السبت ٩ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

حكايتي شرح يطول

في قاعة المحاضرات، وأنت تحاضر في الطلبة، يبادرك أحدهم، قبل أن تبدأ الخوض في موضوع جديد، بالسؤال التالي: هل تعيش لتكتب أم تكتب لتعيش؟

لا تدري ما الذي جعل الطالب يسألك هذا السؤال. ألأنك أحيانا تشير، في المحاضرات، إلى بعض ما تنشره في الجريدة، فيقرأه أقل الطلاب، ولا يلتفت إليه أكثرهم، لأن المقالات ليست موضع سؤال في الامتحان؟ والطالب الذي سأل من الأكثرية التي لا تقرأ إلا ما هو مقرر، ولو كان من الطلاب الذين يقرأون لقلت لعله قرأ مراجعة ما لسيرة (غابرييل غارسيا ماركيز): نعيش لنروي.
تتذكر كتاب ماركيز وترجمته التي تحفل بالأخطاء النحوية، ترجمته التي تملك نسخة منها، ولا تدري إن كانت الترجمات الأخرى على شاكلتها.

تتذكر (ماركيز) الذي يعيش ليروي، ولكنه حين يروي يعيش مما يروي، وتسأل: هل من كاتب روائي في الأرض المحتلة يعيش مما يروي؟ والإجابة بالطبع: لا. فليس ثمة روائي هنا يبيع من الطبعة الأولى مائة ألف نسخة أو مليون نسخة، كما هو حال (ماركيز).

وتقول هذا للطالب، وتقول له: أنا أعيش من راتبي الجامعي، وما أكسبه من مكافآت المقالات أشتري به كتبا، ولم أبدأ حياتي كاتبا يعيش ليكتب، مثلي مثل أكثر كتاب الأرض المحتلة. ولم تكن الكتابة ترفا. ربما بدأت هواية، لكنها سرعان ما غدت واجبا وطنيا.

تتذكر كتاب غسان كنفاني "أدب المقاومة في فلسطين" وكتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم"، ولأن دار الأسوار في عكا أصدرتهما معا، تحت عنوان واحد، فلا تدري بالضبط في أي منهما كتب غسان عن إيمان شعراء المقاومة بجدوى الكتابة، والنظر إليها على أنها فعل مقاومة. هل نعيش لنكتبها، أم نكتب لنعيش؟ تسأل نفسك، وربما اختلطت الآن الأمور. الآن قد نعيش لنكتب، وقد نكتب لنشتري كتبا، ولكننا ما زلنا نكتب لندافع عن أنفسنا، وعن حقنا في الوجود.

في قاعة المحاضرات، وأنت تحاضر في الطلبة عن سيرة فدوى طوقان، تتذكر، ابنتك روز. كم مرة التقيت بروز منذ غادرتك طفلة في العام 1989؟ لم ترها أحد عشر عاما، وحين أخذت تراها، غدوت تراها مرة في العام. منذ العام 2000، حين تزور عمان للمشاركة في مؤتمر، تتصل بها، فتأتي. تلتقيان أربع مرات، في أربعة أيام، تلتقيان ساعة كل يوم. تتعاتبان. تلومك على تقصيرك تجاهها وتجاه أختها. تطلب أقساطها الجامعية، وقد تتدلع قليلا. قد تمثل حينا، وستدير لك ظهر المجن. ستغدو، مثلك، عاقة. أنت رجل عاق، هكذا ينعتك الذين ساعدوك. ربما.

في سيرة فدوى "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" تكتب عن علاقتها بأبيها تصف مشاعرها أزاءه. تقول إنها مشاعر حيادية. لم تكن تحبه ولم تكن تكرهه، ولكنها ستفتقده حين يموت. لماذا؟ لأن بعض أقاربها بدأوا يتدخلون في شؤون أسرتها الصغيرة، وما كان هذا ليحدث لو كان أبوها على قيد الحياة.

بعد وفاة إبراهيم طوقان ذهب والدها، والد فدوى، إليها وطلب منها أن تكتب الشعر الوطني ولم تحقق له ما أراد. ليس لأنها تريد أهماله، كما كان يهملها، فلم يكن يحدثها مباشرة إذا ما أراد منها شيئا، وإنما لأنها لم تكن تكتب إلا عن تجربة تمر بها، ولم تكن تشارك في الحياة السياسية، ولم تكن تعرف عما يجري إلا من خلال الجريدة والمذياع، فكيف تكتب شعرا في موضوع ليس لها به علاقة مباشرة؟

في قاعة المحاضرات، وأنت تقرأ في سيرة فدوى عن مشاعرها أزاء أبيها، تتذكر ابنتك روز، وتتذكرها وأنت تقرأ رواية غسان كنفاني "عائد إلى حيفا"، وتتذكرها وأنت تقرأ رواية "بنات إيران" لناهيد رسلان، وتتذكر فوق هذا المثل الشعبي: البعيد عن العين بعيد عن القلب، وابنك هو الذي تربيه، ولا تلوم روز، لا تعتب عليها، لا تغضب منها. تبارك لها نجاحها، وحين تودعك تمد لها يدك لتسلم عليها. هل علمتك الحروف التي قرأتها شيئا؟ ربما.

"حكايتي شرح يطول" هي الرواية التي قرأتها الأسبوع المنصرم، الأسبوع الثالث من تموز، وفي تموز هذا قرأت أيضا روايتين أخريين هما: "مديح الكراهية" لخالد خليفة، و"واحة الغروب" لبهاء طاهر.

في نهاية أيار وبدايات حزيران كنت في عمان، وزرت الكاتبة ليلى الأطرش في منزلها، وقد اصطحبني الناشر محمد الشرقاوي صاحب دار ورد للنشر. وتحدثنا عن الكاتبات العربيات، عن السورية سلوى النعيمي والسعودية سمر المقرن، وأتينا أيضا على ذكر الكاتبة رجاء الصانع صاحبة بنات الرياض. وستأتي ليلى على ذكر رواية حنان الشيخ "حكايتي شرح يطول" وعلى ذكر رواية الروائية علوية صبح- إذا لم تخني الذاكرة- "مريم الحكايا". وما أن أغادر منزلها، حتى أمر على المكتبة الأهلية لأسأل عنهما، فلم تكونا متوفرتين في دار ورد. أحصل على "حكايتي شرح يطول"، ولا أجد نسخة من "مريم الحكايا"، وسأقرأ رواية حنان الشيخ.

"حكايتي شرح يطول" هي حكاية والدة حنان، تقصها الوالدة، فكأنها هي المؤلف الضمني، وما كان على حنان إلا أن تكتبها فقط، وإن كانت الأخيرة هي التي شاهدت جنازة أمها، فكتبت عنها كلاما جعلت الأم ترويه. ثمة خدعة كتابية سهلة الاكتشاف، مارسها الكتاب من قبل، حين أعادوا إلى الحياة شخصيات تاريخية وجعلوها تروي بضمير الأنا.

وحكاية كاملة والدة حنان هي حكاية فتيات عربيات كثيرات أجبرن، وهن صغيرات، على الزواج من رجال كبار في السن، فمنهن من أخلصن للزوج، ومنهن من عشقن غيره، وعشن مع العشيق، وهذا ما فعلته كاملة. كان هناك زوج بعمر أبيها، وربما أكبر، وكان هناك عشيق، تخلت المرأة لأجله عن زوجها وابنتيها وتزوجته وأنجبت منه أربعة أطفال آخرين. عاشت كاملة الفقر والحرمان والحب. عاشت حكاية يطول شرحها.

وأنا أقرأ "حكايتي شرح يطول" تساءلت: أثمة ضرورة لأن تكتب حنان قصة أمها؟ وتذكرت ما قرأته عن سيرة سهيل إدريس وما كتبه أيضا عن أبيه. كانت الكتابة أشبه بالكتابة الفضائحية لأموات لم نتركهم يستريحون في قبورهم. هل نكتب قصصهم لنتعلم منها أم لنحقق شهرة ما؟ لست أدري. هل نعيش لنرويها، أم نرويها لنعيش؟ هل نكتب لندافع عن حق أم نكتب لـ...؟

خارج السياق: الجوائز الأدبية

حين فرغت من قراءة رواية خالد خليفة "مديح الكراهية" (2008)، وجدتني مدفوعا لقراءة رواية بهاء طاهر "واحة الغروب" (2006) التي فازت بجائزة البوكر للرواية العربية لهذا العام، فقد سحرتني الأولى وتساءلت: كيف لم تفز إذن؟ لا بد وأن "واحة الغروب" إذن تفوقها سحرا.
كنت اشتريت "واحة الغروب" يوم صدرت طبعتها الأولى الصادرة عن دار الهلال، ومكثت عندي على الرف عامين كاملين لم أتشجع لقراءتها، لأنها رواية يرتد زمنها الروائي إلى أيام الاحتلال الإنجليزي لمصر، وأنا أفضل قراءة الروايات الواقعية، لا الروايات التاريخية. ولو لم تفز بجائزة البوكر لربما ما قرأتها مثل رواية أمين معلوف "ليون الإفريقي" التي اشتريتها منذ أربع سنوات ولما أقرأها بعد؟ هل أنا مثل محمود شقير الذي لا تروق له الروايات التاريخية؟ ربما.

وحين أخذت أتصفح بعض المقابلات التي أجريت مع خالد خليفة أتى على الجائزة وعدم فوزه بها، وكان مسرورا أن روايته كانت من بين الروايات الستة الأخيرة المرشحة من بين مائة وعشرين رواية، وكان الرجل مهذبا ولم يطعن في قرار لجنة التحكيم. قال إن جيله استطاع أن ينافس، فبهاء طاهر ينتمي إلى جيل أسبق، وهذا حسن. وقد ذكرني قوله بعدم حصولي على جائزة الملك فيصل الدولية في العام 2002 حيث ترشحت لها، وفاز بها د. حسام الخطيب ود. محمود حسني، وكنت الأجدر منهما في موضوع الجائزة، الذي كان دراسة الأدب الفلسطيني. أنا أعرف أن مجمل نتاجهما يفوز على مجمل نتاجي، ولكن الجائزة كانت تقتصر على موضوع محدد أرى أنني الأجدر منهما بالفوز في الجائزة. يومها قيل لي أيضا: إنك شاب بعد. ولم يكن العمر عاملا من عوامل الفوز بالجائزة.

لا أدري ما هي المعايير التي اعتمدتها لجنة تحكيم الرواية. أنا لا أنكر أن بهاء طاهر روائي جيد، وأن روايته ممتعة أيضا، ولكني أرى، ولعلني مخطئ، أن "مديح الكراهية" أجدر بالفوز من "واحة الغروب". أجدر لبنائها الفني ولتناولها موضوعا معيشا حساسا كان صاحبه- أي خالد خليفة- جريئا في معالجته.

أظن أن الجوائز الأدبية في عالمنا العربي لا تخضع للكفاءة الأدبية، قدر ما تخضع لاعتبارات أخرى، ذاتية وسياسية، ولعلني مخطئ.

ليس بعيدا عن السياق: جنكيز ايتماتوف

كم من رواية قرأت للكاتب الروسي القرغيزي (جنكيز ايتماتوف)؟ عرفت أعماله التي قدمتها لنا دار التقدم في موسكو ودور نشر عربية في بيروت في نهاية سبعينيات القرن المنصرم. قرأت له "جميلة" و"المعلم الأول" و"شجيرتي ذات منديل أحمر" و"السفينة البيضاء" و"وداعا يا غولساري". وما زلت أحتفظ ببعضها، وأفتقد بعضها الآخر، بخاصة "المعلم الأول" التي أهديتها لبعض معارفي.

وفي ألمانيا، في العام 1988، سأرى "جميلة" مترجمة إلى الألمانية حديثا، وسأقول: لقد سبقت الألمان في قراءته، هم الذين يقرأون ويقرأون، بخاصة الروايات.

دار التقدم هي دار نشر روسية مهمة أسهمت في تعريفنا بالأدب السوفيتي، جيده ورديئه. وهي دار نشر كانت تمول من الجهات الحاكمة التي كانت تؤمن بأهمية الكلمة وقيمتها، ودور الكاتب وقيمته في النضال، وهكذا كانت دار نشر دعائية في جانب منها، ولولا هذا لربما ما عرفنا أسماء أدباء سوفييت كثر، بعضهم يستحق أن يقرأ وبعضهم لا يستحق.

ستسحرني رواية "جميلة" التي قال عنها الشاعر الفرنسي (لويس أراغون) إنها أجمل قصة حب في العالم، وربما ذكرتها مرارا في مقالاتي، فلقد تركت أثرا واضحا فيّ. من قال إن الأدب الجميل لا يؤثر فينا؟

هذا الأسبوع سأعرف أن الكاتب (جنكيز ايتماتوف) توفي في العاشر من حزيران، عن عمر يناهز الثمانين، بعد مرض ألم به. سأقرأ في موقع "ديوان العرب" مقالا للكاتب المصري أحمد الخميسي ينعى فيه الكاتب القرغيزي. وسأعرف عنه ما لم أكن أعرف. سأعرف مأساة أبيه مع الحزب الشيوعي حيث قتله، وسأعرف أن (ايتماتوف) الذي كان يوم مقتل أبيه طفلا يافعا، غدا مقربا من القيادة السوفيتية التي ساعدت في نشر أعماله، لأنها رأت فيه كاتبا أدبيا مميزا. وسأعرف أن (جنكيز ايتماتوف) الذي غدا في الحزب ظل حذرا في كتاباته، هل مرت وفاة هذا الكاتب الذي عرفناه مبكرا في صحافتنا المقروءة مرور الكرام؟ لا أدري، ولكني على يقين من أنه معروف لدى كتابنا بما فيه الكفاية. من لم يقرأ (ايتماتوف) فعليه أن يقرأه. سأمارس هنا دورا دعائيا في الترويج للكاتب. لا بأس. لا بأس.

في ذكرى محمد القيسي

في آب من العام 2003 رحل الشاعر الفلسطيني، جوال فلسطين ومغنيها، كما أحب أن ينعت، محمد القيسي، ابن مخيم الجلزون وحمدة والرصيفة، وشوارع عمان. وفي شوارع عمان عرفته، ولو عرفه هناك زياد خداش، وربما يكون عرفه والتقاه، لكتب عنه شاعرا يقترب من الشعراء الصعاليك، زياد الذي كتب في أحد دفاتره أن حركتنا الأدبية، في فلسطين، تفتقد إلى الكاتب الصعلوك.

وربما تمر ذكرى القيسي دون أن يتذكره أحد، فقد حدث هذا من قبل. كانت ذكراه تمر، وذكرى إحسان عباس أيضا، فقد ماتا في الفترة نفسها، في العام نفسه، دون أن يتذكرهما، هنا في فلسطين، أحد، فلا كاتب صحفي يكتب عمودا يخصهما به، ولا ناقد أدبي أو دارس يكتب دراسة أو مقالة عن أي منهما. هل يعود السبب إلى أننا في الأعوام المنصرمة كنا مشغولين بالدم والنار والقتلى الجدد والشهداء الجدد والقصف والتفجيرات والحصار والحواجز؟ ربما.

ربما تذكرت، وأنا أتذكر محمد القيسي، صديقه الناقد فخري صالح. كانا في ثمانينيات القرن العشرين، ومعهما السينمائي حسان أبو غنيمة، متلازمين، وقد اقتربت منهم في حينه. ما إن يصدر القيسي ديوان شعر حتى يكتب فخري غير مراجعة له. في العام 2003 سألت فخري: هل آلت علاقتك بالقيسي إلى القطيعة؟ فلم أعد أراك تكتب عنه؟ وربما سألته السؤال نفسه في العام 2000 وفي العام 2001، فأنا حين أزور عمان أزور فخري مرارا؟ مرة أجابني فخري إجابة مفاجئة عن القيسي في سنواته الأخيرة. قال لي: إن القيسي غدا بارعا في فقدان الأصدقاء وبسرعة. والعام هذا، نهاية أيار وبداية حزيران زرت الدستور ولم ألتق بفخري، فقد كان في كوريا، ويومها التقيت الشاعر موسى حوامدة، فتحدثنا وتذكرنا محمد القيسي. هل ذكرنا محاسن موتانا؟ ربما.

في العام 1997 أخذت أنشر على صفحات الأيام والبلاد مقالات أدبية مطولة نشرتها في كتاب أصدرته وزارة الثقافة في العام 1998 تحت عنوان "أدب المقاومة.. من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات" ولم أدرس القيسي فيه، لأن نصوصه الشعرية والنثرية لم تكن متوفرة لي. هل غضب الشاعر مني يومها لهذا؟ لا أدري، فلم ألتق به في عمان، ولم ألتق به هنا في الضفة، حين كان يزورها ويزور وزارة الثقافة فيها. ومنذ عامين قرأت روايته "الحديقة السرية" (2002) الصادرة في بيروت عن دار الآداب. ولقد لفت موضوعها نظري.

ابتداءً عرفت القيسي شاعرا، ولم أعرفه ناثرا، ولكنه تحول، مثل إبراهيم نصر الله، إلى ناثر يكتب نصوصا جميلة، وكتب رواية أشبه بالرواية السيرية. الحديقة السرية، رواية سيرية يأتي فيها القيسي على حياته بعد (أوسلو). يأتي فيها على إقامته في لندن وعلاقته بامرأة متزوجة انفق معها أربع سنوات اعتبرها أجمل أيام عمره. ربما تذكر المرء، وهو يقرأها، الشاعر طرفة بن العبد، هذا الذي أفردته العشيرة إفراد البعير الأجرب، لأنه أفرط في حياته البوهيمية، أفرط في البحث عن اللذة، ما سبب لعشيرته مشاكل مع القبائل الأخرى. هل أتيت، وأنا أزور فخري صالح في الدستور، على علاقة محمد بأسرته؟ لم أعد أذكر، لكن محمدا نفسه، في الحديقة السرية، يأتي، ولو قليلا، على هذا، هو الذي ظل محبا لأمه، فكلما زار قبرها أخذ القرآن معه وقرأ آيات منه لروحها، ولم يكن ليخفي هذا، هو الذي كان يعيش، كما يكتب في روايته، مع امرأة متزوجة. هل سيكتب زياد خداش دفترا يخص به القيسي، ليكتب لنا عن شاعر يكاد يكون في حياته مختلفا عن أكثر أدبائنا؟ ربما.

في هذه الأيام ستصدر في دمشق طبعة ثانية من كتابي "أدب المقاومة". ولقد سألني الناشر إن كنت أرغب في إضافة فصول جديدة عليه. سأعتذر عن ذلك، طالبا منه أن تصدر الطبعة الأولى كما هي. وحين أعود إلى الحديقة السرية لمحمد القيسي التي صدرت في العام 2002 أراها مثالا جيدا، مثل "سرير الغريبة" لمحمود درويش، للخوض في الأدب الفلسطيني إبان مرحلة السلام. لقد حاول الأدباء أن يكتبوا في موضوعات أخرى غير الموضوع الوطني، دفعا للاتهام الذي وجهه بعض دارسي الأدب الفلسطيني له، حين لاحظوا أنه يكاد يقتصر على الموضوع الوطني.
في بداية آب 2003، رحل محمد القيسي، وها نحن على أعتاب ذكراه الخامسة، ذكرى رحيله. ربما، اتفقنا معه. ربما اختلفنا معه، لكنه كان شاعرا وناثرا ومغنيا جوالا عاش حياة غنية ثرية قد لا تروق لكثيرين. ربما وربما هو الشاعر الصعلوك الذي يبحث عنه زياد خداش.

هامش: الحديقة السرية

في الأسطر الأخيرة من "الحديقة السرية" يكتب محمد القيسي إشارة يوضح فيها متى بدأ كتابة روايته ومتى انتهى من كتابتها. وهي إشارة مهمة لتطابق الزمنين الروائي والكتابي فيها، ولمغايرتهما لزمن النشر 2002، فمن يقرأ الرواية زمن نشرها، دون الالتفات إلى زمن كتابتها وزمنها الروائي، ربما يقول: أين هو الأديب المقاوم؟ أين هو شاعر المقاومة؟ هل هذا هو الشعب الفلسطيني في الشتات؟ أبناؤه في الضفة والقطاع يقتلون ويقاومون وبعض أدبائه في المنفى يعشقون ويحبون ويسيحون في شوارع لندن يمارسون فيها الغزل!
ربما دفع القيسي روايته للنشر إبان انتفاضة الأقصى، فكتب الإشارة دفعا لأي التباس أو اتهام قد يوجه إليه. ربما، فالفترة التي تجري فيها أحداث الرواية، ما بين 1994 و1999، وهي الفترة التي كتبها أيضا فيها كانت فترة هدوء واسترخاء وسلام. وليس القيسي الوحيد في هذه الفترة الذي خاض فيها موضوع الحب. ربما نتذكر ثانية ديوان درويش "سرير الغريبة" (1999)، وربما نتذكر مقطعه المهم الذي أورده في "حالة حصار" (2002):

"كتبت عن الحب عشرين سطرا

فخيل لي

أن هذا الحصار

تراجع عشرين مترا" (ص58)

وربما نتذكر قصة أكرم هنية "سحر الحب" من مجموعته "أسرار الدوري" (2001). بطلها يحاول أن يكتب عن الحب، ويشرع في ذلك، لكن انتفاضة الأقصى تبدأ، ليجد أبناء فلسطين أنفسهم ثانية يواجهون الجنود الإسرائيليين من جديد.

لم يغب سؤال الخاص والعام عن ذهن محمد القيسي، حتى وهو في لندن. في غير صفحة من روايته يأتي على اتفاق (أوسلو) ويعبر عن خيبته مما جرى. وفي ص143 من الرواية نقرأ:

"يراودني سؤال الآن، هل كنا لنحب بهذه الدرجة من العمق والانشداد الغريب لو كنا منغمرين تماما في العمل العام.. قبل أيام وقفت طويلا أمام كتابة لـ"جوليا كريستيفا".. كانت من رموز اليسار الفرنسي في الستينات، تقول:

(انتهت السياسة، جاء دور الوحدة، وأفراح وأحزان الحياة اليومية، الجسد يتأمل الروح، الروح تنفصل عن الجماعة، والحزن يأمل الوضوح والتجلي).

نعم، أحببنا في الظرف الطبيعي إذن، في خطوة لازمة لإنقاذ الذات، بعد أن عشنا وشهدنا انهيار الأحلام العامة..."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى