الأربعاء ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم محمد أبو عبيد

العقلُ الكاميكازي

في العالم العربي يأتي جهد التفكير مضاعفاً، الجهد الأول يكمن في تشغيل العقل، والثاني في مواجهة اللاعقل المتمثل في طواغيت الكلمة ومَنْ والاهم، والذين ليس لدنهم مسعى غير جعل الآخرين لا يفكرون، أو في أحسن الأحوال يفكرون في نطاق محدود جداً يقل مساحةً عن زنزانة.

لعل الشواهد على ذلك كثيرة، وهي غير متمثلة فقط في أقبية السجون وغياهبها، فالسّجون العقلية أشد قبحاً وأكثر قمعاً من القضبان الحديدية. إن العقل العربي معتقل ٌ منذ عقود ،إنْ ليس قبل قرون، والأنكى هو أنه إذا انعدم وجود سجّان العقل، فإن صاحب العقل نفسه هو من يزج به في زنزانة، إما خوفاً من عاقبة نشاطه وتحرره، أو إيماناً منه أن ثمة شخصاً يفكر نيابة عنه فيعطيه هالة مقدسة حتى يصبح تابعاً له وكأنه يلج من جديد في عصر الظلام والأصنام وإنْ كانت أصناماً ناطقة.

ينشأ المرء العربي على معتقدات وعلى أمور تصل إلى حد الخرافات ، ويكبُر وهو مؤمن أشد إيمان بها، من دون أن يسبر غورها ليعرف صوابها من خطئها، وقافزا فوق حقيقة أن الصواب والخطأ نسبيان وغير مطْلقين البتة. ولعل جل ما يعرفه هو أنّ فلاناً أفتى بكذا، أو أن فلاناً قال ذلك، وكأن ذاك الفلان هو الحقيقة المطْلقة التي لا يجوز التشكيك فيها ولا مسها، ويا ويل من فعل ذلك!.

إن الوضع الفكري الراهن لدى العرب هو بمثابة حصار بالبوارج والمقاتلات والجدران الحديدية، ليس من العدو ،إنما من أبناء جلدتهم. فمن أراد أن يتحرر من تبعيّة الصنم البشري، ويسعى أن يكون حراً طليقاً في فكره وتعبيره، تصدمه بوارج الإرهاب الفكري، ومقاتلات المنابر العنكبوتية التي في حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت، فيتلقى سيلاً عرمرماً من الإتهامات والإفك والتكفير والتخوين والشتائم ،بحجم كرم العرب بالموائد والولائم ، إلى حد الإيذاء الجسدي

هذا الحصار الفكري، نجم عنه أحكام إعدام لكتب ومؤلفات وإبداعات فنية ،وإيذاء جسدي ولفظي بحق أصحابها، وما يجعل المصيبة أعظم، هرولة أعداد كبيرة من العرب نحو تأييد مثل تلك الأحكام الجائرة التي تضع العرب في خانة التخلف الفكري وديكتاتورية الكلمة، بدلاً من الانتفاض بقضهم وقضيضهم ضد هذا القمع وكبت الحريات. إنّ كثيراً من العرب ينتفضون ضد مقال أو لوحة فنية ، ولا يراهم المرء منتفضين بنشاطهم ،الباعث على الحسد، ضد جندي احتلال يعتدي على امرأة أو يقتلع شجرة موغلة بجذورها في تاريخ الحق، لأن عقولهم ببساطة اقتُلعت من جذورها وسُجّيت على أسرّة الموت الإكلينيكي.

في ظل هذا المشهد، يمسى عقل الحر كالكاميكازي الياباني الذي لم يجد غير الإقلاع بطائرته الحربية لصدمها ببوارج العدو . هكذا هو حال المثقف العربي، مع فارق أنه لا يريد الانتحار ولا التهلكة، لكنه يسعى إلى إنقاذ العقل من الانتحار الفكري، وإنقاذ الأفراد من تهلكة التبعية العمياء، فيظهر كما لو شاء لنفسه انتحارها. فعلى المثقف العربي إما أنْ ينتظر إعصار الروح المقدسة حتى تهزم المغول الجدد من العرب، أو أن يكون هو الإعصار فلا يخشى المغول ولا غولَهم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى