الاثنين ٢٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
لقاء مع محمود درويش

جمـاليــة اليــأس

(إذا تبدد الأمل، فمن الواجب خلقه بالقوة. وهذا ما يحاول فعله محمود درويش، العائد إلى حيفا، لقراءة أشعاره. وقد اعتاد درويش العيش في المنفى، من دون بيت، وهو شعر بذلك حتى في رام الله. ويخشى درويش الإسلام المتطرف وانهيار «شبه الدولة» الفلسطينية، ولكنه يعلق الأمل على الشباب الإسرائيلي الراغب في العيش والسهر من دون انتظار الحرب المقبلة).

ما مقدار تأثره حقا بزيارته الوشيكة إلى حيفا؟ وكيف تفاعل مع خبر اختطاف 1.200 بطاقة من 1.450 للحفل الذي سيقرأ فيه من شعره في يوم الاحد في مدرج حيفا على الكرمل في يوم واحد؟ وهل يؤثر هذا الاحتضان في محمود درويش المقيم في السنين الاخيرة في عمان وفي رام الله احيانا؟
يجيب درويش، «عندما تجاوزت سن الخمسين تعلمت التحكم بمشاعري، فأنا اسافر الى حيفا من دون توقعات. ثَمّة حاجز مقام على قلبي. قد تسقط بضع دموع في قلبي لحظة لقائي مع الجمهور. وأتوقع احتضانا حارا، لكنني أخشى ايضا ان يخيب أمل الجمهور، لانني لا أنوي أن اقرأ كثيرا من القصائد القديمة. لا اريد الظهور بمظهر الوطني أو البطل أو الرمز. سأظهر كشاعر متواضع».

 كيف يتم الانتقال من رمز الروح الوطنية الفلسطينية الى شاعر متواضع؟
 «الرمز غيرموجود في وعيي ولا في خيالي. وأنا أبذل جهودا من أجل تحطيم مطلب الرمز والخروج من هذه الأيقونية. وذلك من أجل تعويد الناس على رؤيتي أنسانا يريد تطوير شعره وذوق قرائه. سأكون في حيفا حقيقيا. سأكون ما أنا. وسأختار قصائد ذات مستوى رفيع».
÷ لماذا تستهين بقصائدك القديمة؟
 «إنه أمر سيء أن يعلن أديب أن كتابه الاول هو الافضل. أنا أتقدم بدأب من كتاب الى كتاب. ولم اقرر بعد ما الذي سأقرأه على الجمهور. لست غبيا. لن أخيب أمله. أعلم أن كثيرين يريدون ان يسمعوا شيئا قديما».

عامل استعارات

صبيحة يوم الاثنين وصل رام الله من عمان. وهو لا يعرف حتى الآن كيف سيسافر الى حيفا، المدينة التي بدأ فيها طريقه الادبي في الستينيات، ثمة كثيرون يتطوعون لنقله. وفي الامسية التي تنظمها سهام داود، وهي شاعرة ومحررة مجلة «مشارف»، بمشاركة الجبهة الديمقراطية للسلام، سيتكلم درويش في الحفل ويقرأ حوالي 20 قصيدة. سيصحبه سمير جبران بالضرب على العود وستكون المطربة أمل مرقص عريفة الحفل. ويأمل درويش ان تأذن له وزارة الدفاع البقاء في اسرائيل نحو اسبوع؛ لأن تصريح الدخول الذي حصل عليه يمنحه البقاء ليومين فقط.

وقد جرت المقابلة في المركز الثقافي المسمى باسم المربي خليل السكاكيني في رام الله وهو مبنى فخم يشتمل على متحف، وقاعة سينما واحتفالات موسيقية وعلى مكتب واسع ايضا لدرويش يحرر فيه مجلته الشعرية «الكرمل». المكتبة في غرفته مليئة بالكتب بالعربية وبينها بعض الكتب بالعبرية أيضا: مختارات شعرية لـ«صحيفة 77»، «خاتم الأساطير» لنعاما سيفي، إلى جانب كتيبات «أذواق» التي حررها إسحق ليئور وأيضا «أشعار بالاسدودية» لسامي شالوم شطريت.

سافر درويش عام 1970 الى الخارج في وفد شيوعي ولم يعد. سافر الى مصر ـ وكانت حينها بلدا معاديا ـ وبعد ذلك انضم الى م.ت.ف، وأدار مركز ابحاث المنظمة في بيروت. وأتاح له التوقيع على اتفاقيات اوسلو بين اسرائيل وم.ت.ف فقط العودة للزيارة من دون التعرض للاعتقال. درويش اكثر هزالا مما كان، متأنق في اللباس وبشوش الوجه. يبدو ممتازا وأصغر عمرا من سنواته الست والستين كرجل مات سريريا قبل ثماني سنين بسبب ذبحات صدرية واعيد الى الحياة.

سألت درويش: «هل من أمل لهذا الشعب»؟ لم يجهد درويش، المتشائم الكبير، نفسه بالاستفسار عن أي شعب أقصد، وأجاب: «حتى إذا لم يكن هناك أمل، من واجبنا أن نخلقه وان ننشئ أملا. من دون أمل نحن ضائعون. يجب أن ينبع الامل من اشياء بسيطة. من روعة الطبيعة، ومن جمال الحياة، ومن هشاشتها. يمكن بين فينة وأخرى ان ننسى الاشياء الحيوية ولو من أجل ان نبقي النفس عليلة. يصعب في هذه الايام التحدث عن الأمل. يبدو هذا وكأننا نتجاهل التاريخ والحاضر. وكأننا ننظر الى المستقبل بانقطاع عن ما يجري حاليا، ومع ذلك من أجل أن نحيا يجب ان نخلق الأمل بالقوة».

 كيف تفعل ذلك؟
 «أنا عامل استعارات لا عامل رموز. أنا اؤمن بقوة الشعر، الذي يمنحني اسبابا للنظر الى الامام ولاكتشاف بارقة نور. قد يكون الشعر ماكرا. فهو مزور ومحرف. ويستطيع ان يجعل اللاواقعي واقعيا، والواقعي خياليا. يستطيع ان يبني عالما يناقض العالم الذي نعيش فيه. أرى الشعر دواءً روحانيا. استطيع أن اصور بالكلمات ما لا أجده في الواقع. هذا وهم كبير لكنه ايجابي. ولا أملك أي اداة اخرى لاكتشاف معنى لحياتي أو لحياة شعبي. بوسعي منحهم الجمال عبر الكلمات وان أصف عالما جميلا وأن اعبر ايضا عن حالهم. ذات مرة قلت مرة انني بنيت بالكلمات وطنا لشعبي ولنفسي».
 كتبت مرة في قصيدة، «هذه الارض تضيق بنا جميعا»، ويبدو اليوم ان الشعور بالإحباط والعجز أقوى مما كان.
 الوضع اليوم هو أسوأ مما كان بالوسع تخيله. الفلسطينيون هم الشعب الوحيد في العالم الذي يشعر بيقين ان اليوم افضل مما ينتظره في الغد. فالغد ينذر دائما بما هو أسوأ. ومنذ ,1993 عشية اتفاق اوسلو، عرفت أنه ليس في الاتفاق أي ضمانة أن نصل سلاما حقيقيا يقوم على استقلال الفلسطينيين وانهاء الاحتلال الاسرائيلي. ورغم ذلك شعرت أن الناس عاشوا الأمل. ومن الجائز أنهم اعتقدوا ان السلام السيء أفضل من الحرب الناجحة. وهذه الاحلام كانت مضللة. الوضع الان أسوأ. قبل اوسلو لم تكن توجد حواجز، ولم تتمدد المستوطنات هكذا وكان للفلسطينيين عمل في اسرائيل».
 هل كان الاستعداد للسلام متبادلا؟
 «يشتكي الاسرائيليون من أن الفلسطينيين لا يحبونهم. وهذا أمر مضحك. فالسلام يتم بين دول ولا يستند إلى الحب. واتفاق السلام ليس حفل زفاف. وأنا أفهم الكراهية للاسرائيليين. فكل انسان طبيعي يكره العيش تحت الاحتلال. في البداية نصنع السلام وبعد ذلك نختبر مشاعر كالحب والكراهية. وقد لا يأتي الحب أحيانا بعد صنع السلام. الحب مسألة خاصة يستحيل فرضه على الآخرين.
وأنا أتهم الجانب الاسرائيلي بانه لم يعرب عن استعداده لانهاء احتلال قطاع غزة والضفة الغربية. فالشعب الفلسطيني لا يطالب بتحرير فلسطين؛ الفلسطينيون يطالبون بحق الحياة الطبيعية على 22 في المائة مما يؤمنون أنه وطنهم. وقد عرض الفلسطينيون التمييز بين الوطن والدولة وقد فهموا السيرورة التاريخية التي افضت الى الوضع الحالي، الذي يعيش فيه شعبان على الارض نفسها وفي البلد نفسه. ورغم هذا الاستعداد لم يبقَ ما يمكن الحديث فيه».
 أشرت إلى قطاع غزة. ما رأيك في الواقع الجديد هناك؟
 «إنه وضع مأساوي. أجواء حرب أهلية. ان ما حدث بين رجال فتح ورجال حماس في غزة يعبر عن أفق مسدود. فلا وجود لدولة فلسطينية ولا لسلطة فلسطينية. ويحاربون بعضهم بعضا على أوهام. وكل واحد يريد الامساك بزمام السلطة. كل شيء وهم. كأنما توجد دولة، كأنما توجد حكومة، كأنما يوجد وزير، كأنما يوجد علم، كأنما يوجد نشيد وطني. هناك الكثير من الوهم ولكن من دون أي مضمون. وعندما تضعين الناس في سجن، وقطاع غزة سجن كبير، ويكون السجناء فقراء معدمين، عاطلين عن العمل يفتقرون للعناية الطبية الأولية ـ فستحصلين على أناس بلا أمل. وهذا يخلق احساسا كأن العنف الداخلي أمر طبيعي. فهم لا يعرفون من يحاربون، ولهذا يحاربون أنفسهم. يسمون وهذا ما يسمونه حربا أهلية. إنهم ينفجرون داخل الضغوط النفسية والاقتصادية والسياسية».

 أيخيفك صعود أصولية حماس؟
 «لا يخيفني هذا من الوجهة السياسية. إنه مخيف من الوجهة الثقافية. فهم يميلون الى فرض مبادئهم على العموم. إنهم يؤمنون بديمقراطية المرة الواحدة، وذلك فقط من أجل الوصول الى صناديق الاقتراع وسدة الحكم. لذلك فإنهم كارثة على الديمقراطية. هذه ديمقراطية مناقضة للديمقراطية. ومع ذلك لا يمكن تجاهل حماس كقوة سياسية لها أنصار في المجتمع الفلسطيني. والآن، والدم حار والجروح نازفة يصعب الحديث عن حوار. ولكن في نهاية المطاف إذا اعتذر رجال حماس عما فعلوا في غزة وصححوا نتائج المعركة في غزة سيكون بالوسع الحديث عن حوار».
 مرة أخرى أنتم تخدمون اسرائيل التي تستفيد غير قليل من هذا الوضع.
 لقد زعمت اسرائيل طوال السنين انه ليس هناك من تتحاور معه، حتى عندما كان هناك من يتحاور معها. والاسرائيليون لا يريدون الانسحاب الى حدود ,1967 ولا يريدون الحديث عن حق العودة ولا عن اخلاء المستوطنات وبالتأكيد ليس عن القدس، إذن علام يتحدثون؟ نحن في طريق مسدود. وأنا لا أرى نهاية لهذا النفق المظلم، ما دامت اسرائيل غير مستعدة للتمييز بين التاريخ والاسطورة. الدول العربية مستعدة اليوم للاعتراف باسرائيل وتتوسل ان تقبل اسرائيل مبادرة السلام العربية التي تتحدث عن العودة الى حدود 1967 وإقامة دولة فلسطينية مقابل ليس فقط الاعتراف التام بدولة اسرائيل بل علاقات تطبيع كاملة ايضا. إذن قولي لي، من الذي يضيع هذه الفرصة؟ لقد قالوا دائما ان الفلسطينيين لم يضيعوا أي فرصة لاضاعة الفرصة. لماذا تقلد اسرائيل رفضية العرب؟
 هل يبدو لك انك ستحظى برؤية اتفاق سلام بين الشعبين في حياتك ؟
 «لست يائسا. أنا صبور وانتظر نشوب ثورة عميقة في وعي الاسرائيليين. فالعرب مستعدون لقبول اسرائيل القوية والمزودة بسلاح ذري وكل ما عليها هو أن تفتح أبواب قلعتها وأن تصنع السلام. عليكم كف الحديث عن خطى الانبياء وعن حروب بلعام وعن قبر راحيل فهذا هو القرن الـ.21 الأمر يحتاج ثورة ثقافية في صفوف الساسة في اسرائيل، ليفهموا استحالة الطلب من شبان اسرائيل انتظار الحرب المقبلة. إن العولمة تؤثر في الشبان، والشبان يريدون السفر والعيش وبناء حياة خارج الجيش. وإذا وجد اليأس بين الاسرائيليين ايضا فهذه شارة خير. فقد يقود اليأس الى ضغط شعبي على القيادة من أجل خلق وضع جديد. هل تعرفين الفرق بين الجنرال والشاعر؟ الجنرال يحصي في ميدان القتال القتلى في جانب العدو، اما الشاعر فيحصي الاحياء الذين ماتوا في هذه المعركة. فلا عداوة بين الأموات. هناك عدو واحد وهو الموت. الاستعارة واضحة. الموتى في الجانبين لم يعودوا اعداء.
 هل تفكر في تكريس نفسك للنشاط السياسي كما فعل فاسلاف هافل مثلا ؟
 « من الجائز أن هافل رئيس دولة جيد، لكنه لا يصنف كأديب استثنائي. وأنا أكتب قصائد أفضل كثيرا من فعلي السياسي.
لن نُخيف القُراء.
 ما الذي تنوي قوله في الأمسية في حيفا؟
 «أريد الحديث عن كيف نزلت عن جبل الكرمل وكيف أصعد عليه الآن، وأن اسأل نفسي لماذا نزلت».
 هل تأسف لأنك غادرت عام 1970؟
 «أحيانا يخلف الزمن حكمة. وقد علمني التاريخ ما هي سخرية القدر. وعلى الدوام سوف أتعرض لسؤال حول ما إذا كنت نادما على خروجي عام .1970 وقد توصلت الى استنتاج بأن الاجابة غير مهمة. قد يكون سؤال لماذا نزلت عن جبل الكرمل أهم».
 لماذا نزلت؟
 «كي أعود بعد 37 سنة. يعني ذلك أنني لم أنزل عن الكرمل في عام 1970 ولم أعد إليه في .2007 الأمر استعارة. وإذا كنت حاليا هنا في رام الله وفي الاسبوع القادم على الكرمل وتذكرت أنني لم أكن هناك اربعين سنة تقريبا، فان الدائرة تُغلق وهذا السفر كله الذي طال سنين كان استعارة. لن نُخيف القراء. فأنا لا أنوي تجسيد حق العودة».
 ولو أمكن أن تعود الى الجليل، والى حيفا والعائلة؟
 لقد صحبتني كصحفية آنذاك وكنتِ شاهدة على شدة مشاعري عندما وصلت في أول زيارة في 1996 بعد غياب 26 سنة حين كان يفترض أن ألتقى إميل حبيبي بغرض تصوير فيلم عن حياته. تأثرت وبكيت ايضا وأردت البقاء في اسرائيل. لكنني اليوم لست مستعدا لاستبدال هويتي الفلسطينية بهوية اسرائيلية. هذا سيحرجني فقط. والمعيار المهم اليوم هو ما الذي فعلته في هذه السنين. كتبت أفضل، وتقدمت، وتطورت وجلبت لشعبي الفائدة من الناحية الأدبية».
 ما رأيك في النقد الموجه الى التوقيت الذي اخترته لقراءة قصائدك في حيفا، في ظل الازمة في المناطق وقضية عزمي بشارة؟
 «نحن نعيش، وأنا لا أعلم ما هو الصواب والخطأ. فكل وقتنا وتوقيتنا غير ذي شأن. وهذه ليست المرة الاولى التي أصل فيها. كنت هنا في 1996 وقمت بتأبين إميل حبيبي في الجنازة وكنت عام 2000 وقرأت من أشعاري في الناصرة وحضرت حفلا في المدرسة التي تعلمت فيها في كفر ياسيف. ليس بوسعي أن أكون جزءا من نزاعات هذا الحزب وذاك. أنا ضيف الجمهور العربي كله في اسرائيل ولا أُفرق بين الحركة الاسلامية، والجبهة الديمقراطية للسلام أو التجمع. أنا شاعر الجميع. ولا ينبغي لي ايضا أن أنسى أن هناك الكثير من الكارهين لي بين الشعراء وحتى بين من يظنون أنفسهم شعراء. فالحسد شعور انساني، لكنه يغدو مختلفا عندما يستحيل كراهية. هناك من يراني خطرا أدبيا، لكنني أنظر اليهم نظرتي الى أطفال ملزمين بالتمرد على أبيهم الروحي. لديهم الحق في قتلي، ولكن فليقتلوني بمستوى عالٍ، أي بنص».
 ألا زالت لك علاقة بمفكرين يهود اسرائيليين؟
 «إنني أتواصل مع الشاعر اسحق ليئور والمؤرخ أمنون راز كركوتسكين. أنا وفي العشرين سنة الأخيرة بت أقل قراءة بالعبرية لكنني أهتم بعدد من الأدباء الاسرائيليين».
 قبل سبع سنوات حاول يوسي ساريد، كوزير للتعليم، إدراج أشعارك في المنهاج التعليمي للأدب ونتيجة لذلك هدد عدد من أعضاء الكنيست من اليمين بتفكيك الائتلاف الحكومي. هل يشعرك ذلك بالفخر؟
 «لا يهمني البتة إذا أدرجوا أو لم يدرجوا أشعاري في منهاج الدراسات الأدبية. عندما طرح اقتراح حجب الثقة عن الحكومة قلت ساخرا، أين العزة الإسرائيلية، كيف توافقون على إسقاط حكومة بسبب شاعر فلسطيني حين تتوفر لكم أسباب أخرى لفعل ذلك. وكذلك لا يهمني إذا كانوا يدرسون أشعاري في المدارس العربية. فأنا لست مغرما بأن أكون في المناهج المدرسية، لأن التلاميذ على وجه العموم يكرهون الأدب عندما يفرض عليهم».
المنفى في كل مكان
 كتبت في قصيدة «ما أنا من دون منفى». وبوصف المنفى مركز أشعارك، وكمن قال أكثر من مرة أنه يحمل المنفى في داخله كحقيبة، هل أنك في سنوات منفاك الطويلة التي رحلت فيها من بلد إلى بلد تعلمت احتضان المنفى؟
 «المسألة ليست احتضانا. المنفى سيطر عليّ، ولكنني توقفت عن الشكوى والتذمر من هذا العبء. فالمنفى قائم في كل مكان. والآن أنا في رام الله، وهنا أيضا أحمل منفاي على كاهلي. أنا لست جزءا من المشهد ولا من المكان. فلم أتعرف على رام الله إلا منذ عشر سنوات تقريبا. ليس لي هنا ماض ولا ذكريات. أنا أعيش هنا كمزيج من المواطن واللاجئ والمنفي. إن علاقتي حاليا بالمكان خفيفة وهشة. كل الأماكن تتساوى الآن».
 وأين البيت؟
 «لا بيت لي. لقد بدلت وغيرت الكثير من البيوت، بحيث لم يعد لي بيت بالمعنى العميق للكلمة. البيت هو حيث أنام وأقرأ وأكتب، وهذا يمكن أن يكون في أي مكان. لقد عشت في أكثر من عشرين بيتا وقد تركت فيها على الدوام أدوية وكتبا وملابس ورسائل. فأنا هارب».
 في أرشيف سهى داوود رسائل، مخطوطات وأشعار خلفتها وراءك عندما تركت عام 1970؟
 «لم أكن أعلم أنني لن أعود. اعتقدت أنني سأبذل جهدي كي لا أعود. وهذا لا يعني أنني اخترت المنفى طواعية. طوال عشر سنوات كان محظورا عليّ مغادرة حيفا، من بينها ثلاث سنوات في الإقامة الجبرية».
 واليوم؟
 «لا أحن بشكل خاص لبيت محدد. فالبيت ليس فقط ما تراكم فيه من متاع. البيت مكان ومحيط. ولا بيت لي. رام الله مثل عمان مثل باريس. ومن الجائز أنه جراء نشأتي على الحنين لم يعد مناسبا لي أن أحن أكثر، وربما أن أحاسيسي تبلدت، ربما أن العقلانية تغلبت على المشاعر والمفارقة تعاظمت. لم أعد أنا الشخص نفسه».
 لذلك لم تنشئ عائلة؟
 يذكرني أصدقائي على الدوام بأنني تزوجت مرتين، ولكنني لا أتذكر ذلك بالمعنى العميق للكلمة. وأنا لست نادما لأنه ليس لي ابن. ربما أنه لن يكون ناجحا، أو أنه سيكون فظا.
 علام تندم؟
 «على نشري أشعارا في سن مبكر وأشعارا غير جيدة. أنا نادم لتسببي في أذى بكلمات قلتها لصديق، أو أنني كنت فظا. ربما أني لم أكن وفيا لذكريات معينة، لكنني لم أقترف جريمة».
 هل تحب عزلتك؟
 «جدا. عندما أضطر للخروج لوجبة عشاء أشعر أن عقوبة فرضت عليّ. وفي السنوات الأخيرة أحب أن أكون وحيدا. هناك ضرورة للناس عندما أحتاج إليهم. بوسعك أن تقولي أن هذه أنانية، ولكن عندي خمسة أو ستة أصدقاء. وهذا كثير. عندي آلاف من المعارف ولكن هذا لا يفيد».
 متى فكرت، إن فكرت، بطفولتك؟
 «لقد أجريت معها حسابا في كتابي الأخير، «في حضرة الغياب»، وهو كتاب شبه سيرة صدر في العام الفائت. إنه خطاب وداع حيث أقف على حافة القبر لأنعي نفسي. فأنا هو الآخر الموجود في القبر. وأكتب في الكتاب تاريخ حياتي، لكن ليس بشكل متعاقب. وهو نثر شعري. هناك ألامس طفولتي في البروة وفي الانتقال إلى لبنان والبقاء فيه حوالي عام. ظننت أننا كنا سياحا. عدنا كمتسللين بشكل غير قانوني واستغرق الأمر زمنا طويلا إلى أن حصلنا على بطاقات هوية. كتبت عن لبنان وعن حنيني وغرامياتي ولكن من دون أسماء».
 ذات مرة قلت في مقابلة مع مجلة «حدريم» أن الشعر الجيد هو طفولة نالت الحكمة.
 «لا أحد يذهب إلى طفولته أو يبحث عنها. إنها تطل بين الفينة والأخرى. وأنا لست ممن يستندون إليها. لست رومانسيا إلى هذا الحد ولست مريضا من الناحية العاطفية. وعندما أتذكر طفولتي لا أشعر بفرح كبير. فهي لم تكن طفولة سعيدة. وعندما أتحدث عنها من دون قصد فإنني أتحدث عن شيء جماعي، لأن كل واحد، ولست أنا وحدي ذهب بهذه الطريق إلى لبنان، أو إلى مخيم لاجئين».
 كتبت عدة قصائد نبعت من طفولتك. هل يصعب عليك العودة إليها حاليا؟ وهل هي تشمل القصيدة عن قهوة أمك؟
 «لقد كتبت تلك القصيدة وأنا في سجن معسياهو عامي 63ـ.1964 وتمت دعوتي لقراءة الشعر في الجامعة العبرية في القدس وكنت حينها أسكن في حيفا. وكان ذلك في عهد الحكم العسكري، فقدمت طلبا للسفر ولم يردوا على طلبي. سافرت بالقطار ـ لا أدري هل لا يزال ذلك القطار يعمل؟ ـ وفي اليوم التالي استدعوني إلى مركز الشرطة في الناصرة وحكموا على بالسجن أربعة شهور مع وقف التنفيذ وشهرين سجن في معسياهو، وهناك، على علبة سجائر من نوع «أسكوت» صفراء تحمل صورة جمل كتبت القصيدة التي حولها الملحن مارسيل خليفة اللبناني إلى نشيد وطني والتي تعتبر القصيدة الأجمل لي، وسوف أقرأها في حيفا».

 هل تخطط لزيارة مسقط رأسك في البروة؟
 « لا. لقد غدت حاليا مستوطنة باسم يسعور. وأنا أفضل تخزين ذكرياتي التي بقيت، للمساحات المفتوحة، للحقول ومقاثي البطيخ، أشجار الزيتون واللوز. وأنا أتذكر الحصان الذي كان مربوطا بشجرة التوت في الباحة وكيف ركبته فأسقطني أرضا وضربتني أمي. لقد كانت تضربني على الدوام، لأنها كانت تظن أني شقي جدا. وأنا لا أتذكر أنني كنت شقيا. أتذكر الفراشات والشعور الواضح بأن كل شيء مكشوف. كانت القرية تقع على تلة وكل شيء يمتد تحتها. وذات يوم أيقظوني وقالوا بأن الفرار ضروري. لم يقولوا لي أن حربا وقعت أو أن خطرا يتهددنا. ذهبنا سيرا على الأقدام، أنا وأخوتي الثلاثة، حتى وصلنا لبنان وكان أصغرنا رضيعا ولم يكف طوال الوقت عن البكاء».

لقاءان مع الموت

 هل أملت الكتابة عليك طقوسا ثابتة أم أنك صرت أكثر مرونة مع مرور السنين؟
 «ليست هناك شروط، ولكن هناك عادات. لقد اعتدت أن أكتب في ساعات الصباح بين العاشرة والثانية عشرة. وأنا أكتب باليد. لا أملك جهاز حاسوب وأنا أكتب فقط في البيت بعد أن أغلق الباب، حتى عندما أكون وحيدا في الشقة. وأنا لا أفصل الهاتف. لا أكتب كل يوم ولكنني أجبر نفسي على الجلوس كل يوم بجوار الطاولة. ربما هناك إلهام، أو من دون إلهام، لا أدري. فأنا لست من المؤمنين جدا بالإلهام، ولكن إذا كان موجودا يجدر انتظاره، خشية أن يأتي وأنا مشغول. وأحيانا تحل الأفكار الأفضل في الأماكن غير الأجود. في الحمام، أو في الطائرة وأحيانا في القطار. في العربية يقولون «بقلم ..» وأنا أظن أنهم لا يكتبون باليد. فالموهبة موجودة في العجز. يجب تعلم كيف تجلس. وإذا لم تتعلم كيف تجلس حينها لا تكتب. مطلوب انضباط».
 كمن يعتبرونك أميرا، هل تنام جيدا؟
 «أنام تسع ساعات في الليل من دون أرق. وأستطيع النوم متى أشاء. يقولون أنني مدلل. أين كتبوا ذلك عني؟ في الصحافة العبرية. أنت تقولين أنني أعتبر أميرا. الأمير هو أعلى من الناس. هذا غير صحيح. وغير صحيح أنني متعال. إنني خجول وهناك من يفسرون ذلك أنه تعال».
 هل أثارت ملامستك الموت على الأقل مرة واحدة خشية لديك من الشيخوخة وخيانة الجسد؟
 «تقابلت مع الموت مرتين. مرة عام 84 والأخرى عام .98 حينها مت سريريا وبدأت التحضيرات لتشييعي. في المرة الأولى كان ذلك نوبة قلبية في فيينا. وكان ذلك نوما عميقا وخفيفا على سحابة بيضاء مع نور مبهر. لم أظن أن هذا هو الموت. حمت وجلت إلى أن شعرت بألم شديد وكان هذا الألم شارة إعادتهم الحياة لي، وقالوا أنني مت لدقيقتين».
 وفي 98؟
 «كان الموت عدوانيا وعنيفا. لم يكن نوما لطيفا. أصبت بكوابيس فظيعة. لم يبد لي الأمر موتا، بل كان حربا مؤلمة. الموت نفسه لا يؤلم».
 ما هو موقفك من الموت حاليا؟
 «أنا جاهز له. لا أنتظره. فأنا لا أحب الانتظار. إن الموت مثلي، لا يحب الانتظار. وقد عقدت معه اتفاقا في قصيدة «الجدارية» أوضحت له فيه أنني منشغل عنه الآن. فعندي ما أكتبه. عندي عمل وفير وهناك حروب في كل مكان، ولا شأن لك، أيها الموت، بالقصائد التي أكتبها. إنها من غير اختصاصك. ولكن هيا نحدد موعدا للقاء. قل لي سلفا. وسأستعد، سأرتدي أجمل لباس ونلتقي في مقهى على شاطئ البحر ونحتسي كأس نبيذ وحينها تأخذني».
 هذا في الشعر. وماذا في الحياة؟
 «أنا لا أخاف الموت ولا أنشغل به. وأنا على استعداد لاستقباله وقت يشاء، ولكن عليه أن يكون شجاعا ونبيلا لننهي الأمر بضربة واحدة. ليس بأساليب مثل السرطان، أمراض القلب أو الإيدز، عليه أن لا يأتي كلص، فليأخذني برفة جفن».
 ما الذي يدخل السعادة إلى نفسك؟
 «هناك مثل بالفرنسية يقول أنك إذا نهضت بعد سن الخمسين من نومك ولم تشعر بالألم فمعنى ذلك أنك ميت. وأنا سعيد للنهوض كل صباح. وبالمعنى الواسع للكلمة أظن أن السعادة اختراع ليس واقعيا بدرجة كبيرة. السعادة لحظة. السعادة فراشة. وأنا أشعر بالسعادة عندما أنهي العمل».
 تبدو أنك أشد تصالحا من أي وقت مضى
 «ربما أن الأمر سيبدو فظا، ولكن هذه هي جمالية اليأس. لا أوهام عندي. وأنا لا أتوقع أشياء كثيرة، وحينها إذا استقام شيء ما فإن في ذلك سعادة كبيرة. وهناك سخرية إلى جانب اليأس. فأنا متشائل».
 هل تحن إليه؟
 «كان المكان سيــكون طــافحا أكــثر لــو ظل حبيبي حاضــرا. لقد كــان ظــاهرة طبــيعية. كانــت لديه ضحــكة وسـخرية خاصة وأعتقد أنه حارب اليأس بالسخرية. ولكنه هزم في النهاية. جميعنا سنهزم، بما في ذلك المنتصرون. يجب أن نعرف كيف نتصرف في لحظة الانتصار وكيف نتصرف في لحظة الهزيمة. والمجتمع الذي لا يعرف معنى الهزيمة ليس مجتمعا ناضجا».
 أتممت منذ حين كتابة كتاب جديد، يوميات شخصية، هل تحب نفسك؟
 «حقا لا. عندما يأتيني شعراء شبان وعندما يتاح لي اسداء النصح، فإنني أقول لهم أن «الشاعر الذي يجلس للكتابة ولا يشعر أنه صفر الأصفار، لن يتطور ولن ينال الاعتراف». وأنا أشعر أنني لم أفعل شيئا. وهذا ما يحثني على تحسين كتابتي وأسلوبي واستعاراتي. إنني أشعر أنني صفر وهذا يفيد بأنني أحب نفسي جدا. عندي صديق يعرف أنني لا أطيق رؤية نفسي على شاشة التلفزيون. وقال لي أن هذه نرجسية مقلوبة. هذا ما قاله ذلك اللعين عني».

نقلا عن السفير اللبنانية التي نقلته عن هآرتس الإسرائيلية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى