الأحد ٣١ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم المتوكل طه

القصيدة أرض إرادتي

بعد ثلاثة اعتقالات إدارية، استمرت عاماً ونصف العام، وإقامة جبرية داخل البيت لمدة عام ونصف أيضاً .. يطالعنا اتفاق أوسلو، ليرفع، شكليّاً، تلك القيود عنّا، بعد أن شكّل الاتفاقُ خطوةً اعتراضيّة حدّت من اندفاعة تلك الانتفاضة الشعبية الكبرى، التي انفجرت بعبقرية، قبل اثنين وعشرين عاماً، في شهر كانون الاول، ديسمبر العظيم.

وفي هذه الذكرى، التي ينبغي سبر غورها، من جديد، كظاهرة عملت على تحييد السلاح الاحتلالي الثقيل، وجعلته عاجزاً أمام المقلاع البدائي، ونبّهت الدنيا إلى أن ثمة مَظْلَمة ما زالت تحطّ على فلسطين، وقد استباحت الحجر والشجر والبشر والطيور والرُّضَّع، فإننا نستذكر تلك الأيام الصعبة والطيّبة، المليئة بالأمل والتفاؤل والتعاضد، التي عشناها في حمأة الحواجز المشتعلة، أو داخل معسكرات الإعتقال المهولة، أو في حمل النعوش الطائرة فوق الأكتاف، في فضاء يمور بالأغنيات والجسارة .

ولأستذكر، في الاعتقال، كيف كان الشَِّعر سلاحاً نشهره في وجه الطغمة القاتلة، وشاحذاً لهمم الشباب المتحفّز، وتأريخاً لكل لحظةٍ، كانت تشهد انسفاح الدم الحُرّ، أو انطلاق صرخة، كأنها سيف الضوء في قلب العتمة .
وأستذكر تلك القصائد التي اجترحتُها في السجن، وقمت بتهريبها، لتطبع في مجموعتين شعريتين هما "فضاء الأغنيات" و "زمن الصعود"، ولأكتب بعد ذلك، ببضع سنوات، سيرة المعتقل في كتاب سردي آخر هو "رمل الأفعى"، الذي طبع سبع طبعات مختلفة في فلسطين وخارجها .

أنصار 3

معسكر "كتسيعوت" أو "أنصار 3" آخر ما وصلت إليه عقلية فاشية عنصرية من أساليب في تنميط جزيرة عقاب صحراوية بعيدة ومنعزلة، مستفيدة من سرمدية الصحراء وأبدية الشمس، من عقاب القرّ وخناجر الحر .

أنصار 3

معسكر اعتقال، أو قُل معسكر تجميع يشبه معسكر تربلنكي أو أوشفيتس، أُريد له أن يكون تقطيراً لكل معسكرات الامبرياليات السابقة، وتركيزاً لكل تجارب إجهاض الثورات والشعوب، من خلال هذا الاحتكاك اليومي بين القاتل وضحيته، بين السجان وسجينه .

مدينة جهنمية كاملة هو معسكر "أنصار 3 "،
وكان علينا أن نطوّع أجسادنا أولاً، وكان علينا أن نحصّن إرادتنا ، وكان علينا أن لا نرى من خلال عيوننا، وإنما من خلال هذه الأرواح التي تسكننا لتجعل من أجسادنا لا تشعر بحرٍ أو بقرّ، ولنحتمل صحراء فلسطين الجنوبية القارسة الموحشة.

كان علينا أن نجعل من مدينتهم الجهنمية الكاملة، وعالمهم الجديد مجرد أضحوكة ليس إلا، وقد فعلنا .
وهنا المدينة الجهنمية "الفاضلة" و "الكاملة" "أنصار 3"، الذي حقق "العالم الجديد والشجاع"، كما تصوره الدوس هكسلي بقمعهِ ووحشيتهِ وسلبهِ روحَ وإرادة الإنسان، وتحويله إلى مجرد هيكل عظمي دون أدنى مقومات .

ومن عجب أن العقلية الاستعمارية الامبريالية تشرب من نبع واحد؛ "أنصار 3"، هو ذاته عالم الدوس هكسلي، وهو ذاته جزيرة العقاب كما تصورها فرانز كافكا . العقلية الإمبريالية الاستعمارية تعتقد واهمة أنها تستطيع حمل الإنسان إلى نقطة يتخلّى فيها عن روحه وإرادته وأحلامه وطموحاته .. باستعمال القوة، العزل، التعذيب، القمع، زرع اليأس في النفوس، تذويب الإحساس بالتمييز، قتل الإبداع، إنهاك الجسد من أجل إنهاك الروح .


الشَّعر والسجن

لا علاقة بين السجن والصحراء، و لكن الاحتلال الاسرائيلي – ككل محتل مهووس – اختار أن يجعل سجن "كتسيعوت" فى قلب صحراء النقب! و هكذا سمح لنا المحتل دون، أن يدري أن نرى شمس الله في انبجاسها المذهل صباحاً ، وفي موكبها الجليل مساءً ، وسمح لنا بغبائه أن نرى السماء السرمدية و نجومها الباسمات. هكذا سمح لنا المحتل باستعلائه وعنجهيته ، نحن معتقلي الانتفاضة الكبرى عام 87 ، أن نتابع حركة الغيوم القليلة التي تمر فوق خيامنا ، فنحكي عن هارون الرشيد الذي امتلك مخزونَ الغيوم يوماً ، و ننشد ما قاله درويش عن نبيذ السحاب و النهاوند ، و سمح لنا أن نتابع طيور الدوري التي تقف على السياج الفاصل بين كل خيمة وخيمة. كان هناك طائر دوري صرت أميّزه ، كان كبير الحجم، كثير الحركة ، عالي الصوت ، جناحه مائل بعض الشئ ، حتى أنه لا يبتعد كثيراً عن خيمتنا ، صار صديقنا ، نطعمه و نحكي عنه ومعه، و صار له اسم مثلنا. واندفع معتقل آخر لزرع بذرة بطيخ فى جوف جزرة وعلّقها على السياج لتستند عليه. صار لدينا عصفور و نبتة! هكذا هم الفلسطينيون، يحبون النبات والطيور. و كان الشَّعر يأتي هكذا أيضاً ، من جوف الصحراء العميق و المديد و المخيف ، ومن أشيائها القليلة و المتقشفة ، من صمتها ورعبها وأسرارها، في الليل وفي النهار ، كان يأتي الشَّعر ، من غناء المعتقلين عن البيت المُضاء البعيد، والموجة ذات الرائحة الأليفة ، و البيدر الذي استحق الحصاد ، ومن الحقل الذي يقطر عسلاً في الظهاري الّلافحة ، من الأمهات المنتظرات اللواتي يغزلن الحزن و الدمع بالصوف، من أجل إبن لا تدرى في أي سجن هو .

كان الشَّعر يأتي، لأن سحنات الجنود الذين يقفون على البوابات و الأبراج العالية، كانت مغطّاة بالزجاج و الأقشمة السوداء ، بدون أسماء ولا نكات ولا ذكريات ، ولكن بأسلحه لها رائحة الكبريت و الأحماض والموت!

كنت أتسابق مع سجّاني على جسدي، الذي يعتقد أنه نقطة ضعفى ، فيما كنت أفرد بساط الشَّعر الطائر ، أعلو و أكبر وأمتدّ ، أطير لأرى أيامي القادمة ، أبنائي الذين سأنجبهم ، كتبي التي سأنشرها ، المدن التي سأزورها ، العربات التي ستحمل المحتل بعيداً عن وطني. كان السجّان يضغط على ما يعتقد أنه ضعفي ، بالضرب مرّة، وبالحبس الإنفرادي مرّة، بالغاز أو بالجوع أو بالتخويف. أما أنا ، فأذهب إلى قصيدتي، أسمّي أشيائي وأرتبها، أكتشف أن لي ذخراً لا ينتهى من النماذج العظيمة التي لا تتكرر. كانت القصيدة تتحدّر منّي لأكتشف أَنني أبني قصيدتي على ملايين القصائد التى قيلت بالعربية ، فأفرح بأنني أعلى من سجّاني ومن سجنه، وأن قصيدتى مثل صحراء النقب، أكبر من أن تُمتلك، وأكبر من أن تُدرك أو يُسبر غورها العميق.

وكما في غناء المعتقلين أو صلواتهم أو تكبيراتهم، فى مواجهة اقتحام الجنود، الذي كان يتكرر ، فقد فعلت مثلهم أيضاً. ففي اقتحام ما ، هجم هؤلاء ببنادقهم و عصيهم و خراطيم الغاز المُسيل للعار والدموع، وأقنعة الزجاج وصفارات الاستنفار التى دوّت فى أرجاء المعتقل، كُنّا عُزَّلاً من كل شئ، ولكننا كنا نكتب، وكنا نُنسّق فيما بيننا المواقف النضالية و السياسية ، كنا ندير شئوننا و نتصل بالخارج بطرق كثيرة، كان لنا موقف وكان لنا رأيٌ، وكان اقتحامهم لمصادرة أقلامنا ودفاترنا و مواقفنا ! لم أشعر بنفسي إلاّ وقد وقفت وسط الخيمة واندفعتُ بقصيدة مرتجلة أردُّ بها البنادق و العصي والغاز والوحشية . كانت تلك أول مرة أقول فيها الشَّعر مرتجلاً، هكذا ، تصرفت كشاعر عربي تماماً ، منذ عمرو بن ودّ العامري وحتى يومنا هذا. هذه هي القصيدة العربية، قصيدة القلب المترع والسقف العالي و الفروسية التي لا تحسب الحساب. شَّعرنا فيه مطلق، وفيه رجولة، وفيه قوة. هذا هو تراثنا، ولا عاش من يتنكر لتراثه. وقد نشرت تلك القصيدة في ديوان " فضاء الاغنيات " الذي كتبته تحت خيمة وبين معتقلين كانوا يشاركوني الكتابة ، بما يقولون وبما يفعلون. هناك في السجن، يشفّ الإنسان ويرقّ، ويرى فى إخوانه ما لا يستطيع رؤيتة خارج السجن. كانوا في معظمهم رائعين أقوياء وقادرين. كنت بحاجة إلى شجاعتهم وابتساماتهم وقدرتهم على التكيّف، كنت أرغب في أن أرى قلوبهم وألمس مشاعرهم التي كانت تقوّيني وتدعمني، ولهذا عندما كتبت عنهم، لأني أكتب عن نفسي أيضاً، في ذلك الديوان الذى دائماً أنشدّ إليه، سكبت كل نأمة قيلت فى ذلك المعتقل، ورسمت مشاعري ومشاعر زملائي وأصدقائى هناك؛ الحرية والوطن الواسع والحياة بدون احتلال، والفضاء المزدحم بالعصافير والأزهار والأطفال. احتفلت بالديوان فى المعتقل معهم، واحتفلوا به معي كأنه لهم، وقام معتقل بكتابة مقدمه له، قرأها الآخرون، وأحسسنا جميعاً أن هذا الديوان هو ديوان كل المعتقلين. وفي الديوان كتبت أو كتبوا أسماء قرى فلسطين، وأسماء أشجارها وطيورها، وتحدثنا عن بيوتها و نسائها و طرقاتها وأزقتها، كنا نريد أن نسمّي وطننا من جديد.

ما الذي يفعله الشَّعر فينا ؟ عندما كنت هناك، تحت الخيمة، فى ذلك السجن الردئ عرفت ما معنى الشعر وما الذي يفعله فينا. كان أشبه بالهويه او بالتعريف، كان أشبه بالمميز والمحدد لي، بعيداً عن أولئك الذين لا وجوه لهم ولا أسماء، كان أشبه بالتواصل مع طائر الدوري مكسور الجناح، الذي يبدو أنه لا يستطيع مغادرة خيمتنا. وعندما تصاعدت نبتة البطيخ وامتدت على طول السياج باتجاه الشمس ، شعرت أن قصيدتى تشبه تلك النبتة. عندما رأى قائد المعتقل الصهيوني نبتة البطيخ وهي تتمدد من قلب الجزرة، لم ير الحياة التى تكسر وحشة المعتقل، ولم ير اللونين الأخضر والبرتقالي على خلفية كآبة السياج ورماده ، كل ما رآه أن هذا فرحة المعتقلين بتأسيس تاريخ لهم هنا. و بوحشية بالغة ، نزع القائد الصهيوني الجزرة ورماها في الممر الرملي بين الخيام. شعر كل منا أن ما فعله القائد الصهيونى هو إهانة شخصية فردية له. في اليوم التالي، وعندما حطّ عصفور الدوري على السياج، لم يجد نبتة البطيخ التي كان يمرغ فيها منقاره، رفرف بجناحه المكسور، غرد كثيراً، مشى على طول السياج، ظل يروح و يجئ وهو يصيح، كان مشهداً فريداً بالنسبة لي. ليس لي الا القصيدة، هي بيتي و مكاني وهي مائدتي وهي طعامي. القصيدة ترد على قسوة العالم و فظاظته وفانتازيته، القصيدة بالنسبة لي توازن واعتدال وواسطة، تعلمت ذلك كله فى السجن. عندما حشرنى المحتل فى زنزانة انفرادية، حشر في زنزانة أخرى شاعر آخر، ولما بدأ المحتل بضربنا، انفجر كلانا بالشعر، كنا نصمد بالشاعر، وكنا نحتفل بشَّعر لا يفهمه المحتل، وكأنه تعويذة السحر او طوطم الحكاية التي تحكى كل الاجيال . كانت القصيدة فى تلك اللحظة ناري التي اصطلي بها ودثاري الذي اتغطي به. المحتل الذي كان يضربني اعتقد أنني أتوجع فاظهر اغتباطه، ولكن لما عرف أننى وصديقي ننطق بالشَّعر جن جنونه. مكثت في الزنزانه الانفرادية أكثر من سبعين يوماً، لم ينقذنى فيها سوى الله والشعر. والشَّعر اكتشافات متواصلة، الشعر ليس لغة فقط ، إنه عوالم وراء عوالم ، ابتكار فرح ، فيه زهو وعجب، فيه طرب وحركة، فيه قوة خفية. لهذا، لم يجد كفّار مكة من صفة سوى صفة الشاعر أو المجنون يلصقونها بسـيد الخلق ، لأن الشاعر لا يبتعد كثيراً عن المجنون، ولأن كلاهما – في لحظة ما _ يستطيعان رؤية ما لا يُرى، و يقولان مالا يُقال.

هناك في السجن، حيث يقايضني المحتل بحرية جسدي، كانت القصيدة أرض إرادتى، وفضاء قلبي الذي لا يستطيع أي محتل على وجه الكوكب كله أن يحرمني إياها. والحرية أقوى!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى