الأحد ١ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم حميد طولست

حفل خيري لجمعية الأطفال التوحديين

كم كنت أظن أن ألم الناس ليس مادة، ولا مناسبة للاحتفال والسهر، لكني تأكدت أنه يمكن أن يكون كذلك، فيجتمع الناس، ويحتفلون، يغنون، ويرقصون، ينكتون ويحمضون، حينما يتعلق الأمر بالتعبير عن واقع مر، ومعاناة فئة حرمتها ظروف المرض من الأحلام، وتسببت لها وللمحيطين بها في الحزن و الألم المرير.

فهنا، وهنا فقط، يحق لكل ذي كبد رطبة أن يحتفل، بل يجب عليه في مثلها، الاحتفال والسهر، والطرب والرقص والجذبة أيضا، ما دام يُعلّق عليها الآمال الكبيرة في التبصير بواقع بائس، ووضع شاق، وتغيير ظروف قاسية، يعيشها أطفال يعانون في صمت، ويكابد دويهم في حرج آلام قلة الحيلة، وندرة إمكانيات التخفيف عن فلذات الأكباد.

لم يكن الاحتفال الذي دعيت إليه كصحفي، هدفاً في حد ذاته، بقدر ما كان تعبيرا عن أحلام منظيمه جمعية "مرآة للأطفال التوحديين" وأحزانهم اليومية، في شكل ابتسامات ومفارقات، ولم يكن سهرة تهريج، ولا تنكيت ساذج على مظاهر الأشياء، لكنه كان نوعا خاصاً من التحليل العميق للأوضاع الشائنة الغائبة/الحاضرة في حياة الإنسان الذي لا يرغب في العيش حزينا طوال الوقت، فيبحث دائما عنما ينسيه تناقضات مجتمعه، وممارساته السلبية، وأحداثه السياسية، ومشاكله الاجتماعية، وهمومه النفسية والمادية، لتصير ألطف وأرق مما هي عليه في الحقيقة.

فعلا لقد كان الحفل جملة مواقف من مجتمعنا اللامبالي، وإلتقاطات فاضحة لأبرز مفارقاته، وهجاء لنقائصه، في جبة رقص وغناء ونكات تدمي الأرواح الحساسة في اللحظة ذاتها التي تضحك فيها الكائنات اللامسؤولة على ضعفها وتخاذلها وخساستها وابتذالها. فحاجة من يبكيه الألم، شديدة إلى الكفاح والنضال والمقاومة، كما هي حاجته أشد إلى الضحك والرقص واللعب كمانع لصواعق الانهيار النفسي، وكوسيلة لتوازن الضعيف خاصة مع مثل هذه المناخات البائسة المعتمة، وصمام أمان يمنع الضغط الذي يحمله آباء هؤلاء الأطفال فوق أكتافهم من الانفجار، ويحول الألم إلى ضوء، والعجز إلى أفكار وإبداعات توصل الأفكار، وتقرب الصور غير الواضحة للمشاهد بحرفية تامة، وتصيب الهدف، بنقل الأحداث من عقر ميدانها كما هو الحال مع الفلم المتميز والإبداع الرائع " عندما يتحدث التوحد" الذي توج به الدكتور الدقاق الحفل والذي كان لا بد لإنتاجه –إلى جانب المجهود الكبير- من امتلاك منتجه دراية بعالم السينما والإخراج ولجعبة حمالة للكثير من وجوه الإحساس المرهف بالأشياء والقدرة الخارقة على التمرد، والتجدد، والاندهاش الدائمين، والثقافة الكبيرة، والمتنوعة الواعية بالمفارقات الاجتماعية ليتمكن إبداعه من نقدها بأسلوب سنمائي آسر، كالذي اعتمد فيه الدكتور الفنان اصطياد المفارقة في المشهد والخبر بلغة علمية قريبة من المرض، وتواصل مباشر مع العليل ليفضح بها معانات الفرد التوحدي بكل عموميتها وتفاصيلها الدقيقة والفاضحة.

فالفلم" عندما يتكلم التوحد" لم يكن امتداحا "للعام الزين" كما هو حال الكثير من الإنتاجات الهجينة . بل كان بصدق تعرية للقبح بكل صوره، وأسلوبا رائعا في توريط الحاضرين ومن خلالهم كل غائب أو مغيب، لإيصال صوت ووجهة نظر جمعية "مرآة" وتمردها على اللغة والقوالب النمطية، والمفاهيم والقيم السائدة، للآخرين، أفرادا كانوا أو جماعات، وإلى كل القوى السائدة المتحكمة في مقدرات المجتمع وقراراته المصيرية.

شكرا للجمعية التي عرفت من خلال سهرتها أن الاحتفال هو أعرق الأسلحة وألطفها لتخفيف الكرب، لأنه يعبر عن الواقع المرير بالضحكة وأحيانا بالضحكة المرة، الناتجة عن المعاناة والإحباط.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى