الأربعاء ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم عبد الله الحميدي

شرف العلم

العلم عكس الجهل وليس عكس الأمية. الجهل هو معلومات غير صحيحة و يظن صاحبها بصحتها. لذلك كان التعامل مع الجهلاء صعبا، لإعتقادهم أنهم على علم. قال المتنبئ:

ولا يصح فى الإفهام شيء
إذا إحتاج النهار الى دليل

العلم هو إدراك المعلومات الصحيحة. والجهل إدراك المعلومات الخاطئة. والأمية هى عدم العلم، فهي ليست عيبا، فما نعلمه هو نقطة من بحر ما لا نعلمه. فكل واحد منا وُلد من أمه لا يعلم شيئا. ثم كبرنا و تعلمنا ولا نزال.

وأسوأ من الجاهلِ الجاهلُ المركب الذى دخل الجهل أعماقه وتراكبت المعلومات الغير صحيحة فوق بعضها فى ذاكرته وحفظه. وأسوأ منه الجاهل المعاند الذى لم يكتفي بجهلِهِ جهلَهُ بل يرى أنه على الصواب والعالم مخطئ ويصرّ على ذلك، فيطرد ما هو فى أمس الحاجة له. هذه المقدمة والتعريف مهمان حتى لا نتوه فى القراءة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم . (يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة: 11) ويقول عز من قائل: وَقَلْ رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً (طه: 114). وقال جلَّ ذِكرُه: إنَّما يخشى اللهَ مِنْ عِبادِهِ العُلَماءُ (فاطر: 28). وقال: وما يَعقِلُها إِلاّ العالِمون (العنكبوت: 43). وقالوا لو كنَّا نَسْمَعُ أو نَعقِلُ ما كُنَّا في أصحابِ السَّعِير (الملك: 10). وقال: هَلْ يَسْتَوي الَّذينَ يَعْلَمونَ والَّذينَ لا يَعلَمون (الزمر: 9). صدق الله العلي العظيم.

والفقه فى اللغة العربية هو الفهم. وإنّما العِلمُ بالتَّعلُّم والتفهم والتفكر. ويفيدنا صاحب لسان العرب رحمه الله بأن (الفقْه: العلـم بالشيء والفهمُ له، وغلبَ علـى عِلْـم الدين لسِيادَتِه وشرفه وفَضْلِه علـى سائر أَنواع العلـم، كما غلب النـجمُ علـى الثُّرَيَّا، والعُود (البخور) علـى الـمَنْدَل. وفَقِه فِقْها: بمعنى عَلِـم عِلْـماً. وفـي حديث سَلْـمان: أَنه نزل علـى نَبَطِيَّةٍ بالعراق فقال لها: هل هنا مكانٌ نَظِيف أُصَلِّـي فـيهِ؟ فقالت: طَهِّرْ قَلْبَك وصَلِّ حَيْثُ شِئْتَ، فقال سلـمان: فَقِهَت أَي فَهِمَتْ وفَطِنَتْ للـحقِّ والـمَعْنى الذي أَرادَتْ. وكل عالـم بشيء فهو فَقِـيه. والفِقْه الفِطْنَةُ).

صحَّ عن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من سلك طريقاً يطلب فيه علماً، سلك الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاء لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر).

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( طلب العلم فريضة على كل مسلم )، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( العلم عِلْمان، علم في القلب فذاك العلم النافع، وعلم على اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم ). وعن أبي هريرة ، وعن ابن عمر أيضاً قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحمل من هذا العلم من كل خلف عُدُولُه ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (علّموا العلم وعلّموه الناس، وتعلّموا له الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه ولمن علمتموه).

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: (العلم خير من المال؛ العلم يحرسك و أنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، المال تُنقِصُهُ النفقة والعلم يزكوا بالإنفاق). وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ( أُغدُ عالماً أو متعلماً، ولا تغدوا غير ذلك) ، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه: (تعلموا العلم فإن تعلّمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، والأنيس في الوحشة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والدين عند الأخلاق، والقرب عند الغرباء، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخلق قادة يقتدى بهم، وأئمة في الخلق يقتفي آثارهم، و ينتهي إلى رأيهم، وترغب الملائكة في حبّهم بأجنحتها تمسحهم، حتى كل رطب ويابس لهم مستغفِر، حتى الحيتان في البحر وهوام وسباع البر وأنعامه، والسماء ونجومها).

وروى أحمد بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الناس معادن، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا ). و قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في حجرها وحتى الحوت، ليصلون على معلم الناس الخير ). الله أكبر يا لشرف العلم!

قال ابن مسعود: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالأغترار بالله جهلاً. وقيل للشعبي: يا عالم، قال: أنظروا ما تقولون! إنما العالم من يخشى الله. وقال ابن الجوزي: والله ما أعرف من عاش رفيع الصدر بالغ من اللذات ما لم يبلغ غيره إلا العلماء، فإن لذة العلم تزيد على كل لذة. قال لقمان الحكيم لأبنه: يا بني جالس العلماء، فإن الله يحي القلوب الميتة بالحكمة كما يحي الأرض الميتة بمطر السماء. عن أبي هُريرةَ رَضيَ الله ُ قالَ قالَ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عليْه وسَلـَّمَ إذَا مَاتَ ابنُ آدَمَ انقَطَعَ عمَلُهُ إلاَّ منْ ثَلاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ.

و كتب حجة الإسلام الغزالي (وقال صلى الله عليه وسلم:‏ خصلتان لا يكونان في منافق‏:‏ حسن سمت وفقه في الدين.‏ ولا تشكّن في الحديث لنفاق بعض فقهاء الزمان فإنه ما أراد به الفقه الذي ظننته. وأدنى درجات الفقيه أن يعلم أن الآخرة خير من الدنيا وهذه المعرفة إذا صدقت وغلبت عليه برىء بها من النفاق والرياء‏. وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ خُير سليمان بن داود عليهما السلام بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه. وسئل ابن المبارك‏:‏ من الناس؟ فقال‏:‏ العلماء‏.‏ قيل‏:‏ فمن الملوك؟ قال‏:‏ الزهاد‏.‏ قيل‏:‏ فمن السفلة؟ قال‏:‏ الذين يأكلون الدنيا بالدين. ولم يجعل غير العالم من الناس لأن الخاصية التي يتميز بها الناس عن سائر البهائم هو العلم فالإنسان إنسان بما هو شريف لأجله وليس ذلك بقوة شخصه فإن الجمل أقوى منه ولا بعظمه فإن الفيل أعظم منه ولا بشجاعته فإن السبع أشجع منه ولا بأكله فإن الثور أوسع بطناً منه ولا ليجامع فإن أخس العصافير أقوى على السفاد (الجماع) منه بل لم يخلق إلا للعلم‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم!؟ وأي شيء فاته من أدرك العلم!؟‏ وقال الشافعي رحمة الله عليه‏:‏ من شرف اٍلعلم أن كل من نسب إليه ولو في شيء حقير فرح ومن رفع عنه حزن‏. وقال سالم بن أبي الجعد‏:‏ اشتراني مولاي بثلثمائة درهم وأعتقني فقلت بأي شيء أحترف فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائراً فلم آذن له)‏.‏ ومن روائع كلمات الغزالي قوله: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله.

وأجاد صاحب العقد الفريد إذ كتب: وقال عبد الله بن مُسلم بن قُتيبة‏:‏ من أراد أن يكون عالماً فليطلب فنًا واحداً ومن أراد أن يكون أديباً فَلْيتسع في العلوم‏.‏ وقال ابن سِيرين رحمه اللهّ تعالى‏:‏ العِلْم أكثرُ من أن يُحاط به فخُذوا من كلِّ شيء أحسنه‏.‏ وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما‏:‏ كَفَاك من عِلم الدِّين أن تَعرف مالا يسع جهلُه وكفاك من عِلم الأدب أن تَرْوِي الشاهد والمَثل قال الشاعر‏:‏

وما من كاتــب إلا ستبقى
كِتابتهُ وإن فنيت يــــــــدَاه
 
فلا تكتب بكفِّك غير شيء
يَسرّك في القِيامة أن تَراه

وقالوا‏:‏ مَن أكثر من النَّحْو حَمّقه ومن أكثر من الشعر بذَّله ومن أكثر من الفِقه شرَفه‏.‏ والفقه هو الفهم كما عرفنا. قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا يزال الرجلُ عالماً ما طَلب العِلم فإذا ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهل‏. وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّ الملائكة لتَضَع أجنحتَها لطالب العِلم رِضاً بما يَطلب وَلمِدَاد جَرت به أقلامُ العُلماء خيرٌ من دماء الشّهداء في سبيل اللّه‏.‏ وقال داود لابنه سُليمان عليهما السلام‏:‏ لُفَّ العِلْم حولَ عُنقك واكتُبه في ألواح قَلبك‏. وقال أيضاً‏:‏ اجعل العِلْم مالَكَ والأدب حِلْيتك‏.‏ وقيل لأبي عمرو بن العَلاء‏:‏ هل يَحْسُن بالشَيخ أن يتعلًم قال‏:‏ إن كان يَحسن به أن يعيش فإنه يحسن به أن يتعلم‏.‏ وقال عُرْوة بن الزُّبير رحمه اللهّ تعالى لبنيه: يا بنيَّ اطلبوا العِلم فإن تكونوا صِغار قوم لا يُحتاج إليكم، فعسى أن تكونوا كبارَ قوم آخرين لا يستغني عنكم‏.‏

وقال أحد حكماء ملوك الــهِند لأولاده‏:‏ يا بني أكثِروا من النظر في الكتب وازدادوا في كل يوم حرفاً فإن ثلاثةً لا يَستوْحشون في غُربة‏:‏ الفقِيه العالم والبَطَل الشجاع والحُلوُ اللسان الكثير مخارج الرأي‏.‏ وقال المُهَلّب لبَنِيه‏:‏ إياكم أن تجلسوا في الأسواق إلا عند زَرَّاد (صانع الدروع) أو وَرَّاق أراد الزرَّاد للحرب والدفاع ، والورَّاق للعلم‏.‏ ولكلِّ طالب لذّة مُتنزَه وألذُّ نُزهة عالمٍ في كُتْبهِ. ومَرَّ رجل بعبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر وهو جالس في المَقْبرة وبيده كتاب فقال له‏:‏ ما أَجلسك هاهنا؟ قال‏:‏ إنه لا أوْعظَ مِن قبر ولا أَمتع من كتاب‏.‏ وقال عبد اللهّ بن عبَّاس رضوان الله عليهما‏:‏ مَنْهومان لا يَشبعان‏:‏ طالِب علم وطالب دنيا‏.‏

ولكميل النِّخعيّ قصة لطيفة، حيث قال‏:‏( أخذ بيدي عليٌّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهه فخرج بي إلى ناحية الجبَّانة (المقبرة) فلما أسحر تنفّس الصُّعداء ثم قال‏:‏ يا كُميل إنّ هذه القلوب أوْعِيَة فخيْرها أوعاها فإحفظ عنِّي ما أقول لك‏:‏ الناس ثلاثة‏:‏ عالم ربَّاني ، ومتعلَّم على سبيل نَجَاة ، وهَمَج رَعَاع أَتْباع كلّ ناعق مع كلِّ ريح يَميلون لم يَسْتضيئوا بنُور العِلْم وِلم يلجئوا إلى رًكْن وَثيق‏.‏ يا كميل‏ العِلم يحْرُسك وأنت تحرُس المال والمال تُنقِصهٌ النّفقة والعِلم يزكو على الإنفاق ومَنفعة المال تزول بزواله‏.‏ يا كميل‏ محبَّة العلْم دين يُدان به يَكِسب الإنسان الطاعةَ في حياته وجَميل الأحدوثة بعد وَفاته‏.‏ والعِلم حاكم والمال محكوم عليه‏.‏ يا كميل مات خُزَّان المال وهم أحياء والعًلماء باقُون ما بَقي الدهر أعيانهمُ مَفْقودة وأمثالهم في القلوب مَوْجودة‏.‏ هاه! إنّ هاهُنا لعِلْماً جما وأشار بيده إلى صَدْره لو وَجدت له حَمَلة بلى أَجد لَقِناً غير مَأمون يستَعمل آلة الدَّين للدُّنيا ويَسْتظهر بِنعَم اللهّ على عِباده وبحُجَجه على أَوْليائه أو مُنقاداً لحملَة الحق ولا بَصِيرة له في أحنائه يَنْقدحٍ الشكّ في قَلْبه لأوَّل عارض من شبهة لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ‏"‏ أو مَنهوماً باللذّة سَلِسَ القياد للشهوة أو مُغرماً بالجمع والادخار ليسا من رُعاة الدين في شيء‏ أقربُ شبهاً بهما الأنعامُ السائمة).

وقال مُعاذ بن جَبَل‏:‏ تعلّموا العِلم فإنّ تَعَلَّمه حسنة وطَلَبه عِبَادة وبَذْلَه لأهله قُرْبة والعِلم مَنار سَبيل أهل الجنّة والأنيسُ في الوَحْشة والصاحب في الغُربة والمُحَدِّث في الخَلْوة والدًليلُ على السًرّاء والضّرّاء والزَّبن عند الإخلاء والسِّلاح على الأعداء‏. يَرْفع اللهّ به قوماً فيجعلُهم قادةً أَئمة تُقتَفى آثارهم ويقتدى بفعالهم‏.‏ والعِلم حياة القَلْب من الجهل ومِصْباح الأبصار من الظَّلمةِ وقوَّة الأبدان من الضّعف يبلغ بالعَبد مَنازلَ الأخيار والدَّرجات العُلا في الدُّنيا والآخرة الفِكْر فيه يَعدِل الصِّيامَ ومُذاكرتُه القِيامَ وبه تُوصَل الأرْحام ويُعرَف الحلال من الحرام‏.‏

وسأَل إبراهيم النَّخعيُّ عامراً الشَّعبيَّ عن مَسألة فقال‏:‏ لا أَدرِي فقال‏:‏ هذا واللّه العاِلم سُئِل عمّا لا يَدْرِي فقال‏:‏ لا أَدرِي‏.‏ وقال عبد الله بن عمرو بن العاص‏:‏ مَن سُئلَ عما لا يَدري فقال‏:‏ لا أدري فقد أَحرَزَ نِصْفَ العِلم‏.‏ وقال الخَلِيل بن أحمد‏:‏ إنك لا تَعْرف خَطأ مُعَلّمك حتى تَجْلِس عند غيره‏.‏ وقالوا‏:‏ الخَير كلُّه فيما أُكْرِهَت النفوسُ عليه‏.‏

ومما قال الإمام الرازي رحمه الله، صاحب تفسير مفاتيح الغيب، فى تفسير قصة موسى و الخضر عليهما السلام: اعلم أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعمله وعلو منصبه واستجماع موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر لطلب العلم وتواضع له.

قيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردي فقال موسى عليه السلام إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه فقال اعلم منك الخضر قال فأين أطلبه؟ قال على الساحل عند الصخرة. قال يا رب كيف لي به؟ قال تأخذ حوتاً في مكتل (زنبيل) فحيث فقدته فهو هناك فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني. فذهبا يمشيان ورقد موسى واضطرب الحوت وطفر إلى البحر فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فرجع من ذلك الموضع إلى الموضع الذي طفر الحوت فيه إلى البحر فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال فعرفه نفسه فقال يا موسى أنا على علم علمني الله لا تعلمه أنت وأنت على علم علمك الله لا أعلمه أنا. فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع على حرفها فنقر في الماء فقال الخضر ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر.

اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر. فأحدها ، أنه جعل نفسه تبعاً له لأنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ. وثانيها ، أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعاً لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع. وثالثها ، أنه قال على أن تعلمني وهذا إقرار له على نفسه بالتعلم وعلى أستاذه بالعلم. ورابعها ، أنه قال تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله وهذا أيضاً مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً في العلم لك بل أطلب منك أن تعطيني جزأً من أجزاء علمك كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأً من أجزاء ماله. وخامسها، أن قوله مِمَّا عُلّمْتَ اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم. وسادسها ، أن قوله رَشَدًا طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال. وسابعها ، أن قوله تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيهاً بإنعام الله تعالى عليك في هذا التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفاً. وثامنها ، أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير ، قوله هَلْ أَتَّبِعُكَ يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتياً بها وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض. وتاسعها ، أن قوله اتَّبَعَكَ يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء. وعاشرها ، أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولاً أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام آتياً في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد. والحادي عشر، أنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن فأثبت كونه تبعاً له أولاً ثم طلب ثانياً أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم. والثاني عشر ، أنه قال هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئاً. كأن قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم.

ولمحمود سامي البارودي شعر جميل:

بقوة ِ العلمِ تقوى شوكة ُ الأممِ
فَالْحُكْمُ في الدَّهْرِ مَنْسُوبٌ إِلَى الْقَلَمِ
 
كمْ بينَ ما تلفظُ الأسيافُ منْ علقٍ
وَبَيْنَ مَا تَنْفُثُ الأَقْلامُ مِنْ حِكَمِ
 
لَوْ أَنْصَفَ النَّاسُ كَانَ الْفَضْلُ بَيْنَهُمُ
بِقَطْرَة ٍ مِنْ مِدَادٍ، لاَ بِسَفْكِ دَمِ

وأيضا له:

قدْ يرفعُ العلمُ أقواماً وَ إنْ تربوا
وَيَخْفِضُ الْجَهْلُ أَقْوَاماً وَإِنْ خَزَنُوا
فَرُبَّ مَيْتٍ لَهُ مِنْ فَضْلِهِ نَسَمٌ
وَ ربَّ حيًّ لهُ منْ جهلهِ كفنُ
فلا تغرنكَ أشباهٌ تمرُّ بها
هَيْهَاتَ، مَا كُلُّ طِرْفٍ سابِقٌ أَرِنُ

ولإبن مشرف الأندلسي:

ومن لم يزده العلم تقوى لربه
فلم يؤته إلا لأجل شقائه

وأيضا له:

فليس بمبقى العلم كثرة كتبه
فماذا تفيد الكتب إن فقد الفهم

ولإيليا أبو ماضي:

لاح الجمالُ لذي نهــى فأحبه
ورآهُ ذو جهــلٍ فظــنَّ ورَجَّما
 
لا تطلبــن محبةً مـن جاهلٍ
المــرءُ ليس يُحبُّ حتـى يفهما

وما أجمل ما قال الإمام الشافعي:

علمي معي حـيثمــا يممت ينفعني

قلبي وعاء لـه لا بطــن صـنـدوق
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي
أو كنت في السوق كان العلم في السوق

وفى الختام، لم يترك لنا الأوائل ما نضيفه لشرف العلم الذى هو شرف وفضيلة عند كل الأمم. وكل واحد فينا عالم بما علم جاهل بما جهل. ومن علامات حب العلم حب القراءة. كما قيل حقا وصدقا ، كفى بالعلم شرفا أن يدعيه من لا يحسنه. وكفى بالجهل عيبا أن يستنكف منه من نٌسب إليه. إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، إذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإن أردتهما معا فعليك بالعلم.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى