الأحد ٢٥ شباط (فبراير) ٢٠٢٤
بقلم رامز محيي الدين علي

اللّذّةُ والألمُ في أقلام الأدباء والمفكّرين

في هذا المقالِ أقفُ لأتناولَ أحدَ جوانبِ صراعِ الأضداد: اللّذّةِ والألم؛ وأبيّنَ أثرَ كلٍّ منهما في الحياةِ والإنسان، من خلال عرضٍ دقيقٍ وواعٍ لمفهومِ كلٍّ منهما في نظرِ اللّغويّين ثمَّ الفلاسفةِ والمفكّرينَ والأدباءِ شعراً ونثراً، لأضعَ بين يديّ القارئِ فيضاً من تلكَ النّظراتِ والرّؤى مع تحليلٍ عميقٍ ومقارنٍ بينها؛ كي أستجليَ حقيقةَ هذا الصّراعِ ودورَه في حياةِ البشريّة منذُ نشأتِها وما تحملُه من همومٍ ومسرّات وما يقضُّ مضاجعَها من آلامٍ وأحزان.

وفي عصرِنا الرّاهنِ الّذي تَميّزَ بالتَّفاهةِ المصنَّعةِ تصنيعاً هناكَ نظامٌ آخرُ يُجاريهِ في التَّصنيعِ الممنهجِ، هو نظامُ اللّذّةِ الإباحيّةِ بشتّى وسائلِ الدّعايةِ المبرمجةِ، وثمّةَ نظامُ الألمِ الّذي تُصنّعُه الدّولُ والأممُ، وتتلذّذُ بصناعتِه من خلالِ إشعالِ فتيلِ الحروبِ وإثارةِ الفتنِ وإفقارِ الشُّعوبِ وتجهيلِها، حتّى ضاعَت البشريّةُ برمّتِها، فلا أملَ في الخلاصِ من آلامِ الإنسانيّةِ المعذَّبةِ يلوحُ في الأفقِ؛ لأنَّ القائمينَ على صناعةِ التَّفاهةِ والألمِ واللّذّةِ المدمّرةِ فوق كلِّ قانونٍ أخلاقيّ أو بشريّ.
اللّذَّةُ في اللّفة

يُقالُ لذَّ لَذَاذاً، ولذَاذَةً فهو لَذٌّ ولذيذٌ، والجمعُ: لُذٌّ، ولِذَاذٌ وهي لَذَّةٌ والمفعولُ مَلذوذٌ - للمتعدِّي. لذَّ الشّيءُ: صَارَ لَذِيذاً شَهِيّاً، فهو لَذٌّ، ولذيذٌ. لذّتْهُ الأعينُ: استَطْيبَتْه وتمتَّعَت به. اللَّذَّةُ: طِيبُ طعمِ الشّيءِ: لذيذةٌ لخلوِّها من اغتِيالِ العقلِ وإفسادِ الجسمِ والطَّبع. لَذَّةُ الطَّعَامِ: طِيبَتُهُ. لَذَّةُ الْحَيَاةِ: الشُّعُورُ بِالارْتِيَاحِ وَالاِطْمِئْنَانِ. هادمُ اللَّذَّاتِ: الموتُ. اللَّذَّةُ: إِدراكُ الملائمِ من حيثُ إِنّه ملائمٌ، كطَعمِ الحُلْوِ عند حاسّةِ الذَّوق، والنُّورِ عندَ البصرِ، وحصولِ المرجوِّ عند القُوَّةِ الوهميَّةِ، والأمورِ الماضيةِ عند القوّةِ الحافظةِ تلتذُّ بتذكُّرها.

اللّذّةُ في النّثر

تناول الأدباءُ والمفكّرونَ اللّذّةَ وعبّرَ كلٌّ منهم عن رأيِه في مفهومِها وتأثيرِها في حياةِ الفردِ والمجتمع، وكان رأيُ كلٍّ منهم ناتجاً عن نظرتِه إليها بمنظورٍ عامٍّ أو من زاويةٍ خاصّة، ذلك لأنّ اللّذّةَ لا تنحصرُ بالجانبِ المادّي أو الجسديّ الحسّيّ، وإنّما لها جانبٌ معنويٌّ يتجاوزُ النّواحيَ المادّيّةَ إلى معانٍ أشملَ في النّفسِ وقيمِها وأخلاقِها ومبادئِها ورؤَاها.

فها هو الإمامُ عليُّ بنُ أبي طالبٍ يرى أنّ إحياءَ الحقِّ وإطفاءَ الباطلِ أفضلُ وأسمى من نيلِ لذّةٍ أو شفاءِ غيظٍ: "لا يكُن أفضلُ ما نلْتَ في نفسِكَ من دنياكَ بلوغَ لذّةٍ أو شفاءَ غيظٍ، ولكن إطفاءَ باطلٍ أو إحياءَ حقّ".

ويذهبُ ابنُ تيميةَ إلى أنّ الصّبرَ عن الشّهوةِ أسهلُ من الصّبرِ على ما تُوجبُه الشّهوةُ من آثارٍ سلبيّة في سلوكِ الفرد سواءً من النّاحيةِ المادّيّةِ أو من الجانبِ المعنويّ والرّوحيّ، فيرى أنّها: "إمّا أن تُوجبَ ألماً وعقوبةً، وإمّا أن تقطعَ لذّةً أكملَ منها، وإمّا أن تُضِيعَ وقتاً إضاعتُهُ حسرةٌ وندامةٌ، وإمّا أن تَثْلِمَ (تطعنَ وتُسيء) عِرضاً توفيرُهُ أنفعُ للعبدِ من ثَلْمِهِ، وإمّا أن تُذهِبَ مالاً بقاؤُهُ خيرٌ له من ذهابِهِ، وإمّا أن تَضعَ قَدْراً وجاهاً قيامُهُ خيرٌ من وضعِه، وإمّا أن تَسلبَ نعمةً بقاؤُها ألذُّ وأطيبُ من قضاءِ الشّهوة، وإمّا أن تطرقَ لوضيعٍ إليكَ طريقاً لم يكُن يجِدُها قبلَ ذلك، وإمّا أن تجلبَ همّاً، وغمّاً، وحزناً، وخوفاً لا يقاربُ لذّةَ الشّهوةِ، وإمّا أن تَنسى علْماً ذكرُهُ ألذُّ من نيلِ الشّهوة، وإمّا أن تُشْمِتَ عدوّاً، أو تُحْزِن وليّاً، وإمّا أن تقطعَ الطّريقَ على نعمةٍ مُقبلةٍ، وإمّا أن تُحْدِثَ عيباً يبقى صفةً لا تزولُ؛ فإنّ الأعمالَ تُورثُ الصِّفاتِ، والأخلاقَ".

ويرى ابنُ الجَوزي أنّ الحياةَ لا تثبتُ على حالٍ، فتارةً فقرٌ وتارةً أخرى غِنىً، ومرّةً عزٌّ ومرّةً أخرى ذلٌّ، ويوماً فرحٌ وآخرَ حزنٌ وشماتةٌ، لكنّ العاقلَ هو مَن لزمَ تَقْوى اللهِ في كلِّ حالٍ، أمّا مَن عزَّتْه لذّةٌ مع انتفاءِ التَّقوى، فإنّ لذَّتَه زائلةٌ تاركةً في نفسِه الحسرةَ والألم: "اعلَمْ أنّ الزّمانَ لا يثبتُ على حالٍ كما قالَ عزّ وجلّ: (وتلكَ الأيّامُ نُداولُها بين النّاسِ)، فتارةً فقرٌ وتارةً غنىً، وتارةً عزٌّ وتارةً ذلٌّ، وتارةً يفرحُ المَوالي وتارةً يشمتُ الأعادي. والعاقلُ مَن لازمَ أصلاً على كلِّ حالٍ: وهو تقْوى اللهِ، والمنكِرُ من عزّتْهُ لذّةٌ حصلَتْ مع عدمِ التّقوى فإنّها ستزولُ وتُخَلّيهِ خاسِراً".

ويَنتهي ابنُ الجوزي إلى حكمةٍ بالغةِ الأثرِ حين يرى: "أنَّ مشقَّةَ الطّاعةِ تذهَبُ ويبقى ثوابُها، وأنّ لذّةَ المعاصِي تذهبُ ويبقَى عِقابُها". ومثلُه قولُ الأحنفِ بن قيس: "لا خيرَ في لذّةٍ تُعقِبُ ندماً".

أمّا الإمامُ محمّد عبده فيرى أنّ اللّذّةَ الحقيقيَّةَ تكمُنُ في العملِ الاختياريّ؛ لأنّه يُثمِرُ راحةً حقيقيّةً في النّفس، فلا راحةَ بغيرِ عملٍ: "من لا يذوقُ لذّةَ العملِ الاختياريّ لا يذوقُ لذّةَ الرّاحةِ الحقيقيّة؛ لأنّ اللهَ تعالى لا يضعُ الرّاحةَ بغيرِ عملٍ". ومثلُه قولُ مصطفى صادقِ الرّافعيّ الّذي يرى أنّ اللّذّةَ في الكدِّ والعملِ وليس في الرّاحةِ والفراغ: "ليستِ اللّذّةُ في الرّاحةِ ولا الفراغِ، ولكنّها في التّعبِ والكدحِ والمشقّةِ حين تتحوّلُ أيّاماً إلى راحةٍ وفراغ". ويشنُّ الرّافعيُّ هجوماً عنيفاً على دعاةِ الإباحيّةِ الّذين يرونَ أنّ تقييدَ اللّذّةِ يُفسِدُها بدعوى حرّيّةِ الاستِمتاع، ويصفُهم بالفُسقِ: "وما زالَ رأيُ الفسّاقِ في كلّ زمنٍ أنّ الحرّيّةَ هي حرّيّةُ الاستِمتاع، وأنّ تقييدَ اللّذّةِ إفسادٌ للّذّة".

وأمّا المفكّرُ قاسم أمين فإنّه يرى أنّ ما يمنحُ الإنسانَ لذّةَ الحياةِ هو العملُ الّذي يتركُ أثراً خالداً في الحياة، وليستِ اللّذّةُ في امتلاكِ الذّهبِ ولا في شرفِ النّسبِ أو علوِّ المنصِبِ: "اللّذّةُ الّتي تجعلُ للحياةِ قيمةً ليست حيازةَ الذّهبِ، ولا شرفَ النّسبِ، ولا علوَّ المنصبِ، وإنّما هي أنْ يكونَ الإنسانُ قوّةً عاملة ذاتَ أثرٍ خالد في العالم".

ويعبّرُ المنفلوطيّ في عبراتِه عن لذّةِ العيشِ بجانبِ الفتاةِ الّتي أحبّها وقد جمعَتْ خصالَ الأدبِ والذّكاءِ والحِلمِ والرّحمةِ والعِفّة والشّرفِ والوفاء، فكان يَطربُ للقائِها ويسعدُ بجوارِها ويُؤثرُ ساعاتِ وصالِها على جميعِ ملذّاتِ العيشِ ومسرّاتِ الحياة: "ولقد عَقَدَ الودُّ بين قلبي وقلبِها عقداً لا يَحِلُّهُ إلا ريبُ المنونِ، فكنتُ لا أرى لذّةَ العيشِ إلّا بجوارِها، ولا أرى نورَ السّعادةِ إلّا في فجرِ ابتسامتِها، ولا أُوثرُ على ساعةٍ أقْضيها بجانبِها جميعَ لذّاتِ العيشِ ومسرّاتِ الحياة.. وما كنتُ أشاءُ أنْ أرى خِصلةً من خِصَالِ الخيرِ في فتاةٍ من أدبٍ أو ذكاءٍ أو حِلْمٍ أو رحمةٍ أو عفّةٍ أو شرفٍ أو وفاءٍ إلّا وجدتُها فيها". وينتهي المنفلوطيّ إلى حكمةٍ بالغةِ الأثرِ في الحياة، حينَ يرى أنّ العقلاءَ في هذهِ الحياةِ همُ الأشقِياءُ، وما لذّةُ العيشِ إلّا للمجانينِ: "يقولُونْ: أشقَى النّاسِ في هذِه الحياةِ العُقلاءُ، ويقولُون: ما لذّةُ العيشِ إلّا للمجانينِ. وهذه الحكمةُ قد سالَت من قبلُ على لسانِ المتنبّي في قولِه:

ذو العَقلِ يَشقى في النَّعيمِ بِعَقلِهِ
وَأَخو الجَهالَةِ في الشَّقاوَةِ يَنعَمُ

وللأديبِ الكبير ميخائيلَ نُعيمة نظرةٌ عميقةٌ في توصيفِ اللّذّةِ والألم، إذ يرى أنّ لكلٍّ منهما جذوراً في الآخرِ، إلّا السعادةَ فليس لها جذورٌ قطُّ: "جذورُ اللّذّةِ في الألم، وجذورُ الألمِ في اللّذّةِ، أمّا السَّعادةُ فلا جذورَ لها البتَّةَ". ثمّ يقارنُ زمنَ الإحساسِ بينَهما، فيجدُ أنّ: "دقيقةَ الألمِ ساعةٌ وساعةَ اللّذّةِ دقيقةٌ".

أمّا جبرانُ خليل جبران فلهُ نظرةٌ فلسفيّةٌ مختلفةٌ تعبّرُ عن تأمُّلِه العميقِ وبعدِ نظراتِه إلى الحياةِ بمنظارِ الأديبِ الفيلسوفِ، فيرى أنَّ الألمَ هو ما يُعلّمُ النّاسَ معنى الحياةِ، ويشبّهُ الألمَ بانكسارِ القِشرةِ الصَّلدةِ الّتي تحجُبُ الثّمرةَ، وحينَها ترى النُّورَ بعدَ الدَّيجور، وهكذا البشرُ فبالألمِ تنكسرُ قشورُ الحجُبِ الّتي تغلِّفُ إدراكَهم، فيعرفُون معنى الحياةِ ويُدركونَ بالتّأمُّل والدّهشةِ أسرارَ آلامِهم وأفراحِهم، إذ يقولُ: "إنّ ما تشعرونَ به من الألمِ هو انكسارُ القشرةِ الّتي تُغلّفُ إدراكَكُم، وكما أنّ القشرةَ الصّلدةَ الّتي تحجبُ الثّمرةَ يجبُ أن تتحطَّمَ حتّى يبرزَ قلبُها من ظلمةِ الأرضِ إلى نورِ الشّمسِ، هكَذا أنتم أيضاً، يجبُ أن تُحطّمَ الآلامُ قشُورَكم قبلَ أن تعرفُوا معنى الحياة، لأنّكم لو استطعتُم أن تُعِيروا عجائبَ حياتِكم اليوميَّةِ حقَّها من التّأمُّلِ والدّهشةِ، لما كنتُم ترَون آلامَكم أقلَّ غرابةً من أفراحِكم".

ويغُورُ جبرانُ في أعماقِ اللّذّةِ، فيَقرِنُها بالعطاءِ، ويشبّهُ الجسدَ البشريَّ بالقيثارةِ الّتي يستطيعُ بها الإنسانُ أن يُخرِجَ من نفسِه أنغاماً رائعةً أو أصواتاً مشوَّشةً، وحينَها يُسائلُ المرءُ قلبَه: كيف يستطيعُ أن يميّزَ بين الخيّرِ والشّرّيرِ من اللّذّات، ثمّ يُعطِينا البرهانَ من الطّبيعةِ، ويطلبُ إلينا أن نذهبَ إلى الحقولِ والبساتينِ لنتعلَّمَ منها أنّ اللّذّةَ في العطاء، فلذّةُ النَّحلةِ في امتصاصِ رحيقِ الأزهار، ولذّةُ الزّهرةِ في منحِ رحيقِها للنّحلةِ، فتنظرُ النّحلةُ إلى الزّهرةِ على أنّها يُنبوعُ الحياة، وترى الزّهرةُ في النّحلةِ رسولةً للمحبَّةِ، وانتشاءُ اللّذّةِ بينهما بين الأخذِ والعطاءِ هو ضرورةٌ لا بدّ منها، وسحرٌ وافتِتانٌ لا غنىً للحياةِ عنهُ: "أجَلْ، إنّ جسدَك هو قيثارةُ نفسِكَ، وأنتَ وحدَكَ تستطيعُ أن تُخرجَ منها أنغاماً فتّانةً أو أصواتاً مشوّشةً مضطربةً، ولعلّكَ تسألُ في قلبِك قائلاً: كيف نستطيعُ أن نميّزَ بين الصّالحِ والشّرّيرِ من اللّذّات؟ اذهبْ إلى الحقولِ والبساتينِ وهناكَ تتعلّمُ أنّ لذّةَ النّحلةِ قائمةٌ في امتصاصِ الرّحيقِ من الزّهرة وكذلكَ لذّةُ الزّهرةِ أن تقدّمَ عسلَها للنّحلة، فالنّحلةُ تعتقدُ أنّ الزّهرةَ ينبوعُ الحياة، والزّهرةُ تُؤمنُ بأنّ النّحلةَ هي رسولُ المحبّةِ، والنّحلةُ والزّهرةُ كلتاهُما تعتقدانِ أنّ اقتبالَ اللّذّةِ وتقديمَها حاجتانِ لا بدَّ منهما وافتِتانٌ لا غنىً للحياةِ عنه".

ويرى عميدُ الأدبِ العربيّ طهَ حسين أنّ اللّذّةَ تكمنُ في كسبِ العيشِ بعرقِ الجبين والسّعيِ الحثيثِ إلى الرّزق، فمهما ضاقَتِ الدّنيا بالفقراءِ وحلَّ ما حلَّ بهم من فقرٍ وبؤسٍ وضيق، فإنّ في ذواتِهم كرامةً تحملُهم على الشّعورِ بلذّةِ لقمةِ العيش ممّا كسبَتْ أيديهم أكثرَ من إحساسِهم باللّذّةِ ممّا يُساقُ إليهم من عطاءٍ: "مهما يبلغُ الفقرُ بالنّاس، ومهما يُثقِلُ عليهم البُؤسُ، ومهما يُسيءُ إليهم الضّيقُ، فإنّ في فطرتِهم شيئاً من كرامةٍ تحملُهم على أن يجِدُوا حين يأكلُون ممّا كسبَتْ أيديهم لذّةً لا يجِدونها حين يأكلُون ممّا يُساقُ إليهم دونَ أن يَكسبُوهُ أو يحتالُوا فيه".
ويرى الأديبُ جمالُ الغيطاني أنّ اللّذّةَ والدّهشةَ غالباً ما تكونانِ في لحظةِ الانطلاقِ مع بدايةِ الأعمال: "تقترنُ الدّهشةُ واللّذّةُ بالبِدايات".

ويطالعُنا الكاتبُ عبدُ الله العُتيبي برأيٍ طريفٍ ورائع حينَما يردُّ على مَن يتَّهمُه بالجنون، وهم يجهلُون بأنّ للجنونِ لذَّةً لا يعرفُها إلّا مَن تخطَّى مرحلةَ العُقلاء: "قد يتَّهمُني البعضُ بالجنون! وهو لا يعلمُ أنَّ للجنونِ لذّةً لا يعرفُها الّا مَن تعدّى ما يُسمّى بمرحلةِ العُقلاء!!".

وثمّةَ رأيٌ فريدٌ وجميلٌ للأديبِ الكبير عُمَر فاخوري الّذي يرى أنَّ أجملَ لذّةٍ في الوجود هي لذّةُ التّحرُّرِ من القيودِ، ويا لها من لذّةٍ! فكم هو جميلٌ ذلكَ الطّيرُ المحلِّقُ في الفضاءِ، وكم هو رائعٌ ذلك الإنسانُ الّذي يعيشُ حرّاً كالطُّيور: "إنّ لذّةَ الوجودِ هي التّحرُّرُ من القيودِ"!

ما قدَّمتُه من أقوالٍ في فكرِ أدبائِنا في موضوعِ اللّذّةِ لم يكُن إلّا غيضاً من فيضٍ آثرتُ فيها لذّةَ الاختيارِ بينها؛ لأتجنَّبَ ألمَ التّخبُّط والتَّعثّر في بحرٍ لُجّيّ من المقولاتِ والآراءِ الّتي فيها الغثُّ وفيها الثّمينُ، فآثرتُ عملَ النَّحلةِ في جَني رحيقِ تلكَ الأزهارِ.

وفي الآدابِ الأخرى نجدُ كذلكَ كمّاً هائلاً من الأقوالِ المأثورةِ والحكم والأمثالِ الّتي أحاطَت بموضوعِ اللّذّةِ إحاطةً شاملةً عميقةً.

فها هو الفيلسوفُ اليونانيُّ أفلاطونُ يقارنُ بين آثارِ فعلِ الخير وآثامِ اللّذّةِ، فالخيرُ يَبقى واللّذّاتُ تزولُ وتَبقى آثامُها: "إن تعِبتَ في الخيرِ فإنَّ التَّعبَ يزولُ والخيرُ يَبقى، وإن تلذَّذْتَ بالآثامِ فإنّ اللّذّةَ تزولُ والآثامُ تَبقى". ويرى أفلاطونُ أنّ: "اللّذّةَ سعادةُ المجانينِ، والسّعادةَ لذّةُ الحكماءِ". ويَرى بلوطس أنّ: "كلَّ لذّةٍ يرافِقُها ألمٌ". أمّا سقراطُ فيرى أنّ: "السّعادةَ هي اللّذّةُ بدونِ ندمٍ".

ويذهبُ جان بول سارتر إلى أنَّ بطءَ فهمِ النّاسِ لذّةٌ لم يفهَمْها إلّا حينَما تحرّرَ من عجزِه وانخداعِه: "ولمّا كنتُ مخدوعاً وعاجزاً، فقد تذوّقْتُ لذّةَ الفهمِ دونَ فهمِ هذهِ اللّذّةِ الغامِضة: إنّها بطءُ فهمِ النّاس".

ويكشفُ سيمون دي بوفوار حقيقةَ اللّذّةِ فيصِفُها بالقذارةِ إن لم تُصهَرْ بنارِ العاطفةِ: "إنّ اللّذّةَ تبقى قذرةً إذا لم تُصهَرْ بنارِ العاطفة".

وقد رأى فرنسوا فيون أنّ الحياةَ جُبِلتْ على اللّذائذِ والمسرّاتِ، لكنّ اللّذّةَ الواحدةَ تقابلُها آلامٌ كثيرةٌ: "مقابلَ لذّةٍ واحدةٍ هناكَ ألفُ ألم". أمّا لافونتين فيَرى أنّ الخوفَ يُفسِدُ اللّذّةَ: "إيّاكَ واللّذّةَ الّتي يمكنُ أن يُفسِدَها الخوفُ".

ويرى آرثر شوبنهاور أنَّ التَّضحيةَ باللَّذّة قد تُجنِّبُنا الألم: "التّضحيةُ باللّذّةِ في سبيل تجنُّبِ الألمِ مكسَبٌ واضح". كما يرى أنَّ: "كلَّ لذَّةٍ تحملُ ألمَها على ظهرِها". لكنَّ فولتير يرى في العملِ مصدراً للذّةِ والسَّعادة: "العملُ أبو اللَّذّةِ ومصدرُ السّعادة". وأمّا جيريمي بنتام فيقرّرُ: "أنّ جميعَ دوافعِ النَّشاطِ في الإنسانِ تهدفُ إلى تحصيلِ اللّذّةِ وتجنُّبِ الألم".

ويذهبُ وليام شكسبير إلى أنَّ: "المهزومَ اذا ابتسمَ، أفقدَ المنتصرَ لذّةَ الفوز". وليستِ اللّذّةُ إلّا نقطةَ ماءٍ، في حينِ أنّ السّعادةَ تشبهُ الألماسةَ في قيمتِها وأهمّيّتِها، كما ذهبَ إلى ذلك دوبوفلير: "السّعادةُ تشبهُ الألماسةَ، واللّذّةُ نقطةُ الماء".
وللحبِّ لذّةٌ تشبهُ لذّةَ الصيّادين في مطاردةِ طرائدِهم كما في رأيِ سكوت: "لذّةُ الحبِّ، كلذّةِ الصيّادين: في المطاردةِ". لكنّ اللّذّةَ عند النّفوسِ الدّنيئةِ تتجلّى في تصيُّدِ أخطاءِ العظماء: "ذوو النُّفوسِ الدّنيئةِ يجِدون لذّةً في التّفتيشِ عن أخطاءِ العظماء".

ويسمُو مفهومُ اللّذّةِ إلى معانيها السّاميةِ في عملِ الخير سرّاً لتظهرَ نتائجُهُ فيما بعدُ حقيقةً ملموسةً لا تَخْفى آثارُها أمامَ العيانِ، كما عبّرَ عن ذلكَ شارلس لام: "أعظمُ لذّةٍ أعرفُها هي أنْ أعملَ عملَ الخيرِ خِفيةً ثمّ أراهُ يظهرُ صدفةً".

ويقارنُ غوستاف لوبون بين اللّذّةِ والرّغبةِ فيَرى أنّ الأولى عارضةٌ والثّانيةَ دائمةٌ مستمرّة؛ لذلكَ يُقادُ النّاسُ برغباتِهم أكثرَ من قيادتِهم بملذَّاتِهم: "اللّذّةُ عارضةٌ، والرّغبةُ أبْقى. لذلكَ يُقادُ النّاسُ برغباتِهم أكثرَ ممّا يُقادُون باللّذّات".

وقد تكونُ اللّذّةُ في أدنى درجاتِ الانحطاط والذّلِّ، كما عبّر عن ذلكَ فيودور دوستويفسكي: "إنّ المرءَ ليجِدُ لذّةً في أدنى درجةٍ من درجاتِ الانحطاطِ والمذلّة". وقد تكونُ اللّذّةُ منبعَ المرارةِ والألم، كما عبّر عن ذلك لوكريشيوس: "من يُنبوعِ اللّذّاتِ تنبثقُ المرارةُ".

لقد جُبِلت الحياةُ على الصّراعِ بين النّقائضِ الواضحةِ في الاختلاف، ولكنّ النّقيضَ الواحدَ قد يحملُ في طيّاتِه نقائضَ أخرى حسْبَ دلالتِها ومفهومِها لدى المفكّرين والفلاسفةِ، فاللّذّةُ نقيضُ الألم، لكنّها قد تكونُ في حدودِها الدّنيئةِ المذلّةِ، وقد تسمُو إلى معانيها العظيمةِ في العملِ والأخلاقِ والمبادئ، ومهما وصلَ الأمرُ بها تظلُّ الحياةُ دونَها بلا معنىً، كما في رأيِ لورد بلمستون: "لولا اللّذّاتُ لكانتِ الحياةُ لا تُطاق". ففيها الحلاوةُ وفيها المتعةُ كما قال فولر: "لا حلاوةَ بدونِ كدٍّ وعرق".
وكما في قولِ فلوريان: "لا متعةَ دون عملٍ". واللّذّةُ من مهلكاتِ الرّوحِ على رأيِ لاوتسو: "ملذّاتُ الجسدِ تُهلِك روحَ الإنسان".

الألمُ في النّثر

أمّا الأَلَمُ: فهو (اسمٌ). والجمعُ: آلام. مصدرُ ألِمَ. الألَمُ: الوَجَعُ الشَّديد. الألَمُ: الحُزْنُ وَالأَسى. الأَلَمُ (في الفلسفة): أحدُ الظّواهرِ الوجدانيّةِ الأساسيّة. الأَلَمُ في (علم النّفس): شعورٌ بما يُضادّ اللّذّةَ من عدمِ الرَّاحةِ أو الضِّيقِ أو المضضِ، سواءٌ أكان شعوراً نفسيّاً أم خلقيّاً. آلامُ المخاضِ أو الطَّلْق: الآلامُ الّتي تُحسُّ بها المرأةُ عند الولادةِ. أظهرَ ألمهُ: أظهرَ ما يُضمِرُه من حقدٍ وغيظٍ وغِلٍّ. ألمٌ ثاقبٌ: حادٌّ يجعلُ المرءَ يشعرُ بأنَّ وخزاً يمتدُّ إلى داخلِ أنسجتِه.

فالألمُ إذن يأتي من التّجربةِ الّتي يشعرُ بها الإنسانُ نتيجةَ أسبابٍ حسّيّةٍ أو عاطفيّةٍ، يتركُ شعوراً سلبيّاً بعدمِ الرّضا والسّعادةِ، فقد يكونُ الألمُ مادّيّاً جسدياً ناتجاً عن الأمراضِ أو التَّعبِ والإرهاقِ، أو معنويّاً كالحزنِ والقلقِ والتّوتّر، ويختلفُ الإحساسُ به من شخصٍ إلى آخرَ حسبَ الظّروفِ والعواملِ النّفسيّة، فالمرأةُ تحسُّ بالألمِ أكثرَ من الرّجلِ بسببِ تكوين جسدِها الّذي يَحتوي ضعفَ ما يحتويهِ جسمُ الرّجلِ من الأليافِ العصبيّةِ ممّا يجعلُ إحساسَها بالألمِ أقْوى وأطولَ مدّةً.

وقد يكونُ الألمُ ناتجاً عن جوعٍ مع الفقيرِ، وقد يكونُ نتيجةَ تخمةٍ عندَ الغنيّ، لكنّ كلّاً منهما يشعرُ بالألم، ولعلّ أجملَ وصفٍ نجدُه في ذلك في مقولةِ مصطفى لُطفي المنفلوطيّ، إذ ينقلُ لنا شكْوى كلٍّ من الفقيرِ الّذي تُؤلمُه معِدتُه من قلّةِ الطّعام، وشكْوى الغنيّ المتخَمِ بالنّعم، ويرى أنّ حلَّ مشكلةِ الألم عندَهما يتجلّى في تصدُّقِ الغنيّ على الفقيرِ بما يزيدُ عن حاجتِه، فيزولُ ألمُ الفقيرِ، ويَنتفي ألمُ الغنيّ ذي البِطْنة: "مررتُ ليلةَ أمسِ برجلٍ بائسٍ فرأيتُه واضعاً يدَه على بطنِه كأنّما يشكُو ألماً فرثيْتُ لحالِه، وسألتُه ما بالُه فشَكا إليَّ الجوعَ ففثَأْتُه (خفّفُتُ) عنه، ثمَّ تركتُه، وذهبتُ إلى زيارةِ صديقٍ لي من أربابِ الثّراءِ والنّعمة، فأدهشَني أنّي رأيتُه واضعاً يدَه على بطنِه وأنّه يشكُو من الألمِ ما يشكُو ذلكَ البائسُ الفقيرُ، فسألتُه عمّا به، فشَكا إليَّ البِطنةَ، فقلتُ يا لَلْعجبِ! لو أعطى الغنيُّ الفقيرَ ما فضَلَ عن حاجتِه من الطّعامِ ما شَكا واحدٌ منهُما سقَماً ولا ألمَا، لقد كان جديراً به أن يتناولَ من الطّعامِ ما يُشبِعُ جَوعَتَه، ويُطفِئ غلَّتَه، ولكنّه كان محبّاً لنفسِه، مُغالياً بها، فضمَّ إلى مائدتِه ما اختلَسَهُ من صفحةِ الفقير، فعاقبَهُ الله على قسوتِه بالبِطنةِ حتّى لا يهنأَ للظّالمِ ظلمُه، ولا يَطيبَ له عيشُهُ، وهكذا يصدُقُ المثلُ القائل: بِطنةُ الغنيِّ انتقامٌ لجوعِ الفقير".

ويدعُو جبرانُ خليل جبران حبيبتَه إلى الاستِسلامِ للحبِّ وعدمِ الخوفِ منه على الرّغمِ ما فيه من ألمٍ وحنينٍ ووحشةٍ: "لا تَخافي الحبَّ يا رفيقةَ قلبي، علَينا أن نستَسلمَ إليهِ رغمَ ما فيه مِن الألمِ والحنينِ والوحشة".

ويرى مصطفى محمود أنَّ الألمَ مع الحرّيّةِ أنبلُ من السّعادةِ مع العبوديّةِ، ولهذا تركَ لنا الخالقُ جلَّ وعلَا الحرّيّةَ حتّى نُخطِئ ونتألّمَ ونتعلّمَ من أخطائِنا: "في دستورِ اللهِ وسنَّتِه أنَّ الحرّيّةَ مع الألمِ أكرمُ للإنسانِ من العبوديّةِ مع السَّعادةِ، ولهذا تركَنَا نُخطئُ ونتألّمُ ونتعلَّمُ وهذه هي الحكمةُ في سماحِه بالشّرّ".

وقد تكونُ الحركةُ مصدرَ الألمِ والسّرور، لكنّ الألمَ يذهبُ ويظلُّ السّرورُ، ولنا عِبرةٌ في اخضرارِ الورقةِ وتفتُّحِ الزّهرةِ ونُضجِ الثّمرة، فيَنسى الزّارعُ سَفْعةَ البردِ وجلْجلةَ الشّتاء، كما عبّر عن ذلكَ نجيبُ محفوظ: "لا دائمَ إلّا الحركةُ، هي الألمُ والسّرورُ، عندما تخضرُّ من جديدٍ الورقةُ، عندما تنبتُ الزّهرةُ، عندما تنضجُ الثّمرةُ.. تُمْحَى من الذّاكرةِ سفعةُ البردِ وجلجلةُ الشّتاء". وقد لا يشعرُ بالألمِ مَن تمرّسَ على الآلامِ كما في قولِه: "العادةُ كفيلةٌ بأنْ تجعلَ الألمَ غيرَ أليمٍ".

وقد يَنسى الإنسانُ آلامَه حينما يتحلّى بالصّبرِ والتّضحيةِ والإيمانِ كما عبّر عن ذلكَ الشّاعرُ محمود درويش: "نفعلُ ما يفعلُ الصّاعدون إلى الله: نَنسى الأَلمْ".

وقد يأتي الألمُ من النّاسِ الّذين حملْتَ الخيرَ إليهم، فعليكَ بتحمُّلِ ذلكَ الألمِ، وعليك أن تتحلّى بالتّسامحِ والمغفرة؛ لأنّ الحياةَ مُفعمةٌ بالألمِ والغُفران، كما يرى ياسر حارب: "إنّ مَن يحملُ الخيرَ إلى النّاسِ عليه أن يتحمَّلَ الألمَ الّذي سيأتيهِ منهم، الألمُ والغفرانُ يملآنِ أرواحَنا بالحياةِ". وإذا لم يفارقْكَ الألمُ، فإنّكَ تستطيعُ مفارقتَه كما في رأيِه أيضاً: "قد لا يُفارقُك الألمُ لكنْ تستطيعُ أن تفارقَه".

ويُطالعُنا الكاتبُ عَمرو الجُندي برأيٍ سديدٍ يوضّحُ فيه العلاقةَ الوطيدةَ بين الألمِ والحقيقةِ: "نحنُ لا نرى الحقيقةَ إلّا من خلالِ الألم، فكلّما كان الألمُ عميقاً كلّما كانتِ الحقيقةُ أكثرَ وضوحاً".

ويوضّحُ الكاتبُ الجزائريُّ واسيني الأعرج العلاقةَ بين الكتابةِ والألم، فليسَتِ الكتابةُ سوى رعشةِ الألمِ الخفيّةِ عن المآسي الّتي يعيشُها الأديبُ في واقعٍ مرير مليءٍ بالمآسي: "الكتابةُ لا شيءَ سوى رعشةِ الألمِ الخفيّةِ الّتي نُخبّئُها عن الآخرينَ حتّى لا يلمسُوا حجمَ المأساةِ وجحيمَ صرخاتِ الكلماتِ المذبوحةِ بنصلٍ صدِئ".

وحينَما ينكسرُ الأديبُ فلا شيءَ يُجبِرُ كسورَه غيرُ الكتابةِ؛ لأنّها الوسيلةُ الوحيدةُ الّتي تُشخّصُ المرضَ دون حاجةٍ إلى ضمانٍ اجتماعيّ، ولأنّها ضرورةٌ للنّسيانِ أو لمزيدٍ من الألمِ، ولأنّها صرخةُ استغاثةٍ للتّغييرِ والنُّهوضِ لا تنتظرُ صدقةَ الاستِماع إليها، كما عبّر واسيني أيضاً: "عندما ننكسرُ، الشّيءُ الوحيدُ الّذي يجعلُنا نُجبرُ الكُسورَ هو الكتابةُ، الكتابةُ وحدَها تمنحُنا هذهِ الفرصةَ بدونِ أن نطلبَ من أيِّ شخصٍ ورقةَ الضّمانِ الاجتماعيّ لتبريرِ طبيعةِ المرضِ والدّواء، نكتبُ لأنّنا في حاجةٍ للنّسيانِ أو لمزيدٍ من الألمِ، موجّهينَ نداءَ استغاثةٍ ولا يهمُّ إذا سُمِعْنا أم لم نُسمعْ".

ويُتحِفُنا الكاتبُ عبدُ الوهّاب مُطاوع برأيٍ فريدٍ حولَ الألم، فيدعُو الإنسانَ إلى التّخلّي عن عذابِ نفسِه؛ لأنّ الحياةَ كفيلةٌ بأنْ تَمنحَهُ شتّى ألوانِ العذاب: "لماذا تُعذّبُ نفسَك طالما الحياةُ تتكفَّلُ بذلكَ".

وتناولَ كتّابُ وأدباءُ غيرِ العربيّةِ موضوعَ الألمِ بإفاضةٍ، فأبدعُوا في معانيهِ وأبعادِه الجسديّةِ والنّفسيَّةِ أيَّما إبداعٍ وأضْفَوا عليهِ أبعاداً فكريّةً وفلسفيَّة.

يرى كارل ماركس أنّ الدّواءَ الشّافي للعذابِ النّفسيّ هو التَّألُّمُ الجسديُّ؛ لأنّ ألمَ الجسدِ يخفّفُ من آلامِ النّفسِ وعذابِها: "التّرياقُ الوحيدُ للعذابِ النَّفسيّ هو التَّألُّم الجسديُّ."

ويشبِّهُ باولو كويلّو ألمَ الفراقِ بعد خيبةِ الأملِ في الحبِّ بمَن يتخلّى عن عينَيه كي لا يَرى بشاعاتِ الدُّنيا، فيمتنعُ عطاءُ النَّفسِ، ويحلُّ فيها الألمُ والخسارةُ والفراقُ: "بعدَ خيبتِها العاطفيَّةِ الأولى، لم تُعطِ قطُّ نفسَها كلّيّاً.. خافتِ الألمَ والخسارةَ والفِراق، وهي أمورٌ لا مفرَّ منها على طريقِ الحبِّ، ولاجتنابِ المعاناةِ ينبغي التَّخلّي عن الحبِّ.. الأمرُ أشبهُ بأنْ نقتلعَ أعينَنا كي نُغْشي نظرَنا عن بشاعاتِ الدّنيا". وكذلكَ يرى كويلّو أنّ الخوفَ من الألمِ أشدُّ سوءاً من الألمِ ذاتِه: "إنّ قلْبي يخافُ أن يتألَّمَ...! قلْ لهُ إنّ الخوفَ من الألمِ هو أكثرُ سوءاً من الألمِ ذاتِه".

ويستمرُّ الألمُ إلى الأبدِ إذا ظلَّ صامتاً حبيسَ النّفسِ، ولم يُخرجْهُ صاحبُه من ذاتِه في قصيدةٍ أو لوحةٍ، كما يَرى كارلوس فوينتس: "في حالِ لم يجْرِ نقلُه الى قصيدةٍ أو لوحةٍ، يستمرُّ الألمُ الى الأبدِ صامتاً ووحيداً وداخلَ الجسدِ الّذي يُعاني".
أمّا سيلفيا بلاث فتُعبّرُ عن تجربتِها مع الألمِ، فهي تشعرُ دائماً بأنّها في خيرٍ وتستطيعُ أن تتجاوزَ كلَّ شيءٍ وحيدةً، فتقرُّ عيناها وقد امتلأَ فؤادُها بالألمِ: "أنا دائماً بخيرٍ، أعرفُ كيف أتجاوزُ كلَّ شيءٍ وحدي، أعرفُ كيف أنامُ وفي قلبي ما يَكْفي من الألمِ".

ويذهبُ أوسكار وايلد إلى أنَّ السَّعادةَ لا مَعنىً لها إلّا إذا اشتركَ فيها أكثرُ من شخصٍ، بينَما الألمُ لا يكونُ ألماً إلّا إذا تحمَّلَهُ شخصٌ بمفردِه: "لا تُعتَبرُ السَّعادةُ سعادةً، إلّا إذا اشتركَ فيها أكثرُ من شخصٍ، ولا يُعتَبرُ الألمُ ألمًا إلّا إذا تحمّلَهُ شخصٌ واحدٌ".

ويرى فرانس كافكا أنَّ أشدَّ أنواعِ الألمِ هو ذلكَ الألمُ النّاتجُ عن خضوعِ الإنسانِ لقوانينَ لا يعلَمُ عنها شيئاً أو قوانينِ الغباءِ الّتي تحكمُ المجتمعاتِ وتقودُها كالقطيعِ دون أن يعلمَ أفرادُها حقيقةَ هذهِ القوانينِ، وما أكثرَها في شرقِنا العربيّ، إذ لا يملكُ الفردُ حقَّ الاعتراضِ أو المناقشةِ أو النَّقدِ: "إنّه ممّا يُؤلمُ غايةَ الألمِ أن يُحْكمَ المرءُ بناءً على قوانينَ لا يعرفُها".
وللأديبِ والمفكّرِ الرُّوسيّ فيودور دوستويفسكي أقوالٌ عديدةٌ في الألمِ تتنوَّعُ حسبَ القضايا الإنسانيّةِ والاجتماعيَّةِ الّتي كانت تؤلمُه، إذ يَرى أنَّ دموعَ الأطفالِ وآلامَهم لا يُمكنُ أن تكونَ ثمناً للحقيقةِ مهما كانت قيمتُها في الحياةِ: "إذا كانتْ دموعُ الأطفالِ أمراً لا بدَّ منهُ ولا غنىً عنهُ لإكمالِ مقدارِ الألمِ الّذي سيكونُ ديّةً للحقيقةِ، فإنّني أُعلنُ جازماً أنَّ الحقيقةَ لا تستحقُّ أنْ يُدفَعَ ثمنُها باهظاً إلى هذا الحدِّ".

ويردُّ دوستويفسكي على من يدّعُون أنّ الوجودَ قائمٌ على الألمِ والظّلم، وهما الوحيدانِ اللّذان يمنحانِ الإنسانَ معرفةَ الخيرِ والشّرّ، فبِئْسَت تلك المعرفةُ الّتي تكلِّفُ البشرَ كلَّ هذا العناءِ من الظّلمِ والألم: "يزعمُ بعضُهم أنّ الوجودَ على هذهِ الأرضِ لا يُمكنُ تصوُّرُه خالياً من الألمِ ومن الظّلم اللّذين يستطيعانِ وحدَهما أن يهَبا الإنسانَ معرفةَ الخيرِ والشّرّ! ألا بئسَت تلك المعرفةُ إذا كان ثمنُها هذا الثَّمنُ".

ويسمُو إحساسُ دوستويفسكي بقيمةِ الألمِ في القضايا المصيريّةِ الّتي تقودُ المجتمعَ أو تحكمُه بالقانونِ، فلا بدّ للحاكمِ والقاضي أن يكتسبَ فنَّ القيادةِ أو العدالةِ بمقدارِ ما قاسَى من الألمِ فحينَها تكتسبُ القيادةُ الحكمةَ ويرتَقي القضاءُ بالنّزاهةَ: "قالتْ لي امرأةٌ في يومٍ من الأيّام: ليسَ من حقّي أن أحكمَ على الآخرينَ؛ لأنّني لا أُجيدُ الألمَ، ومن أجلِ أن يُنصِّبَ المرءُ نفسَه حاكماً أو قاضياً، يجبُ عليهِ أن يكتسبَ حقَّ الحكمِ بما يُقاسي من الألم".

ويَعدُّ دوستويفسكي الآلامَ مصدراً للأفكارِ، ويرى أنّ الأفكارَ هي مصدرُ التّعاسةِ والشَّقاء: "الأفكارُ تنشأُ من الألمِ، والألمُ يُنادي الأفكارَ، فإذا كان الإنسانُ سعيداً، هذا يَعني أنّه لم يفكّرْ قطُّ". ولا يُمكنُنا الوصولُ إلى سعادتِنا المقبلةِ إلّا بالآلام، لأنّ الآلامَ تصهرُ النُّفوسَ لتَحيا سعيدةً: "لا بدّ أن نتألّمَ حتّى النّهايةِ في سبيلِ سعادتِنا المقبلةِ، يجبُ أن نشتريَها بآلامٍ جديدة. إنّ الألمَ يطهّرُ كلَّ شيء".

أهمّيّة الألم وأثرُه:

محمود درويش: "نحنُ لا نَنسى الألمَ، نحنُ نتركُه جانباً فقط".

الجَواهري بحزنٍ: "لم يبقَ عندي ما يبتَزُّه الألمِ".

فريدريك نيتشه: "إنّ لم يتأدّبِ الإنسانُ بالألمِ، فكيفَ له أنْ يرتَقي".

دوستويفسكي شاکياً: "لقد تجاوزتُ كلَّ ما يؤلمُني لكنّني لم أعدْ كما كنتُ".

شوبنهاور بألمٍ: "الألمُ صعبٌ جدّاً؛ ولكنَّ الأصعبَ هو ألّا تجدَ مَن يقاسمُكَ هذا الألمَ، ويخفّفُ عنكَ قسوتَه".

إيلينا فيژانتي: "كنتُ حارسةَ الألمِ، أسهرُ مع حشدٍ من الكلماتِ الميّتة".

إلبير كامو: "أصابَني منهم من الألمِ أكثرَ ممّا كنتُ أتوقّعُه من أيِّ كائنٍ".

اللّذّة والألمُ في الأمثالِ والحكم

مثلٌ إنجليزيّ: "تجنّبِ اللّذّةَ الّتي يعقبُها الألمُ".
مثلٌ فرنسيّ: "المهزومُ إذا ابتسمَ أفقدَ المنتصرَ لذّةَ الفوز".
مثلٌ فارسيّ: "في العفوِ لذّةٌ لا نجدُها في الانتقامِ".
مثلٌ ألمانيّ: "يلازمُ الطّمعُ اللّذّةَ المنتظرةَ واللّذّةَ الماضية".
مثلٌ رومانيّ: "مديحُ الكذّابِ لذّةُ الغبيّ".
مثلٌ هنديّ: "قيظُ الشّمسِ يجعلُنا نقدّرُ لذّةَ وجودِنا في الفيءِ".
قولٌ عربيّ: "الطّيّبون يستمتِعون باللّذّةِ الّتي يمنحُونها أكثرَ من اللّذّة الّتي ينالُونها".
حكمةٌ تشيكيّة: "اللّذّةُ والألمُ يرقدانِ فوقَ السّريرِ نفسِه".
حكمة عربيّة: "التّعبُ يزولُ والثّوابُ يَبقى، واللّذّةُ تزولُ والإثمُ يَبقى".

اللّذّةُ والألمُ شعراً

تناولَ الشُّعراءُ اللّذّةَ والألمَ في أبياتٍ وقصائدَ عبّرُوا فيها عن مواقفِهم منهمُا وبيّنُوا أثرَ كلٍّ منهما في الحياةِ والسّلوكِ والعملِ، إذ تَفْنى اللّذّاتُ ولا تُعقِبُ إلّا الخسارةَ والنّدمَ والإثمَ والعارَ والجنايةَ على الجسدِ، وقد يفوزُ باللّذّةِ الحقيقيّةِ في الحياةِ الصّابرونَ الكادحُون، وقد تكونُ اللّذّةُ في معانقةِ الظّالمِ المظلومَ وهو يعاتبُه، وقد تتزاحمُ الآلامُ على الإنسانِ فلا يكادُ يميّزُ بين الحزنِ والفرحِ وبين الضّحكِ والبكاءِ، مثلَما يرقصُ الطّيرُ مذبوحاً من الألمِ، وقد يخالطُ الألمُ جميعَ مشاعرِنا حينَما تقسُو الحياةُ، فتمتلئُ صفحاتُ حياتِنا بالحزنِ والألم، وقد نظَمَ هذهِ المعاني شعراؤُنا في أجملِ لآلئِهم الشّعريّةِ، ونجدُها في الأبياتِ الآتية:

من ذلك قولُ الإمامِ عليّ بنِ أبي طالبٍ (رض):

تَفنى اللَذاذَةُ مِمَّن نالَ صَفوَتَها
مِنَ الحَــــرامِ وَيَبقَى الإِثمُ وَالعارُ
تُبْقِي عَـواقِبَ ســـــوءٍ في مَغَبَّتِها
لا خَيرَ في لَذَّةٍ مِــن بَعــــدِها النارُ
وقولُ بشّار بنِ بُرد:
مَن راقَبَ النَّاسَ ماتَ غَمّاً
وَفـــــازَ بِاللّــذَّةِ الجَســــورُ

وقولُ جميلِ بُثينة:

وَمِن لَذَّةِ الدُنيا وَإِن كُنتَ ظالِماً
عِناقُــــكَ مَظلوماً وَأَنتَ تُعـــاتِبُه
وقولُ أحمدَ شوقي:
وإذا النُّفوسُ تطَوَّحَتْ في لذَّةٍ
كانتْ جِنـــايتُها على الأجسـادِ

وقولُ طاهر زمخشري:

أبْكِي وأضْحَكُ والحَالاتُ واحِــــدَةٌ
أطـْوي عـَليْهـا فــــؤاداً شفّـهُ الألَـــمُ
فإنْ رأيتَ دمُوعِي وهي ضَـــاحِكَـةٌ
فالدَّمْـعُ مِـن زَحْمَـةِ الآلام يَبْتَسِـمُ

وقولُ نازكِ الملائكة في قصيدتِها (خمسُ أغانٍ للألم):

مِن أينَ يأتيْنا الأَلمْ؟
من أَينَ يأتيْنا؟
آخَى رؤَانا منْ قِدَمْ
ورَعى قوافِيْنا

أمسِ اصْطَحَبناهُ إلى لُجَجِ المياهْ
وهناكَ كسّرناهُ بدّدْناهُ في موجِ البُحَيرهْ
لم نُبْقِ منهُ آهةً لم نُبْقِ عَبْرهْ
ولقد حَسِبْنا أنّنا عُدْنا بمنجًى من أذَاهْ
ما عادَ يُلْقي الحُزْنَ في بَسَماتِنا
أو يُخَبّئُ الغُصَصَ المريرةَ خلفَ أغنيَاتِنا

رأيْنا ممّا تقدّمَ أنّ المفكّرينَ والأدباءَ قد أفاضُوا في تناولِهم لموضوعِ اللّذّةِ والألمِ، وعبّرَ كلٌّ منهم عن مفهومِه لكلٍّ منهُما، وقد تنوّعتِ المفاهيمُ واختلفَت المعاني حسبَ رؤيةِ كلِّ منهُم ونظرتِه إلى الحياةِ بعينِ الرّضا تارةً وبعينِ السُّخطِ تارةً أخرى، وقد تناولَ كتّابٌ آخرونَ موضوعَ اللّذّةِ والألمِ من وجهةِ نظرٍ فلسفيّةٍ في مؤلَّفٍ كاملٍ كما في كتابِ (فلسفةُ اللّذّةِ والألم) للكاتبِ إسماعيل مظهر، وتناولَهما غيرُه من الدّارسينَ في أبحاثٍ ودراساتٍ، أمّا مقالتي فهي أدبيّةٌ تقومُ على التّحليلِ وبيانِ المثالبِ والإيجابيّاتِ من خلالِ العرضِ والمقارنةِ والمقاربةِ ممّا يسهّلُ على الباحثِ عمقَ التّحليلِ والنّقدِ والمقارنةِ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى