الخميس ٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٠
بقلم فؤاد وجاني

في تدريس القرآن

قديما كانت العرب إذا أرادت تلقين صغارها الفصاحة بعثتهم في حداثة سنهم إلى المرضعة في البادية، فيفصح لسانهم، ويشتد عودهم، ويُصقلون على حب الأرض واللغة العربيتين. وقد فهمت العرب الطبيعة خير فهم، فحاكت عمل النسور بصغارها، وهزت أعشاشهم وأرغمتهم على التحليق في الفضاء، فأنى اعتادوا على الشظف مذ نعومة الأظافر لانت لهم الحياة، ومتى الرفه استساغوا والرغد ألفوا اشتد عليهم الزمن وعظمت في أعينهم أهواله.

وإن قلوبا هكذا لتقسى وتتحجر، وإن هكذا نفوسا لتتعالى وتتكبر. لكن حلول نعمة القرآن على العرب مزجت القسوة بالعاطفة، وهذبت النفس بالعقل، فالروح على الجسد طغوى، والدين على الدنيا أقوى، وتلكم نعمة لن تجدوها في عقيدة أخرى. وتحول المنهل من تلال البداوة الى سور القرآن، فارتوت القلوب حكمة من غنى الذكر الإلهي، وأثمرت العقول نضج معرفة بكنه الكون الرباني، ووعت النفوس أسرار السمو النوراني.

وهذه أمة أعزها الله بكلامه، فالتأخر يكون بدونه، ولا يتم التقدم إلا به، ولو حبت أمته حبوا على المناكب في اتباع غيره من الشيوعية أو الاشتراكية أو الديموقراطية أو العلمانية أو الليبرالية أو ما أتى قبلها وما سيأتي بعدها. فلن يقوم لأمة الإسلام عزها المفقود، ولن يؤتيها الله خيرها الموعود، ولن يصلح فسادها المشهود، ولن تبلغ مرادها المنشود إلا بالخطو في مسار القرآن الكريم المجيد.

ولنا في التأريخ أجل المواعظ وأبين المواقف، فمتى أهملت العرب القرآن، هوت لغتهم، وتفشى جورهم، وفسدت ناسهم، وعمت أمراضهم، وتفرق شملهم، وانخفضت عزتهم، وصاروا أذلاء عند أنفسهم قبل أن يذلوا لغيرهم، فالعزة كل العزة في القرآن وعلومه ولغته. ومتى هان تعليم القرآن عندهم، هانوا عند باقي الخلائق. ومتى ناؤوا عن كتاب الله، ناؤوا عن سائر العلوم والكتب. وأَنَّى باعدوا بينهم ومنبع الماء، ظلوا ظمآى الى الأبد. فأنى كانت العلوم تنمو بارتفاع العمران ونقش الجدران، وقد تعلم الأولون على الحصير وكتبوا على صفائح الحجر، وأنى قِيس التقدم باكتناز الأموال ورغد الأحوال، وحسب الأسلاف من أزودة الدنيا قرآن وآخر من تقوى، بيد أنهم ملكوا الدنيا ورفعوا راية العزة وأقسطوا ميزان العدل وأوقدوا هلال الحضارة في البحر والبر.

وإن أحصينا العلماء العرب الذين خلَّصوا الإنسانية من الجهل بعلمهم، وحسبنا الكتاب والشعراء الذين أجادوا في أدبهم، وعددنا الفلاسفة والمفكرين الذين أخرجوا الآدميين من ظلماتهم، وجدنا جلهم قد تعلموا وحفظوا القرآن في صغرهم؛ ففي تعلم القرآن نقاء لدنس النفس، ورهافة للحس، وسمو لفضاء العقل، ورحابة لكشف علوم الوجود.

وإن العرب اليوم قد تخلت عن المدارس القرآنية ظنا منها أنها تخطو خطوة الى الأمام بيد أنها خطوة رجعية الى الوراء، لأن هذه المدارس كانت وستبقى منبع اللغة والعلم والدين والأخلاق والرفعة لصغارها وكبارها.

وبعد أن كانت المدارس القرآنية تملأ الربوع وتشغل الجموع، أصبح العثور على واحدة منها كواحة في صحراء قاحلة؛ فقد انْتُزع كلام الله من المقررات الدراسية، وفُصلت المناهج القرآنية عن التربية، وفطم الصغار عن صدر العقيدة، وفي ذلكم خرق للإسلام وإرضاء للعلمانية وفصل للدين عن الحياة، وفي ذلكم شذوذ عن هوية المسلمين وإفساد لخُلق المؤمنين.

ولقد حوربت الكتاتيب واستبدلت بمعاهد أجنبية غريبة عن الدين والأوطان، لاتؤتي أُكلا ولا تثمر خيرا، فيها يلقن الطفل آداب الغرب وأخلاقه ولسانه، ويغَرب عن دينه وتراثه.
وإذا كان تعلم اللغات الأجنبية واجبا بل ضروريا في واقع عالمنا، فالأولى والأجدر تعلم اللغة الأصلية اللغة العربية لغة القرآن، فمتى خذل أهل العربية لغتهم ظلوا تابعين غير متبوعين، مستهلكين غير مبدعين. فهل غير كلام الله يتخذون مرشدا دليلا، للنهج القويم دربا وسبيلا.

وللتدريس القرآني فرصة زمنية نادرة استعصت على السلف فظفر بها الخلف؛ فنحن في عصر دقة التقنية وسرعة أدوات الإتصال حيث طرق تعليم القرآن وتعلمه أيسران وسبل نشره وتعميمه أوسعان.

لعل هكذا دعوات تجد من الحواس آذانا صاغية، أو تنزع عنها وقرة عابرة، أو تحدث فيها غيرة فاعلة، فنحن العابرون الراحلون والقرآن باق بعد زوالنا. ولعلها تسهم في بناء مدرسة قرآنية أو إدماج كتاب الله في مقرر مدرسي أو منهج منزلي أبوي لتعليم الوحي لطفل أو طفلة أو كبير أو كبيرة. والله يوفق الجميع لما يحب ويرضاه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى