الأحد ٢٥ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

سميح القاسم: الأرض مراوغة والحرير كاسد

يذكرنا غلاف ديوان سميح القاسم الأخير "أرض مراوغة، حرير كاسد، لا بأس " (1995) بقصيدة محمود درويش “يحبونني ميتا" (1984) وفيها يسألون الشاعر:

"لماذا كتبت القصيدة بيضاء

والأرض سوداء جدا. أجبت: لأن ثلاثين بحرا تصب بقلبي"

(انظر: حصار لمدائح البحر، عكا 1984، ص 220)

ولا نعرف إن كان هذا المقطع حاضرا في ذهن سميح يوم وافق على أن تكون صورة الغلاف على ما هي عليه: لوحة فنية وسط الغلاف يحيط بها السواد الذي يكتب فيه اسم الشاعر وعنوان المجموعة وكلمة "قصائد" واسم دار النشر باللون الابيض. وهكذا يبدو العالم أسود والقصائد وكاتبها وناشرها بيضا. واذا ما قرأنا القصيدة التي كتبها على الصفحة الثانية للغلاف، وحروفها بيضاء فيم صفحة الغلاف سوداء، أدركنا أن الشاعر، على الرغم من السواد المحيط، ما زال متفائلا وما زالت روحه ممتلئة إصرارا وقدرة على الفعل. ويبدو مرد ذلك كله الى ايمانه بالصحراء، وهو بذلك يختلف عن الهاربين الىالبحار، هؤلاء الذين لا نفع يرتجى منهم. وترمز الصحراء في شعر سميح الى الأمة العربية في ماضيها وعنفوانها ونقائها، ويعرف من تابع اشعار الشاعر أنه كتب عام 1983 قصيدة طويلة أسماها سربية "الصحراء" وفيها يحرض العرب على الثورة من جديد:

"صحراء
هذي رسالتنا
وهذا رسول جديد
يحطم أصنامك العاتية
وهذا بلال جديد
يؤذن من قمة الهاوية
وهذا كتابك
قومي نحارب...
وهذا كتابك
صحراء صحراء
صحرا ااااااا

(عكا، 1984، ص 109)

ويذكر سميح في ديوانه الأخير أنه لا يسأل الصخر عن قلب كنعان جده البعيد، ويذهب الى أنه لا يدعي ابنة عمه تاجا فينيقيا فقد:

"اكتفيت قديما بمجدي الحجازي، أتبعت نجدا بنجد

الى ذروة الخلق" (ص 78)

ويذكرنا هذا كله بديوان "دخان البراكين" (1968)، وبخاصة بقصيدة "ليلى العدنية" التي صدر بها المجموعة، وفيها يبرز البعد القومي بوضوح، على الرغم من أن المجموعة تضم قصيدة "طلب انتساب الى الحزب" التي قدم لها باهداء تخلى عنه يوم أصدر اعماله الكاملة عام 1992، وكان، في حينه، قد ترك الحزب الشيوعي الاسرائيلي. (انظر: دخان البراكين، ط المحتسب، ص 75، وانظر أ. ك، مجلد 1، ص 295)

وكان سميح قد عبر، بلغة نثرية عن خيبته من إخفاق المشروع الاشتراكي والمشروع القومي والمشروع الوطني، ونشر في مجلة “الناقد” اللندنية مقالا يعلن فيه عن اعتزامه اعتزال الشعر، للأسباب السابقة. ولم يلتزم، فيما بعد، بهذا، فلم يورد المقال في المجلد السادس من أعماله الكاملة، مع انه ضم بعض مقالاته النثرية حتى 19/4/1991. تماما كما أسقط قصيدته “السلام”، وفيها يقول:

ليغن غيري للسلام..

وعلى ربى وطني وفي وديانه قتل السلام"

(انظر: ديوان سميح القاسم، عربسك، حيفا، آيار 1979، ص 84 وما بعدها)

وتابع الشاعر مسيرته الشعرية، فأصدر بعد عام 1991 ديوانين ثانيهما موضع الدراسة وأولهما صدر في بيروت عام 1994 تحت عنوان "الكتب السبعة"، ولن آتي على هذا لعدم توفره بين يدي.

وقبل تناول قصائد الديوان ومعالجتها لابد من الاشارة الى بعض القضايا المهمة في مسيرة سميح القاسم الشعرية.

لم يثبت سميح، منذ بداية حياته السياسية والفكرية على مبدأ واحد، فقد تقلب، شأنه شأن بعض أقرانه، تقلبات عديدة. بدأ بداية ذات ميول قومية، ثم انضوى تحت لواء الحزب الشيوعي الاسرائيلي (راكاح)، وظل حتى نهاية الثمانينات حيث ترك الحزب، ليصبح منذ بداية التسعينيات رئيسا لتحرير جريدة “كل العرب”، وكتب في هذه الاثناء قصيدة "فلسطين.. أولا" وكأنه بدأ ينحاز الى المشروع الوطني قبل انحيازه لأي مشروع آخر. وأيد سميح مسيرة السلام، واختار، ذات نهار، عبارة الرئيس عرفات “سلام الشجعان” عنوانا للصفحة الاولى من “كل العرب”.

وقد انعكست تقلبات سميح السياسية والفكرية على أشعاره، ومن يتابع قصائده في طبعات مجموعاته الاولى ويقارن بينها وبين أعماله الكاملة، يلحظ كيف انه اخذ يحذف قصائد كانت تنسجم مع مرحلة ولم تعد تنسجم مع المرحلة الجديدة. حذف سميح القصائد التي مجد فيها (لينين) والشيوعية، وحذف -كما ذكرت- القصائد التي يقف فيها موقفا معاديا للسلام.

ويلاحظ أن اشعاره، منذ اصبح شاعرا معروفا، اخذت تمجد الذات وتضخمها لدرجة يبدو الشاعر فيها وكأنه نبي، وليس المقطع المسوق من سربية الصحراء "وهذا رسول جديد" بالجديد في اشعاره. لقد كتب، يوم كان شيوعيا ملتزما، قصيدة تحت عنوان “ضوء جديد للقصر العتيق” (1977) تذكر بداياتها بالنصوص القرآنية:

"ل. ن
بسم الثمر السافر والجذر المكنون
بسم تراب الأرض وبسم سراب القمر
وبسم الحب وبسم الحقد..” (الحماسة، ج 2، 1979، ص 87)

وتوحي القصيدة لقارئها كما لو أنه يصغي لنبي، علما بأن سميحا يقر بأنه ليس كذلك. ولم يدرج الشاعر قصيدته هذه في أعماله الناجزة، ولا تختلف عنها قصيدة "الطريق" (1995) التي زين الغلاف الاخير لـ "أرض مراوغة.."بها، فنغمة هذه تشبه نغمة المقطع الأخير من سربية “الصحراء”. يقول سميح:

"آمنت بالصحراء
كل الهاربين الى البحار
سيقانهم قصب
فلا هم أهل ماء
يوم نحصيهم
ولا هم أهل نار
آمنت بالصحراء
فليتعثر الاموات بالأموات
وليترسم الاحياء
ضوء خطاي في الليل الطويل
الى انبلاج الدم
في وضح النهار" (أرض مراوغة، ص 64)

ولا ندري ان كان الشاعر، في قادم الايام، سيتخلى عن هذه القصيدة كما تخلى، من قبل، عن قصيدة، “ضوء جديد.." التي تخلى عنها يوم تخلى عن شيوعيته. ولربما يأتي يوم يؤمن سميح به بالفعل بما أورده في سربية "الصحراء" حين قال:

"هل ترين العقارب
هنا عرب
وهناك اليهود
هنا اخوة
وهناك الاجانب
عقارب تلو العقارب
كفى خدرا بنبيذ الاغاني
وسم الاماني
كفانا انتحارا بسوء الطوالع
بين البروج وبين الكواكب
كفى... وانهضي
اختلط المهد باللحد
صحراء قومي نحارب".

ولربما يرى في اليهود اخوة حقيقيين وفي العرب اجانب حقيقيين. فمن يدري؟ حقا انه أنجز هذه القصيدة عام 1983 - عام شعور الفلسطينين، بعد الخروج من بيروت، بالمأساة، وتيقنهم للمرة الرابعة من أن العرب قد خذلوهم، وهذا ما انعكس في قصيدة درويش "مديح الظل العالي" - غير أن تقلبات سميح تقلبات معروفة.

ولعل المرء، وهو يتابع سميحا، يأخذ بمقولة بعض الشعراء والنقاد الرابطة ما بين الشاعر والطفل، ولربما يكون هذا مدخلا لتبرير تقلبات الشاعر. ينفعل الشاعر بالاحداث ويعبر عنها بصدق وبراءة، مثل الاطفال تماما، تارة تجده يقبل على الحياة، وطورا تجده يصرخ ويريد تدمير الكون. فماذا تقول قصائد الديوان ؟

أشير، ابتداء، الى أن تناول هذه القصائد ومعالجتها تحت العنوان المختار يحتوي على مخاطرة تحميل النصوص وتأويلها اكثر مما تحتمل، فأكثرها قصائد تخلو من المناسبة أو من الموضوع الرئيس الذي اعتدنا رؤيته في القصيدة العربية التقليدية. انها قصائد ينزع صاحبها في أكثرها نحو الحداثة، على الرغم من مهاجمة الشاعر للنقاد والشعراء الحداثيين لانهم "يطرحون الاستحداث في مقام الحداثة، ويطرحون الغموض المبتذل في مواجهة الوضوح العسير، ويقدمون الهذيان المرضي على المباشرة الفنية" (انظر مقالة: كأس ويسكي في جنازة الشهيد، أ. ك، مجلد 6، ص 453). ولذلك فان تحليل اكثرها انما يفترض استخدام نظرية النص والقاريء، المثير والمتلقي والأثر الذي يتركه الأول في الثاني.

واذا وقفنا أمام العنوان، وهو مكون من ست كلمات، لاحظنا أنه يجمع كلمات وردت في قصيدتين من قصائد الديوان، فكلمات "أرض مراوغة، لا بأس" ترد في قصيدة "فلسطين...أولا"، فيما ترد كلمتا "حرير كاسد" في قصيدة “احالة دودة القز على التقاعد المبكر” لفظا مباشرا أو معنى. ويقر العنوان بأن الأرض مراوغة، وأن الحرير كاسد، وتعبر عبارة "لا بأس" عن إقرار بالخسارة، وان لم تعبر عن يأس قاتل، وتأتي القصيدة على صفحة الغلاف الاخيرة لتعبر عن اصرار وتحد يعتمد على ايمان الشاعر بالصحراء، أي بالعمق العربي الشعبي.

ويحتوي الديوان على احدى وعشرين قصيدة تتراوح في حجمها ما بين صفحة أو أقل، وما بين احدى وعشرين صفحة. وتنتهي أغلبها بأفعال تدل على الموت، أو بمفردات ذات دلالة تشاؤمية سوداوية "وها هوذا الديناصور الاخير يطل على موته.. ويموت” و “إنني استغيث وما من مغيث” و “بقع عيونكم الدامية” و “في ليلة غامضة قاتمة” و"لن أمر بهذا الجحيم" و "إنني مت في مولدي" و "أننا لم نزل غيرنا" و "الحرير جلود...تبدلها الأزمنة" و "هنا الجريمة كلها وهنا الدليل” و “أعني وقل لي: أين أهلي ؟ أبرهام الذي هو حبرون أصلي”، وتختلف عن هذه النهايات نهايات "فلسطين...أولا" و "رسالة من توفيق زياد" و "الطريق"، فالثانية تعبر عن ايمان بالمستقبل وثقة به، وليس هذا بمستغرب:

"وختاما.. وما من ختام
سلموا لي على أسرتي
وعلى اخوتي
وعلى حارتي
سلموا لي على ثورتي
وعلى رايتي
والسلام" (ص54)

إنها نهاية تتلاءم وطبيعة المتكلم في النص، - أي توفيق زياد- ونحن نعرف انه كان انسانا مناضلا آمن بأفكاره وظل يدافع عنها حتى لحظة وفاته، وعلى الرغم من بعض حزن كان ينتابه احيانا، الا انه لم يتخل عن ايمانه بانتصار ثورته.

وتبدو نهاية قصيدة "فلسطين..أولا" نهاية مفتعلة، والتفاؤل الذي تحفل به غير مبرر فنيا وواقعيا، انه تفاؤل ساذج لا يعتمد على ما يبعث عليه حقيقة. تنتهي القصيدة بالتالي:

نعم / عائدون، أجل، عائدون /بلى
هلا... يا هلا!
الى عرسنا..أولا
الى شمسنا... أولا
الى قدسنا..أولا
هلا... يا هلا
بأبيض/أسود/ اخضر/ أحمر
طعام الشهيدة يكفي شهيدين
والله أكبر ؟ الله أكبر / الله...أكبر" (ص 95)

وقد يزعم سميح أنهم عادوا فعلا، وأن القصيدة عبرت عن عودة حقيقية، وليس هناك من يجادله في هذا، ولكن القصيدة تشير الى أن العودة ليست عودة المنتصر. لقد تمت بين طرفين أملى القوي فيها شروطه، وهو ما تقوله القصيدة نفسها التي، على الرغم من نهايتها الظاهرة في الأسطر السابقة، تحفل بسوداوية تطغى على هذا العالم:

"نذرنا بنادقنا للجهات
حفرنا خنادقنا في رمال اللغات
ولا بأس
أملى علينا الزناة شروط الطهارة
علمنا الرقص في مأتم الشهداء أساطين فن الدعارة
لا بأس،
ألقى علينا مواعظ حرية الشعب سوط الطغاة” (ص 75)

وتبدو الأرض، وهي هنا فلسطين، مراوغة وبنت كلب، وأرضا هوايتها ذبح عشاقها، إنها أرض تابت فعابت، ومع ذلك فهي للشاعر طفلته. إنها المعشوقة المحبوبة التي تراوغ، ومع ذلك فقد آن الاوان لاستعادة الذهب وإرجاع كنز الغضب الى بيت مال العرب. فهل عادت حقا؟ ولا أرى في هذه القصيدة سوى شكل آخر لقصيدة “ضوء جديد لقصر عتيق"، وعليه فلا استبعد ان يقوم سميح، حين يصدر المجلد الثامن من أعماله الكاملة غير الكاملة بحذفها.

وان كان الديوان يحفل حقا بقصائد تعبر عن طبيعة المرحلة فهي قصائد “شهادة وفاة للديناصور الأخير” و “فراسة منتصف الليل في مقهى البحارة العاطلين عن الحلم” و “احالة دود القز على التقاعد المبكر”.

يفتتح الشاعر الديوان باعطاء الديناصور الأخير شهادة وفاة، ويتساءل القاريء عن دلالة ذلك الرمزية، فالديناصور حيوان مرعب انقرض منذ ملايين السنين ولم يبق سوى اسمه وبعض عظامه، وهو في كتابات سميح النثرية الدبابات والمجنزرات (انظر مقالته: ديناصورات على السويس، أ. ك، مجلد 6، ص 166)

واذا كان هناك قتال بين طرفين يبعث كلاهما الرعب، فان الخاسر الذي أخاف الاخرين وأدخل الرعب الى قلوبهم، كما كان حال الديناصور الحقيقي، هو واحد من اثنين: العراق قبل هزيمتها، أو حركة المقاومة وقد تخلت عن المقاومة، وكان ان بدأت اجهزة الأمن تستريح قليلا.

نصغي في القصيدة الى صوت الربذي، وهو هنا قناع يرتديه الشاعر، وهو يعلن وفاة الديناصور ويشهد عليها، ويخبرنا ان لا شيء غير الظلام، وان الليل ثقيل. ويعلمنا ان الديناصور هو الأخير، وهو الحزين والوحيد والمعذب، وهو المغادر للتو. وتبدو المفارقة في انه يسكن انا المتكلم، كما ان انا المتكلم تسكنه، وهذا ما يجعلنا نذهب الى انه ليس الحيوان الاسطوري، وما يدفعنا الى تأكيد ذلك انه يرفض النزع ولا يستسيغ المهابة في الموت، وان له أما تطلب منه مطالب تصدر عن ام من البشر ذوي العزة والكبرياء:

تزود لموتك بالكبرياء، ولا تحتفل بالطقوس

و مت كما تشتهي أن تموت الشموس" (ص 8)

وقد سمع الربذي امرأة تنشج في سرير الولادة في عام جديد يقهقه سكران في ساحة الحرب- وهذا يذكرنا بحرب الخليج في كانون ثان 1991-، وتطلب هذه المرأة من الله ان يميتها وجنينها حتى يرتاحا من العذاب، وترجوه أن يأخذ الطرفين: النحن والهم، والأخيرون يحكمون على القمح بالموت جوعا، في الوقت الذي لم يقد البكاء الممض (النحن) الى واحة:

أثقل القيظ قاماتنا

ولا درب يفضي

الى أي أفق وأية أرض. (ص 13)

لقد صاح الشهداء العجائز سلاما، ولا من سلام، وصاح الديناصور، وهو يتشظى على دورة الأرض عريا وخزيا، سلاما ولا من سلام. وتنتهي القصيدة بقول الربذي:

وها هوذا الديناصور الأخير

يطل على موته...ويموت.

ثمة طرفان اذن، منتصر ومهزوم، وليست صفات المهزوم، عموما، سلبية. ونجد أنفسنا في قصيدة "فراسة منتصف الليل في مقهى البحارة العاطلين عن الحلم" أمام بحارة لا يحلمون ولا يعملون. وقد آل هؤلاء جميعا الى خراب، وكانت نهاياتهم محزنة؛ شعر احدهم بطول غربته عن أحبته والديار، وشنقت ابنة الثاني نفسها بجديلتها، وهربت زوجة الثالث، ونهش القرش إليه الرابع، واتقن الخامس اليأس والكأس والنزف والعزف في بار أمواته الغابرين...وهكذا البقية. ولا يستطيع انا المتكلم في القصيدة ان يفعل شيئا، ولذا يرحل من هذا الجحيم فما ظل من جسده:

"لا يقيم الأود
لجياع البلد"
ويعلن:...
"أنا ذاهب في صراط دمي المستقيم
ذاهب
لن أمر بهذا الجحيم" (ص 27)

وثمة اشارة الى موت مبكر في "احالة دودة القز على التقاعد المبكر"، موت مبكر للطبيعة ولدودة القز التي تنتج الحرير الاصلي الطبيعي، فيما يحل محلها الحرير الصناعي. ونجد انفسنا في القصيدة امام عالمين: النحن والهم، الشرق والغرب. ثمة شرق بدائي بسيط، وثمة غرب صناعي قوي منتصر. اننا أمام دودة القز ابنة الطبيعة وأمام الطائرة بمغازلها المحرقة، امام عالم البناء وعالم الدمار. ويخاطب انا المتكلم في القصيدة دودة القز موضحا ما آل اليه عالمه، عالم البراءة، ومقرا بأن الدول دائلات:

"لك ان تذكري الان يا سيدتي السفن العائدات من
الغرب مثقلة باشتهاء الصبايا الأميرات سحر
الدمقس. ولا تحزني. هكذا الدول الدائلات.
وها نحن دلنا. اشتعلنا قديما باحلامنا
الشاسعات. أضأنا الجهات. وها نحن بعض
الرماد....
نحن سيدتي. نحن أغنام احزاننا
والذئاب...
ثمر التوت للفاتحين
لعوراتنا ورق يابس. (36، 37)

ثمة إقرار بالهزيمة ما كان المرء يلمسه في اشعار سميح من قبل. لقد خسر الشرق وهكذا هي الدول وها نحن دلنا، وتذكر عبارة "هكذا الدول الدائلات" بعبارة (سياتل) زعيم (دوامش) التي صدر بها درويش قصيدته "خطبة الهندي الاحمر..": "ثمة تبديل عوالم". فهل تأثر سميح بالقصيدة وبالعبارة؟

وتجدر الاشارة الى ظاهرة مهمة في اشعار الشاعر بدأت تبرز في مجموعته "أخذة الاميرة يبوس" (1990) وهي كتابة قصائد لا تخلو من رسوم، وتذكر هذه بقصائد عصر الانحطاط في الادب العربي، ويلحظ المرء في "أرض مراوغة" قصيدة كتبت بطريقة عكسية، واسمها "قصيدة عكسية" وبدلا من ان نقرأ عبارة "الوقت من ذهب" على هذه الشاكلة نقرأها على النحو التالي:

ذهب من الوقت (ص 55)

ولا يدري المرء الفائدة التي تجنى من ذلك، وهكذا يشعر بالخيبة من سميح وما آل اليه. بدأ الشاعر حياته شاعرا متمردا ومقاتلا من اجل قضاياه القومية والانسانية، وانتهى كتب قصائد الحجب، بدأ بسيطا يكتب قصائده في جرائد يقرأها الجميع وانتهى انسانا نرجسيا يصدر أعماله في سبعة مجلدات لا يقوى على شرائها سوى الثري الذي لا يقرأ، ويبدو أن نار براكينه قد تحولت الى أرض مراوغة، كما تحولت قصائده الى حرير كاسد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى