا الخصوص، ففي سنة 1916 أهدى رلكه إلى صديقه الوفي الكاتب "ردولف كاسنر" دفترا يحتوي على اثنان وعشرون قصيدة تحت عنوان" قصائد للِّيل"، وثيمة هذه القصائد الليلية تحمل روابط خفية بمجموعة نوفاليس الشعرية" تراتيل لِلَّيل". هذه التي سيصبح فيها الدليل المجازي هو"الملاك". وهذا الملاك بدوره يذكرنا بأورفيوس. وليس من المستبعد أن يكون دور الملاك الرمزي، هنا في هذه النخبة الشعرية كدور "أورفيوس" مع "أوِربيد"، فدوره إذن هودور المخلص، الذي قدم إلى هنا لينقذه من عالم الموت والفناء ويصطحبه معه حيث الخلود والحياة الأبدية. نعم، جاء ليسافر به عبر أفاق ليلية، مزدانة بكواكب ونجوم وفضاء لا متناهي، يتجلى فيه وجه الأبدية.

لقد كانت كلمات رلكه تتردد فيما بين الوداعة والتمرد، وشعرا كهذا، قال رلكه ذات يوم لأحد أصدقائه:" لا يمكن إلا أن يكون إلهاما." فهذا الأسلوب التجريدي، التشكيلي والمجرد، حيث تصبح الأحاسيس شكلا والأفكار صورا، يعود بنا إلى تجارب الشاعر السابقة، وخصوصا ذاك الدور التوجيهي الذي لعبه المَثّال الفرنسي رودان في مستقبل التجربة الشعرية لدى رلكه، حين كان هذا الأخير، يشغل لديه منصب سكرتير. وفي هذا السياق تكشف عبقرية رلكه الشاعرية عن جمالياتها في أسلوبه الذي لا يضاهى،حيث تعكس الكلمات الأكثر بساطة على وجه الإنسان الخارجي الانطباعات الأكثر سرية،حيث يصبح كل شيء شكلا يحيا، ويبدأ في التصاعد نحوالآفاق تحت أعيننا. وإذا كان رودان كمَثّال يعمل على تشكيل المادة الجامدة وإعادة خلق الحياة فيها، فإن دور الشاعر يصبح هنا، ذاك الذي يمنحها الروح الغنائية. وكما أشرنا من قبل إلى تجربة الشاعر الإسبانية، فانطلاقا منها سار متغلغلا بتجربته عبر محاولة جديدة. راح يدمج فيها الواقع باللاّ واقع، حيث أصبح دور "الفعل" الشعري الحقيقي في هذه الأثناء، الرابط الخفي الذي يحمل الشاعر إلى آفاق تتجاوز الواقع المعطى، نحوحقيقة مثالية علوية أكثر انسجاما وتناسقا. بل باختصار حقيقة مثلى. وكما يصرح هونفسه:" ليس لهذه الأرض من حل، سوى أن تصبح لا مرئية."

وبالعودة إلى مجموعته " المراثي - élégies " فلقد بدأ بتصورها في "دوينو" سنة 1912 وكمقاطع متفرقة في إسبانيا، لينهيها بعد الحرب العالمية الأولى في "ميزو" بالإضافة ل" سونيتات أورفيوس." وكانتا عند الشاعر كشراعين لقاربه الشعري، ملئتا كلتاهما بنفس النفس الشعري الصاخب: فالشراع الصغير الذي كانت تمثله " سونيتات أورفيوس" كان يظهر بلون باهت في مقابل شراع "المراثي" الكبير الذي كان يخيم على كل ما حوله ببياضه الناصع، الصارخ. ويتساءل الشاعر قائلا:" هل من الممكن بأننا لم نر شيئا؟ أمن الممكن بالرغم من الاختراعات العصرية الحديثة، الثقافات، الديانات والمعارف الكونية أن نكون قد بقينا على صفحة الحياة وقشرتها الخارجية؟ ويجيب الشاعر نفسه قائلا:" نعم من الممكن." وهكذا سيصبح هذا القلق الوجودي الممزوج بطعم الكآبة المر، وأشباح الموت التي تحوم في كل مكان، شغله اليومي بل الوسواس الذي سيسيطر على مجمل حياته. ورمز أسطورة أورفيوس، التي سبق وعرضنا لها في هذا البحث، ستمثل لديه رمزا مزدوجا. من ناحية موت "أوربيد" المبكر، ثم من ناحية أخرى، رمز الخلود في أغاني "أورفيوس". فالذي مات في "أوربيد" هوجسدها، أي الغلاف الفاني، أما كينونتها الحية فلقد انتقلت إلى أغاني "أورفيوس" لتحيى فيها إلى الأبد. فرمز أوربيد لا يكون إذن سوى مرحلة موت مؤقت، للعودة من جديد إلى رمز الحياة الأبدية. وهذا ما يفسر قصيدته التي كتبها في موت صديقة شابة من معارفه وهي "فيرا أوكاما". وكانت هذه الأخيرة تحلم بأن تصبح راقصة شهيرة، حين فاجأها الموت بغتة في ريعان شبابها ومضى بها. وبهذا الخصوص نضيف بأن هذه الظاهرة الرومانسية، ظاهرة الفجع من الموت المبكر كان قد عرض لها كثير من الشعراء الرومانسيين، نذكر من بينهم الشاعر "إدغار ألان بو" القائل إن موت امرأة جميلة، قد يعد من أكبر موضوع من مواضيع جمالية الشعر.

وبالوصول بهذا البحث إلى هذه الخلاصة، نتوقف من جديد لنستحضر تجربته الإسبانية التي كنا قد لمحنا إليها، والتي تركناها عمدا لختام هذه الدراسة، لأننا نعتبرها المصباح الوحيد الذي سيمنحنا الرؤية الداخلية للشاعر.

رلكه والتجربة الإسبانية

إن تجربة رلكه الإسبانية، تشتمل على لقطة مهمة من حياته. وهذه اللقطة قد مر بها عدد كبير من الدارسين والباحثين الأوربيين مرور الكرام، إن لم نقل بأن غالبيتهم لم يشروا إليها قط. أوبعبارة أخرى وإن أشاروا إليها عرضا لم يولوها أي اهتمام يذكر. ونعتبرها من جهتنا، مفتاحا هاما للنفوذ إلى آفاقه المبهمة، ألا وهي تجربته الصوفية. فإبان إقامته في إسبانيا من أواخر 1912 إلى بداية 1913 كرس رلكه وقته لقراءة المتصوفين الإسبان، أمثال جون لا كروا وأمثاله. ولا نستثني، أنه اطلع بالمناسبة على المتصوفة المسلمين، خصوصا وانه اكتشف "القرآن الكريم" في هذه المرحلة وأعجب به واستوحى منه قصائده "الملائكية". ويعزز لدينا هذا الرأي، الرسائل التي بعثها من إسبانيا سنة 1912 إلى مترجمه البولوني "وتولد فون هولويكس" حيث يخبره بمدى تأثير "القرآن الكريم" في القصائد التي استوحاها له الملاك. فلنطلع إذن على بعض هذه المقاطع المتعلقة برؤية الملاك:

هَلْ كان لِزامًا هَكذا،
أَن يَكون المَلاك،
المَلاكُ العَطْشان،
الذي أشار عَليك بِالقُدوم؟
لِيَشْرِبَ بِتُؤْدَة مِن قَسَماتي،
خَمْرًا أَكْثَرَ صَفاءً مِنَ الوُجوه.
 
***
أن تكون ظَمْآنًا أَنْتَ،
أَنْتَ الذي لَمْ يَرْوغَليلَه،
فَلْتَسْتَسْلِم لِهذا الظّمَأ،
آه! كَم شَدَدْتَني،
أَنْتَ مَن تَتَهَدّم فيه سُيول الإله،
مُنْدَفِعَة في كل شرَيان ونَبَض.
 
***
 
فَأَنا هذا المُنْساب،
أَشْعُر بِمَدى قَسْوة نَظَرِك،
وأَنْحَني نَحودَمِك،
لِغايَة الانْغِمار في حاجِبَيْك،
وفي أَقْواسِهِما كُلِّيَّة.

وهذه الرغبة العميقة في التوحد، ودوامة القلق الزمني هذه، التي ينتظر فيها الشاعر مجيء الملاك لخلاصه، نلمسها في الأبيات التالية:

آه! فَلْيَسْقُط بِمُلامَسَة مَلاك،
شُعاعُُ في هذا البَحر،
على ضَوْءِ القَمَر،
وقَلبي يُقاوِم في جَوفي،
كَمُرجان يُقاوِم في هَدوء،
يَسْكُن كُل أَغصانِه الصّبِيّة.
 
***
 
وهذا القَلَق المُسْتَغيث،
الذي يَزيدُنا المَخْلوق العامِل،
دونَما أن يَفْصِح عن نَفْسِه،
يَفْضَلُ مَجهولا لَدَيّ،
ويَتَرَدَّدُ التّيّار حائِرا،
ويَمضي إلى ما وَراء،
ويَتَصَرّف في الأَعماق،
ويَتَصَرّف في الحَواجِز
 
***
ومِن لا حِسِّيّة الحِجارَة العَتيقة،
تولد فَجْأَة مَخلوقات مُصْطفاة،
وعلى السّكينَة الأَبَدِيّة،
لِكُلِّ المَخْلوقات،
تَقَعُ ضَجَّةُ القَدَر.

فصورة الملاك في هذه المقطوعة، ترد مُحَمّلة بصور مألوفة لدينا، في لغة الأدبيات الصوفية الإسلامية: صور الظمأ والحنين والملامسة والأجواء الداخلية للمتصوف. أنظر بهذا الخصوص، كل من جلال الدين العطار والحلاج وابن عربي، بل وحتى رباعيات عمر الخيام. ولننتقل للمقطوعة الثالثة ودائما في حوار الملاك:

إلى ملاك

لا تَنْتَظر اخْتِياري،
بَل أُأمُر يا مَلاكي،
بِمَقْدوركَ ذلك،
لأنّكَ في غِنًى عن كلّ شَيْء،
آه مِنْكَ حين تَرْتَمي،
في الهَمَسات الصَّاعِدة،
لِلِقاءِ خُطواتي.
فشِدّةُ ضَيْقي كانَت ما تَزال،
تُحاوِلُ الفِرار مِن تَدَفُّقِكَ،
الذي كان يَخْتَفي خَلْفَ الحَواجِز.
 
***
 
أَيّةُ صِفَة أَعْطَيتَ لهذا الوَجْه،
حتى يَتّصِل إِحْساسه،
بالفَضاءات المَنيعَة،
والغَريبَة عَلَيه؟
وشَجَرة السّّنْدَر الّضعيفة،
بِأَوْراقِها المُنْثَنِية الناعِمَة،
أَلَيْسَ بِإِمكانِها،
أن تَسْتَعْطِفَ المُدُن،
مِن مَشارِف الرّاِبَية.
 
***
ولَيْسَ إلاّ الآن،
في هذه الساعَة اللّيْلِية،
أَشْعُر بِأَنّي في أَمان،
لذا أَظَلُّ ماكِثا هُنا،
بِعُيون مَرفوعَة مُبْهَمَة،
لأَنّهُ مِن أَجلِ حَدَثِكَ اللاّ مُتناهي،
تَأْمُر وَجْهي غَير الكافي.
هوذا الشَّبَهُ الذي يَتَوَلَّدُ عَنْه.

وبالتأمل في هذه المقاطع الثلاثة، ندرك مدى هذا التحول الشاعري، ومدى هذا النضج الصوفي الذي توج به رلكه تجربته الشعرية. فقد يكون الملاك رمزا للإنسان الكامل الذي أشار إليه التصوف الإسلامي، عند كل من الشيخ عبد الكريم الجلي وجلال الدين العطار. وقد يكون الملاك، ملاك الإلهام الشعري، الذي تغنى به الشعراء. ولا أحسب رلكه إلا قاصدا ملاك الخلاص، الذي كان يتنزل عليه بصعوبة ومشقة، ليحمله إلى عالم الأنوار الحقيقي، عالم منزه عن التفسخ والانحلال والموت. ونشعر في هذا السياق بأن للشاعر حنين المتصوفة، ورغبتهم في التوحد، وإرادتهم في الفناء المطلق، في ذاك الكون اللاّ متناهي، عبر ظلال وصور الأشياء والمخلوقات بكل أنواعها ومراتبها الوجودية. وباختصار رغبة دفينة جاءت مضطربة قلقة ومتحيرة في ثياب الكلمات التي انتقاها لها الشاعر. وقد يكون هذا الملاك أخيرا رمزا للتحرر من القيود الدنيوية المادية، من أجل بداية سفر روحاني لا تستطيع التجربة الشعرية أن تحتويه، أوأن تقيده بألفاظها، أوأن تفصح عنه بكلام صريح وملموس. وهذا ما جعل تجربة رلكه الشعرية، هذه التي انتقيناها من مجموعته "قصائد لِلّيل"، تبدوللقارئ غير المطلع على الأدبيات الصوفية، تجربة مغلقة ومغرقة في التجريد والإبهام.

قد يكون رلكه، قد تأثر فعلا في تجربته الإسبانية بالأدبيات الصوفية، إلا انه يبقى مع ذلك بعيدا كل البعد، من تلك السكينة الداخلية، التي كان يتمتع بها متصوفة الإسلام. لأن هؤلاء المتصوفة، في تجاربهم الصوفية التي خاضوها ودخلوا غمارها، كانوا يتمتعون باستسلام مطلق، وبحب ما بعده من حب، رغبة منهم في الفناء في الذات الإلهية. وباختصار كانت تجارب هؤلاء، صفاء وعلاء وتجلي ثم فناء. وفي مقابل هذه التجربة وفي ظلالها، تقع تجربة الشاعر رلكه. فهولم يعدم حبه للأشياء والمخلوقات بكل أجناسها، إلا أنه كان مقيدا بكآبة كانت تطفأ لديه، ما كان يوقد من شموع الهداية. وقد لا يفاجئنا هذا، إذا كنا نعلم، بأن ثقافة الشاعر الجرمانية والمبنية على الموروث اللاّتيني بمسحته المسيحية، والموروث الإغريقي بمسحته التراجيدية، ستكسب الشاعر محصلة درامية، كنتيجة قلق وجودي لإنسان الأزمنة الحديثة.

ومع كل هذا، يظل الشاعر رلكه، شاعرا كبيرا له مكانته لا شك، من بين مشاهير شعراء القرن العشرين. وتبقى له تجربته الصوفية، بالرغم من كل ما علق بها من شوائب سوداوية. وتبقى بالمناسبة كل الإمكانيات، لإعادة قراءته واكتشاف بعض وجوهه التي قد تكون قد غابت عنا. ولنترك الكلمة الأخيرة للكاتبة الشهيرة "مارغريت يورسنار" التي قالت عنه بحق:" ذات يوم جميل، انفتحت يداه الذهبية من تلقاء نفسها، من جراء شعاع لا ندري من أي سماء قدم، ومثل فاكهة ذات قشرة هشة وفانية، تكونت في أعماق كفيه، ولن ندرك قط، أئذا كان نضجها من الضياء الذي لامسته، أم من الظلمة التي انبثقت عنها."

ونختم أخيرا هذه الدراسة بقصيدة للشاعر تحت عنوان"موت الشاعر".

مَوْتُ الشّاعِر

كانَ يَسْتَريحُ ووَجْهُهُ مُسْتَقيمًا،
شاحبًا ومُغْلَقًا وَجْهُهُ،
على وسائِدَ هامِدَة،
من لَمّا اقْتُلِعَ الكَوْنُ،
وجُرِّدَ مِن أَحاسيسِهِ،
وسَقَطَ مِن جَديد،
في السَّنَةِ البارِدَة.
 
***
 
فالذينَ كانوا يَرَوْنَهُ يَعيش،
لم يكونوا لِيَدروا كَمْ كان،
مُتَوَحِّدًا مَعَ كُلّ هذا.
لأَنّ كُلّ هذه الأَعْماق،
وهذه الفُسْحَة،
وهذا الماء،
وهذه الرُّبا،
كُلُّ هذا كان وَجْهُه.

قال رلكه ينعي نفسه:

في حينِ كان فِعْلُهُ يَتسامى،
هُنا في هذا العالَمِ السُّفْليّ،
كان هومُنْذُ زَمَن هُنالِك،
حَيْثُ لا مَجالَ لِلْمُلاحَقَة.

(1967) منزل رلكه

أبيات ألفت من قبل الشاعر لتوضع على شاهدة قبره.

وَرْدَةُُ، آه مِن تَناقُض خالِص،
شَهْوَةُُ بِأَنْ لا تَكونَ،
نَوْمًا لِأَيّ أَحَد،
تَحْتَ أَجْفان،
لا تُحْصى.

مراجع ومصادر البحث:

Aux éditions Emile-Paul Frères:
Les Cahiers de Malte Laurids Brigge.
Auguste Rodin.
Fragments en prose.
Poésie.
Aux éditions Verdier: Allemand/Français:
Rainer Maria Rilke: Poèmes à la nuit.
Elégies de Duino Sonnets à Orphée:
Rilke, Rainer Maria (Gerald Stieg (présentation) / JP. Lefebvre et M Regnaut.

  اعتمدنا في هذا البحث على مجموعة الشاعر الصادرة باللغتين الألمانية والفرنسية والتي تشتمل على:

 قصائد أولى.
 أغاني الفجر.
 كتاب الصور.
 كتاب الساعات.
 أشعار جديدة
 مراثي دينو
 سُنيتَة لأورفيوس.
 قصائد فرنسية.
 أشعار أخيرة.

 ملاحظة: لقد ترجمنا إلى العربية كلمةélégies ب( مراثي) وكلمة Sonnets à Orphée ب( سونيتة – قصيدة من أربعة عشر بيتا) أورفيوس. ونذكر القارئ الكريم بأن أسطورة أورفيوس وأوربيد باختصار تنتمي إلى الموروث الأسطوري الإغريقي. وتروي هذه الأسطورة بأن أورفيوس المشهور بقيثارته وعزفه الساحر، كان قد فجع من موت حبيبته أوربيد المبكر فطلب من إله عالم الأموات أن يعيدها إليه بسحر قيثارته وأناشيده الخالدة. فوافق شريطة أن لا يلتفت إلى الوراء حين عودته من عالم الأموات بحبيبته وقد بعثت من جيد. فكان أن التفت وهو على حدود عالم الأموات ومشارف عالم الأحياء، فردت للحين أوربيد التي كانت تمشي وراءه، وبصفة نهائية إلى عالم الأموات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى