الأربعاء ٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
كعودة البجع إلى تلة العيد
بقلم محمد السموري

عن رحيل تركي الربيعو

كادوارد سعيد كان وهو يشتمّ رائحة الموت , يسافر في سِفر الثقافة العربية قاصداً وجه الخلود الأخضر , فيتربّع على أريكة العيد الذي لم يأت بعد , يرعى النجوم الهاربة من وجوه ( ويلاد العيد ) وهي خجلة من أياديهم السمر المرتجفة وعيونهم التي لم تغسلها أمطار كانون هذه السنة , وجدائل بُنيات ثلاث مبعثرة على تلة العيد مثواه الأخير ،القريبة من تلة عودة جنوب القامشلي مسقط رأسه ،لا يتقنّ فن القول في (المعادة ) وهذيان عراباته وهن يرددنه في حلقات الندب باسم طقوس الرقص المقدس كما ترنّمه اقانيم ِالميثيولوجيا الجزرية, وهن يعرفن أو لا يعرفن أن تلة عودة كانت تعني له الكثير غير تلك العودة الأبدية ، ومحمّد أخاهن الذي لم يتعلم لعبة (الحاح واشظيّظ راح ) ينتظر إلى ما بعد البرهة المدهشة بغربتها وغرابتها أفقا ً سرمديا لا لون له (الجرية) – كما يحلو له لفظها -عاد إليها كطائر الرخم الجزراوي الذي يحمل أفراخه بين جناحيه ويطير إلى حيث مملكة سبأ فيدخل عرش بلقيس ويغرّد أهزوجة - يا حوم اتبع لو جرّينا ،لكنّ الحوم لا يتبع لأنه يحوم على بغداد فيبتلع الأسى ويغصّ بهذه وغيرها .

ويمضي يهرول بين العواصم حاملا - بذاكرة مثقلة - تراثه المبعثر بين أقوال التغريبيين بلا جدوى حكايات العجائز،وقناعاته بالتأسيس لمنظومة تفكير عربية تستمد خصوصيتها من المكان والزمان فيتحدث بإسهاب عن خبزالتنور,والثريد, والخويتيمة والفنيجيلة التي يلعبها الصغاروالكبار في شتاءات الريف , ويتحدث عن المشكايات, والزبدة ,والخلاصة ,والحريرة,وأحيانا عن الخميعة والفتيتة , ويحفظ المزيد من أهازيج الحصاد , ويصرّعلى أنها قضايا ثقافية بامتياز يخشى عليها من الموت فيلهج بها غيرة ًعليها من الهرب إلى ما خلف التاريخ والاختباء في خزانة اللامفكر فيه , يقول معتدا ً:وهو يراجع مخطوطي الموسوم بـ اشتغالات المعنى في تجليات الأسطورة عند العرب (إن العقود الثلاثة الأخيرة في القرن المنصرم شهدت تبلور نخبة متعلمة من أبناء القبائل وكان دائما يعتقد أن البنية القبلية والعشائرية بنية تنظيمية وسياسية في آن) ولعله يؤسس لمشروع من شأنه تهذيب البنى التقليدية للقبيلة بواسطة اختراقها ثقافيا,وإن وسموه غدا بالبدوي المثقف فالعجيلي أيضا بدوي مثقف كان يتحدث في منابر باريس عن القهوة المرّة وتراتبية فناجينها للضيف والكيف والسيف ,فيقول : أن المثقفين العرب مصابون بعقدة أوديبية تجاه تراثهم، وأنهم بحالة من العصاب المرضي تجاه الغرب (الخوف من الخصاء) وخلص في هذا المقام إلى القول : (نفهم سعي الجابري إلى بناء مرجعية لمفهوم المثقف في الثقافة العربية وإلى تأصيل دوره من خلال البحث عن أصله ونسبه – يعني هويته الثقافية - وذلك بتجاوز حالة الفراغ السائدة التي تجعل من المثقف في إطار بحثها عن مرجعيته في الغرب، معلقاً في الفراغ).

ويتمنى لو يعيد ترتيب بيت العقل العربي وخزانة الفكر العربي والعروبي والإسلامي والاسلاموي، والعربسلامي ,ويستشهد بادوار سعيد الذي يكرّر القول : (فمن السهل انتقاد الإسلام والعروبة وكيل الشتائم لهما، ولكن من الصعب انتقاد الإمبريالية و”إسرائيل” وهذا ما يعجز عنه عرب الأفكار الثانية، الباحثون عن آلهة جديدة لخدمتها). فيذهب معقبا على صديقه : لم يخطر ببال سعيد وهو يصوغ ما أسماه فحولة المثقف في زمن الهزيمة ,أن العمالة الحضارية للغرب يمكن أن تصبح عمالة سياسية يبرّر من خلالها المثقف المنفي كل ما سميناها بـ “القابلية للإمبريالية”، وهذا ما يفسر تلك العدمية التي تميّز سلوك بعض المثقفين المنفيين في الغرب تجاه مجتمعاتهم. وهذا ما تشتكي منه الصحافية الأمريكية والمعلقة السياسية نعومي كلاين العائدة لتوها من العراق، الذي شبهه أحد أعضاء الكونجرس بإناء العسل الكبير الذي يجتذب أعداداً كثيرة من الذباب.

إنّ ّتركي وهو ينحت في اشتقاقات بلاغة الخطاب العربي يتجلياته القومية, والليبرالية والنهضوية، والحداثوية , قد أصدر ما يعدّه أشقاء لبنيه «أزمة الخطاب العربي التقدمي»«الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة» في العام 1992 «العنف والمقدس والجنس» في العام 1995 «خيارات المثقف» «من الطين إلى الحجر» عن المركز الثقافي العربي في العام 1997«الإسلام والغرب: بين الحاضر والمستقبل» الصادر في العام 1998 «المحاكمة والإرهاب» عن دار الريس «أزمة الخطاب التقدمي العربي في منعطف الألف الثالث» الصادر عن المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع وكتابه الإشكالي «الصوفي يهزم الفيلسوف»ويختمها بكتابه العمدة, وآخر العنقود - كما يحلو له تدليع أصغر أولاده- «الحركات الإسلامية في منظور الخطاب العربي المعاصر» فضلا عن عشرات المقالات والدراسات والبحوث المنشورة في الدوريات المختلفة في ذات مقال هاجر من العروبة إلى العروبة في مركب عبد الإله بلقزيز وكأنه يردّ سلفا من سيتقول عليه بعد موته فأعلن أن (هناك إقرار ضمني عند الداعين إلى تجديد الفكر العروبي، أن المطلوب هو إعادة الاعتبار إلى المضمون الثوري لفكرة العروبة والتي لم تكن في يوم من الأيام بدعة نخبة، بل ماهية اجتماعية وثقافية وحضارية من نسج تاريخ طاعن في القدم) وفي ساحة رياض الصلح ألقي القبض على جماعة الرابع عشر من شباط وهم يتلذذون بالحلوى السورية , بعد اكتشاف شبكة التجسس “الإسرائيلية” إقرارا على أن “إسرائيل” هي العدوالرئيسي للبنان وليست سوريا كما حاول أن يقنعنا الاتجاه الراديكالي التحريضي في لبنان.

بينما يراكض بين بيروت وعمّان غولا مرغبا كان ينحت في أحشاءه لعلة يأخذ بثأره منه بيده , وينتقم لأدوارد أيضا من هذا المقنع الذي يقتات بأكباد الكتاب الذين لا يكذبون على قرائهم , ولا ( يجعلون الفرات دبسا ً )


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى