الاثنين ٢٥ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
بقلم ظافر مقدادي

حين تموت الملائكة

حين تنظر، أخي العربي، في الأفق تراهُ مسدوداً، تراهُ قاتماً أسوداً، لا يبوح ببارقة أمل، فالحالة العربية تسير من سيء الى أسوأ. ليست القضية قضية (رجلٍ) يقرأ خطاباً مُطولاً مُستعجِلاً الوصول الى آخره لتقبيل حذاء رئيس كيانٍ ما زال قابعاً، ومنذ قرابة قرنٍ من الزمان، على وطن هذا الرجل صاحب القضية. ليست المشكلة في ألقابٍ ألصقوها برجالٍ مسلوبي الإرادة، فهذا رئيس سلطة (بلا سلطة) لا معنى لها، وذاك وزير لا يفهم من (التوزير) سوى حصته، وحصة عائلته، من المشاريع المُمولة أممياً، وغيره (مسؤول أمني) لا يعرف من المسؤولية أكثر مما يعرف أن الأمن الوطني والقومي معناه حماية عشيرته وقبيلته، البيولوجية كانت أم السياسية، وذاك (مجلس مركزي) منبثق عن (مجلس وطني) يدعوا الشعب لإنتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة، ولم يقل لنا هذا المجلس المركزي، والمجلس الوطني، هل إنتخبه أحد من هذا الشعب أم عُيّن تعيينا منذ قرون؟!. ليست القضية قضية (دكانٍ) رفعوا فوقه علم (الجامعة العربية)، يترأسه رجل يثرثر بكلام وتصريحات هو يعلم أنه مسلوب الإرادة في تحقيقها. ليست القضية قضية رجال تافهين شقّوا وطناً عربياً جميلاً الى شقين تحت شعار (المحافظة على الاستقلال)، وهم يرتمون في أحضان فريق خارجي لا يريد الإستقلال لأي بلد عربي تحت شعار (الحرب على الارهاب ونشر الديموقراطية). ليست القضية قضية حكومة تحت الاحتلال لا تدري حتى الآن كيف تخرج بوثيقة لـ(سفك) النفط العربي على فيدرالياتٍ تأباها طبيعة وتراث أرض الرافدين. وليست القضية فقط في (جيوش) من (الكَتَبة)، يتقنعون بأقنعة (المحللين السياسيين)، يُفرغوا قاذوراتهم الإعلامية على رؤوس الناس من على شرفات الفضائيات والجرائد العربية البائسة، ولكلٍ منهم ثمنه وسعره في سوق النخاسة السياسي. القضية أعمق بكثير من كل هذا وذاك، القضية تكمن في (التنمية البشرية) العربية.

في عصور الظلام في أوروبا تنازع القوم على (جنس) الملائكة، أهي ذكور أم إناث؟!. وماذا يفيدهم هذا (الشغب) الفلسفي العقيم؟، هل سيغير من معتقداتهم الدينية؟ أم سيفتح أمامهم إكتشافات جديدة عن حقيقة الكون؟ بماذا يفيد حاضرهم وماذا يحضّر لمستقبلهم؟. لم تخرج أوروبا من عصور الظلام إلا عندما بدأ (التنوير)، بدأت عملية (تنمية) قدرات البشر على المستوى المعرفي أولا، الذي بدوره قاد الى المستويات الثقافية والعلمية والتكنولوجية، أي المستوى (الحضاري). لم يعد ممنوعاً التفكير، لم يعد ممنوعاً طرح الأسئلة الممنوعة ومن ثم الإجابة عليها. وأصبحت قصيدة الشعر أو الرواية الملحمية المحرّك المعرفي، فتحت آفاقاً من ينابيع المعرفة والتنمية البشرية، تلك الآفاق التي أوصلت الأوروبيين الى الفلسفة والعلم. لم تعد أوروبا تجري عطشى خلف سراب، بل أصبحت ظمئى تعبّ من ماء حقيقي يتدفق من على هضاب القصائد وسفوح الأدب وأنهار الفلسفة وجداول العلوم. لم ينجمد (أنسيلم) و(توما الإكويني) في لاهوت (القديس أوغسطين) وهو، اي أوغسطين، بالنسبة لهم كما (السلفي الأصولي) في قاموس الحركات الاسلامية المعاصرة. لم يُسلّم (كوبرنيكوس)، وهو راهب في كنيسة، بنموذج (بطليموس) الكوني. لم تقف أوروبا على أن الحقيقة السياسية الوحيدة هي في كتاب (الأمير) لـ(ماكيافيلي). مضت أوروبا بـ(النقد) و(نقد النقد)، مضت بتنمية البشر معرفيا ثقافيا.

أما في بلاد العرب، وفي شتاتهم، فما زلنا نجري عطاش خلف سراب المعرفة وزيفها، فقراء في تنمية ذواتنا الانسانية. ما هي نواميس الحياة يا تُرى؟ كيف يسير التاريخ وتتطور المجتمعات؟ ما هي قوانينه وشبكاته المتعددة والمتقاطعة؟ كيف وصلنا الى هنا؟ وكيف الخروج؟ ما زلنا ننازل بعضنا في (جنس) الملائكة (وما عليك عزيزي القارئ سوى التمعن في الخطاب السياسي والاعلامي العربي حول لبنان وفلسطين والعراق لتوافقني الرأي). ونازك (الملائكة) مضت في رحلتها الخالدة الى ملكوت بارئها. إنها أنثى، ولا داعي لشغب الفلسفة، إنها شاعرة عاشت بهدوء وتواضع بيننا، إنها ناقدة أدبية وإجتماعية، نهلت من حضارتنا ومن حضارة الغرب، كتبت لنا، علّمت جيلاً عربياً في المعاهد والجامعات، فتحت لنا آفاقاً جديدة في (ديواننا) العربي، شاركت في ثورة ثقافية عربية صاعدة الى الأعلى، إخترقت (ذكورية) الشعر العربي، أشارت لـ(بنات جنسها) العربيات الى الوجهة الصحيحة للحرية والتحرر الحقيقي، حاولت إفهامهن معنى الحضارة والتحضر الحقيقي بعيداً عن (الأفخاد) الفضائية و(عاريات الفن) في السهرات الليلية (وأثداء) (المُتحضّرات) العربيات (المُثقفات) تحت شعارات (الموضة والماركات). والحضارة تُقاس بـ(الإنتاج)، الانتاج الاجتماعي الشامل: المعرفة والثقافة والفن والعلم والتكنولوجيا، ولا تُقاس بـ(مساحة) اللحم الأنثوي المعروض في الشوارع والصالونات والفضائيات والانترنت، لا تُقاس بـ(لون) فخد وساق (الإعلامية) التي لا تعي ما تقول ولا تعرف (ألف باء) علم الاجتماع والفلسفة والسياسة والثقافة والفنون، ولكنها مصرّة على (حضورها الثقافي!!) بإبراز جيب (ما بين النهدين) وما إحتوى من (السيليكون) او بدونه. ليست هذه الحضارة التي أرادتها (الملائكة) لبنات جنسها العربيات، لقد أرادت لهن حضارة (الملائكة) وليس حضارة (ليليت) الساقطة. لم أسمع او أشاهد (مُثقفة إعلامية) عربية أنصفت الراحلة نازك الملائكة ببرنامج ثقافي يليق بها وبوداعها المُحزن والحزين. هل يا تُرى لو رحلت (عارية) من العاريات العربيات، وهنّ كثر، كم من (المآتم) الفضائية والاعلامية ستقام على شرف جسدها الرخيص؟

ما أرخصنا من أمة، نساءً ورجالاً، كم بخلنا على أدبائنا وشعرائنا وعلمائنا!! هل تذكرون رحيل المفكر الفذ إدوارد سعيد؟ كم كان رحيلاً حزيناً وضئيلاً رغم عظمة الفقيد!. رحلت نازك الملائكة، رحلت (عاشقة الليل). وفي موكبها الجنائزي المتواضع كانت أكبر منا جميعاً. لم نمشِ في جنازتها، تركناها تذهب هكذا وحيدة دون دمعة وداع وقبلة إمتنان وكلمة شكر. لم يسرْ في موكبها سوى القليل القليل من أفراد عائلتها وبعض المثقفين وبعض الجيران. لم نرَ رئيسا او زعيما عربيا في وداعها، ولا حتى وزيرَ ثقافة (بلا صُغرة)، ولا نساء عربيات (مُتحضرات مُثقفات) يبكين رحيلها. هل يعتقدون ويعتقدن أنهم وأنهن أهمّ من نازك الملائكة؟!. رحلت يوم أربعاء ووُريت الثرى يوم خميس، وأنتم تعلمون ما معنى يوم (الخميس) في قاموس ثقافتنا العربية، ما معنى يوم الخميس في ثقافة السهرات الساقطة في العواصم العربية، وخاصة القاهرة حيث دُفنت. كيف بخلت (قاهرة العرب) ببضع آلاف، ولا نقُل ملايين، لوداع الملائكة؟ ألم يكن من الأجدى بالأمين العام للجامعة العربية، ووفده العربي المرافق، السير خلف نعش الراحلة عرفاناً وإمتناناً لها، بدل رحلة السياحة القصيرة الى بيروت، التي يعرف الوفد نفسه أنها لن تجدي بشيء! وماذا كان بإمكانهم أن يقدمّوا للبنان غير الذي قدمه العرب طيلة عشرات السنين منذ الاستقلال عن فرنسا؟! وهل في يدهم الأمر والحلّ؟!.

يوم الخميس و(ليلة الجمعة) كان العرب مشغولين بثقافتهم (المُتحضرة). الساسة العرب كانوا مشغولين بالإصطفافات المدمرة للقضايا العربية، ولم ينتبهوا الى أن (كبيرتهم) و(وحيدتهم) قد ماتت، فقد نسوها طيلة ما يقارب العشرين عاماً، وإن إنتبهوا فهي بالنسبة لهم لا تعني ما تعنيه (السيدة رايس). ووزراء الثقافة والاعلام العرب كانوا مشغولين بكيفية (إعادة تحرير) القرارات العربية (العقيمة) بما يوافق مصالح أسيادهم الرؤساء والزعماء. وغالبية المثقفين العرب (ولا أقول كلهم) كانوا مشغولين بـ(التحاليل السياسية) وثمنها في بورصة (الثقافة) العربية المُشتراة. والشارع العربي كان مشغولاً، يوم الخميس، بالسهرات و(الأغاني!) و(الفن!) والرقص، طبيعياً او على الهواء مباشرة من الفضائيات العربية. نساء (عاريات) أمام رجال (مخانيث)، يحاولن، بعرض أجسادهن، تذكيرهم بواجباتهم (الجنسية) تلك الليلة. أهذا هو سرّ (التنمية) البشرية العربية؟.

يوم الخميس مضت (كبيرتنا) و(وحيدتنا) ولم ننحنِ بقاماتنا التافهة إمتناناً لها لما قدمته لنا ولحضارتنا. هل نحن أمّة أم (ماذا)؟. هل هناك أمّة على هذه الأرض ليست لها شاعرة وأديبة كبيرة وحقيقية إلا أمتنا العربية؟!. فلنقف دقيقة صمت، دقيقة صمت واحدة على الأقل، إكباراً وإمتناناً لها، ولندعُ الله العلي القدير أن يغفر لها وأن يسكنها فسيح جنانه. (ملائكة) على الارض، ملاك في السماء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى