السبت ٧ آذار (مارس) ٢٠٠٩
بقلم تيسير الناشف

انصياع المتولين للسلطة ووهن الموقف العربي

لا تقوم علاقات تحالف بين دول عربية ودول غربية كبرى. مفهوم التحالف يتضمن تصور دولتين، مثلا، لوجود قدر من التكافؤ بينهما. ولا تتصور دولة غربية كبرى ولا أية دولة عربية وجود تكافؤ بينهما. العلاقات بينهما – وذلك ينطبق على بلدان غير عربية أيضا – علاقات دولة متبوعة ودول تابعة.

في علاقات التبعية ينتفي الاستقلال وتفعيل الإرادة والكرامة، لأن للدولة المتبوعة الكلمة العليا واليد الطولى القوية الإملائية ولأن مفهوم التبعية يرفض مفاهيم الاستقلال والإرادة والكرامة والتكافؤ والتساوي.

ومن المعروف أن كثيرا من الحكام العرب خاضعون أو منصاعون لحكومات غربية. وثمة أسباب لخضوع أو انصياع هؤلاء الحكام لتلك الحكومات، ومن هذه الأسباب ضعف الدول العربية، حكاما وشعوبا، إزاء الدول الغربية القوية.

ولقد تعزز إلى حد كبير تدخل الجهات الغربية الفاعلة في الشؤون الاقتصادية الداخلية العربية في مختلف المجالات: الاستخبارات والاقتصاد وشراء العقارات والسياسة . وتعاون الحكام تعاونا كبيرا مع تلك الجهات وأتاحوا أنفسهم لتقديم الخدمة لها وتنفيذ سياساتها والانصياع لها ولسياساتها وإملاءاتها.

وأحد أسباب لجوء الحكام في العالم العربي إلى المساعدة من الجهات الأجنبية مقابل تيسيرهم لتدخل تلك الجهات في شؤون بلدانهم هو رغبتهم في مواصلة التربع على كراسيهم. والجهات الغربية معنية طبعا بإدامة تجزئة الوطن العربي وتعمل على بقائها وزيادة هذه التجزئة عمقا. ومما يسهم في زيادة اعتماد الحكام العرب على الجهات الأجنبية وزيادة اللجوء إليها هو نفور الشعب واستياؤه من الحكام بسبب سياساتهم غير المراعية لمصلحته.

والسبب الآخر هو الضغط الصهيوني القوي على قسم من الحكام العرب. فالجهات الصهيونية تمارس ضغوطا قوية وفعالة في توجيه سياسات قسم من أولئكم الحكام. لقد اخترقت المناعة لبعض الدول العربية نتيجة عن اختراق جهات غربية وصهيونية لقسم هام من المؤسسات السياسية والاقتصادية والأمنية.

ومن هذه الأسباب أيضا غياب الدعم الشعبي العربي للحكام العرب. ومرد غياب ذلك الدعم هو عدم التجاوب بين الحكام وأفراد الشعب، وأيضا بسبب الفجوة الواسعة القائمة بين توقعات الشعب الفقير البائس المعذب من الحكام وسلوك الحكام إزاء الشعب أفرادا وجماعات.

والسبب الآخر للانصياع هو عقدة النقص المتفشية لدى قسم من الحكام ومن أفراد الشعب إزاء الغربي، والشعور بالتدني حياله والانبهار به والوقوع في أسر الجوانب البراقة الزائفة وغير المشرقة من أسلوب حياته. بهذا البيان لا نعني أن جميع تلك الجوانب زائفة وغير مشرقة. أسلوب الحياة ذلك يشمل جوانب مشرقة وجوانب غير مشرقة. بيد أن كثيرا من العرب ينبهرون بأسلوب الحياة ذلك دون التمييز بين طبيعة تلك الجوانب ودون القرار باتخاذ الجوانب السليمة المشرقة.

والسبب الآخر، المرتبط بالسبب السالف الذكر، هو أن كثيرا من الحكام والمسؤولين وأفراد الشعب يؤخذون بالمجاملات الكاذبة وهم يعيشون في ظل حالة انعدام استراتيجية وطنية أو قومية للتصدي لآثار العوامل الخارجية حيال الدول العربية. لم يتخلص قسم كبير من العرب بعد من آفة المجاملات الكاذبة، ولم يخلص ذلك القسم نفسَه من أثر تلك المجاملات في موقفه وسلوكه، ولم يتخلص من عادة القبول بسهولة بالتوجيه، ولم تتعزز في فكره فكرة أن يرفض إذا تيقن من أن فكره يتطلب أن يرفض.

وثمة سبب آخر وهو انعدام التقاليد الديمقراطية أو تقاليد الشورى السياسية في النظم الداخلية العربية، وتركة الاستبداد القوية بممارسة السلطة الحكومية، واحتكار هذه الممارسة، ما يؤدي إلى النفور القوي بين الحكام والمحكومين.

ومن أسباب انصياع الحكام أيضا أنه يغنيهم إلى حد معين عن الحاجة إلى مراعاة الفكر القومي أو الديني أو الوطني العام المؤلف الموحد. وهم أشد ميلا إلى الفكر القُطري إذ بذلك الفكر تسهل على الحكام ممارسة السلطة وتلتقي هنا رغبة الحكام مع رغبة الجهات الأجنبية غير المعنية بالنهوض بالفكر القومي أو التحرري أو الديني.

هذه عوامل تؤثر أو يمكن أن تؤثر في تحقيق التنمية. بيد أن هذه العوامل يختلف بعضها عن بعض في مدى إعماله أو تحقيقه. قد تكون الجماهير حقيقة وفعلا مستعدة ولكن الحكام غير جادين أو مترددين أو منافقين. وقد يكون قسم من الحكام جادين ولكن لا يحسنون إدارة الأزمة. وقد يكون للرئيس دور كبير في تنمية بلده ولكن ماضيه القمعي أو تعاونه مع جهات أجنبية تضعف الثقة به. ولا يختلف اثنان مطلعان على عدالة قضية الشعب الفلسطيني، ولكن هل حققت الزعامة السياسية من التماسك والتآزر ما يفي بغرض تحقيق الأهداف الماثلة، ومنها إقامة الدولة الفلسطينسة المستقلة ذات السيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد تقبل الزعامة السياسية حلا معينا ولكن لا يساعد قبولها في تحقيق هذا الحل لأن الأوضاع في الميدان، على سبيل المثال الاستيطان اليهودي ومصادرة الأراضي وإقامة شبكة الطرق الرئيسية والالتفافية، تبدو أصعب كثيرا مما كانت عليه لو قبلت الزعامة بذلك الحل قبل حدوث تلك التغيرات.

وإذا افترضنا أن الحكام يرغبون في إيجاد مصدر سند لاستقلالهم في إجراءاتهم فمراعاة الحكام لمصلحة الشعوب التي يحكمونها من شأنها أن تمنح ثقلا أكبر لأولئكم الحكام إزاء الجهات الأجنبية. الحكام الفطنون هم الذين يجعلون من شعوبهم سندا لهم في سياساتهم الخارجية عن طريق تلبية احتياجات تلك الشعوب وضمان رضائها.

ومن المنغص والمؤلم حقا أن يفتقر حكام إلى الحزم والصرامة في التعامل مع الجهات الأجنبية بينما تراهم كالنسور القواطع لدى تعاملهم الواحد مع الآخر أو لدى تعاملهم مع شعوبهم.

وأحد العوامل المسهمة في تحقيق هدف من الأهداف هو الوعي الدقيق. المثال على ذلك مفهوم الدولة. فبينما يتكلم متكلمون، ومنهم فلسطينيون، عن إقامة دولة فلسطينية، لا يبدو أن المحللين التفتوا التفاتا وافيا بالغرض إلى المفاهيم والتفاسير والتعريفات لمصطلح "الدولة".

وأعتقد أنه يتوفر حيز ما لحرية الحركة السياسية لدى الحكام العرب دون أن يغضبوا الجهات الغربية، إذا تحركوا في إطار هذا الحيز. ويبدو أن كثيرا من الحكام العرب لا يمارسون حرية الحركة في هذا الحيز إما نتيجة عن سوء تصورهم لرد الفعل الغربي أو مغالاة في الحذر من إغضاب تلك الجهات أو بسبب جهلهم بوجود ذلك الحيز أو لأنهم اعتادوا على عدم القيام بالحركة السياسية أو على عدم إطلاق مبادرات تستند إلى ممارسة حرية الحركة السياسية أو بسبب مزيج من هذه الأسباب، أو لأاسباب أخرى قد تكون خفية. ومعرفة الجهات الغربية لعدم ممارسة الحكام العرب لذلك الحيز من حرية الحركة، أو معرفة تلك الجهات بأن الحكام يلبون ويراعون دائما الرغبات الغربية، تغري تلك الجهات بالتصرف، ضاربة عرض الحائط بذلك الحيز، ما يعني مزيدا من إضعاف سيادة الدولة التي يحكمها هؤلاء الحكام.

ولدى الحكام العرب رغبة قوية جدا في ممارسة السلطة واحتكارها وإطالة مدتها وإقصاء غيرهم من الذين يريدون أن يشاركوا في هذه الممارسة. وكلما ازدادة الفجوة بين الحكام والمحكومين اتساعا وازداد النفور بين الطرفيت تعززا ازدادت حاجة الحكام إلى المساعدة السياسية والعسكرية الأجنبية وازدادت الجهات الغربية طمعا بالتدخل وازداد تدخلها سهولة، وازداد الحكام تهيؤا للمسايرة والانصياع وتطويع سلوكهم لمقتضيات سياسات الجهات الأجنبية.

وهذه الاتجاهات تضعف لدى الحكام الحس بالمسؤولية أمام الله والضمير والشعب لأنه ينشأ لديهم الميل إلى الاستعداد لحدوث هذا الضعف.

وفي عدد من الدول العربية الهامة والأقل أهمية للجهات السياسية الغربية دور قوي في تحديد هوية الحكام. وفي القيام بهذا الدور تراعي تلك الجهات سياساتها التي هي نتاج التفاعلات السياسية والعقائدية والاقتصادية الداخلية ونتاج التصورات الصحيحة وغير الصحيحة من جانب تلك الجهات للواقع الدولي ونتاج المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية الحقيقية والمتصورة لتلك الجهات. وعند الاصطدام بين إرادات الجهات الغربية واعتبارات النزعة إلى الاستقلال والسيادة واعتبارات تأكيد الذات الفردية والجماعية القومية والكرامة واستلهام تاريخ الشعوب العربية وحضارتها وتراثها وأجدادها تكون الكفة المرجحة لتلك الجهات الغربية، وذلك لكون اؤلئكم الحكام تابعين لتلك الجهات.

وثمة أسباب لضعف شرعية بعض الحكام في المنطقة. وأحد هذه الأسباب هو تبعية الحكام للجهات الغربية، ما يعني إهمال رغبات المحكومين في حالة التناقض أو الاختلاف بين تلك الرغبات والتبعية التي تتيح للحاكم مراعاة تلك الرغبات.

ولا يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية والثقافية والسياسية التي تتطلبها الظروف المحلية الموضوعية إلا بتمتع الشعب والدولة بالقدر الأكبر الممكن من الاستقلال السياسي والاقتصادي، إذ بذلك الاستقلال يمكن ليدي الدولة والشعب أن تكونا طليقتين في السعي إلى تحقيق تلك التنمية. بيد أن البيئة الاقتصادية والسياسية الخارجية لها متطلباتها التي لها تداعيات على عملية التطوير السياسي والاقتصادي الداخلي.

هنا تكمن علاقة جدلية بين متطلبات التنمية الداخلية ومتطلبات وتداعيات القوة الخارجية. للذين يريدون التنمية الداخلية أن يحذروا، وهم يحاولون تحقيق تلك التنمية، من أن تؤدي هذه المحاولة الداخلية بالقوى الخارجية إلى إفشال تلك المحاولة والقضاء عليها. ويتمثل الحذر في صور منها ألا تكون تلك المحاولة على نحو يجعل القوى الخارجية تنقض انقضاضا على محاولات التنمية الداخلية فتفشلها أو تعرقل تحقيقها.

وليس من الصحيح محاولة تحقيق التنمية الداخلية بينما يختلف مدى مراعاة الجهات الفاعلة الداخلية للعوامل المسهمة في إنجاح أو إفشال تلك المحاولة. من هذه العوامل مدى استعداد الجماهير الفعلي والعملي للتضحية ومدى قرن الجهات الفاعلة الداخلية كلمتها بالعمل، ومدى ثقة الجمهور بالحكام ومدى جدارتهم بها، ومدى استعداد وتأهب جهات أجنبية للانقضاض على تلك المحاولة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى