الأربعاء ٥ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٨
بقلم محمد متبولي

شقة الأحلام

الصباح الباكر، ترتدى ملابسها، تحمل حقيبتها وتسير نحو مدرستها، طفلة لم تتجاوز العاشرة.

وقت الظهيرة، تغير ملابسها وتصعد لتساعد والدتها زوجة حارس العقار فى قضاء حوائج السكان المتعجلة، تدخل شققهم التى منعت هى وامها من دخولها الا حفاه الاقدام، لا يجلسون فيها الا على الارض، تنظر حولها الى الاثاث والمفروشات الفاخرة وتتمنى اليوم الذى ستعيش فيه فى احد هذه الشقق.

المساء، تسترجع دروسها وتقوم بأداء الواجبات المدرسية وتسنعد لبداية يوما مماثلا جديدا.

تقترب من تحقيق حلمها، تقف على أعتاب الجامعة ذلك المفتاح الذهبى الذى سيفتح لها كل الابواب المغلقة، يصدمها والدها بعدم قدرته على تحمل أعباء دراستها الجامعية ووظيفة فى أحد المحال القريبة من العقار، تضحى بجزء من حلمها بالالتحاق بأحد الكليات العلمية وتلتحق بكلية نظرية لتوفق بين العمل والدراسة، ولتكن كلية الحقوق علها تدافع عن امثالها ممن لم تكن لديهم نفس عزيمتها ومثابرتها فسحقتهم الحياة.

تتحمل نظرات الزبائن من ضعاف النفوس، تتابع أعينهم وهى تكاد تفتك بجسدها بعد ان عرته قطعة قطعة فكثيرا ما كانت تشعر بأنها تقف عارية امامهم، تتألم من داخلها وتشعر بالاهانة والابتسامة على وجهها عندما يقوم أحد الزبائن باعطاءها بقشيش، تتحمل فغايتها اوشكت على التحقق، حينها سوف تصبح مثلها مثل هؤلاء الزبائن، أو ابناء سكان العقار بل وربما تفوقت عليهم بمراحل لو اتيح لها نصف الامكانيات التى اتيحت لهم.

تحصل على شهادة التخرج، العالم سيتغير، فتفوقها وذكاءها سيسمحان لها بالعمل فى احد الشركات الكبرى، وقريبا تنتقل هى وأسرتها الى مكان جديد يصبحون فيه من السكان، ويكمل اخوتها تعليمهم دون خوف من توقفهم فى اية لحظة لقلة الحيلة، كلما تقدمت الى وظيفة حظيت باعجاب المسئولين عن التوظيف وبدت قابت قوسين او ادنى من الحصول عليها، الا ان الاجابة عن السؤال الاخير كانت كافية للاطاحة بأحلامها، ما أسم والدك ومهنته؟.

لم يعد امامها سوى التقدم للتدريب فى احد مكاتب المحاماة، مما يعنى عدم حصولها على اي راتب قبل مرور عامين هى فترة التدريب، ليبدأ التحدى من جديد، المواظبة بين المحل والمكتب والمحكمة، وتحمل نظرات الزبائن وسكان العقار والذى كان لسان حالهم يقول ليس كل من تعلم أصبح سيدا.

تمضى الايام، تمر الاعوام، يتابع كبار الماحمون مرافعاتها، يعجبون بقدرتها الفائقة فى استنباط ادلة البراءة لموكليها، تتنقل بين مكاتب كبار المحامين حنى يصبح لها مكتبها الخاص ذائع الصيت، وتنتقل الاسرة الى عقار اصبحت فيه من السكان.

كلما كسبت احد قضاياها، تترك سيارتها بجوار المكتب وتترجل حتى الشارع القديم وتقف امام العقار، تخاطبه فى سرها، عشت فيك خادمة منخفضة الرأس وأقف امامك الان سيدة تحمل أقواس النصر، لفت انتباهها ذلك الاعلان عن رغبة احد السكان ببيع شقته بأثاثها، اصبح الحلم فى متناول اليد.

تصعد لأول مرة سلالم العقار منذ أعوام، متهادية ليست مسرعة كما اعتادت، تدخل الشقة، تدوس بكعبها العالى على السجاد الفاخر، فلم يعد مفروضا عليها خلع الحذاء، تجلس متكئة على الكرسى المذهب كما لو كانت ملكة توجت توا، ولأول مرة تقف تنادى على زوجة حارس العقار لقضاء حوائجها، أجلستها بجوارها، طلبت منها ما تريد بصوت خال من العجرفة، عاملتها بأسلوب حانى لم تعتده من السكان من قبل، أعطتها المال اللازم للطلبات دون تكبر، قالت لها انها غير متعجلة، واوصتها على ضرورة استكمال تعليم صغيرها الذى كان معها مبدية استعدادها للمساعدة، وبينما غادرت زوجة حارس العقار مستغربة من طيبة وسماحة تلك السيدة، وقفت هى تسترجع ما كان والبسمة والدموع تتقاسمان وجهها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى