السبت ٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم أسامة عبد المالك عثمان

في جدلية الإعلام واللغة

تتيح ثنائية اللغة والكلام مجالا فسيحا للاستعمالات اللغوية غير البريئة من الطابع الشخصي مهما حاول مستخدم اللغة النأي عنه، ومهما تطلَّب الموضوع المعَالجَ من موضوعية صارمة، مع الإقرار بتفوق الموضوعات ذوات الطابع الإنساني على الأخريات المندرجة في الإطار العلمي الدقيق. تلك الثنائية القائمة على اعتبار اللغة معايير نظرية، وخيارات أسلوبية، يراعيها المتكلم بوصفه مختارا واعيا لبعض تلك الأساليب دون غيرها، مع الالتزام الدائم بمعايير الصحة والسلامة اللغوية في مستوياتها جميعا.

ولا جدال في أن الحقل المعرفي الذي يتناوله المتكلم له متطلباته الأسلوبية كذلك، ولكنها ليست بحال من الأحوال آليةً، أو ملغيةً للسمات الشخصية لمنشىء الرسالة اللغوية، أو لمتلقيها أيضا.

وإذا قاربنا هذا الكلام إلى لغة الإعلام فإننا لا نلفيها بمعزل عما سبق؛ فهي حصيلة العلاقة بين اللغة والكلام من جهة، والرسالة الإعلامية والمتلقي لها من جهة أخرى؛ وتتولد سماتها من تلك التفاعلية والتبادلية بين تلك الأطراف؛ بما تشتمل عليه من ثبوتية، أو تغيُّر.

ولسنا بحاجة إلى إثبات قيمة العلاقة بين الرسالة الإعلامية؛ بأهدافها التي لعل أهمها التأثير، المفتقر _من حيث الشكل_ إلى الوضوح والإثارة، واللغة بوصفها المعياري النظري. كما لسنا مضطرين إلى الإسهاب في بيان الخيارات الأسلوبية، والمناجم اللفظية المتجددة التي تنطوي عليها اللغة العربية، بما يرفد الإعلام باحتياجاته الضرورية .

ويبقى بعد ذلك دور الإعلامي المشتبك مع اللغة، أن لا يحرم الرسالة الإعلامية من تلك الخيارات؛ فتتسع الهوة بين كلامه الفعلي بأساليبه المحدودة، واللغة النظرية ذات الثراء والتنوع. وليست تلك الإفادة الدائمة من كماليات الرسالة الإعلامية، بل إنها منها في الصميم. ذلك أن اللغة الإعلامية لا تستهدف النقل الساذج للمضامين بقدر ما تتغيا النقل الفعال الجاذب، وهنا يكتسب التجديد اللغوي والأسلوبي صفة الضروري اللازم؛ حتى لا يتورط الإعلامي في فخ الابتذال والاستهلاك والمحاكاة دون النهل من المصادر الأولى للغة والأدب؛ الأمر الذي يدخل الطرافة على مادة الرسالة الإعلامية، والدهشة إلى المتلقي؛ بما تمثله من خرق للمألوف، وانزياح عن المعتاد من الاستعمالات.

ولا أعني بذلك الجنوح باللغة والأسلوب نحو الإغراب المخل ما يهمل شواغل الإعلام من اتساع دائرة التأثير والانتشار. وهذا إن وقع فإنه دليل إضافي على القصور، وداع جديد إلى تقريب المسافة بين المشتغل بالإعلام ولغته وبلاغتها وأدبها؛ ما ينمي لديه الذائقة اللغوية الفنية التي تمكنه من تمييز الأنماط اللغوية غير المبتذلة والعصرية السائغة في آن معا.

وبمناسبة الحديث عن المفردة من حيث خصائصها في الصيانة أو الابتذال، وفي الحقيقة أو المجاز، فإن الكلمات التي ترتفع في فترة ما عن الابتذال، ليست بالضرورة بقادرة على الاحتفاظ بتلك الصفة؛ ولذلك تجد في عبارات اللغويين القدماء قولهم، عن لفظة معينة، أنها مما ابتذلتها العامة.كما تجد ابن جني، وهو القائل بكثرة المجاز في اللغة، يذكر كثيرا من المفردات والاستعمالات التي لا ننتبه إلى مجازيتها، تجده يلفت الانتباه إلى أنها كانت تستعمل مجازيا، ولكن بمرور الوقت، وكثرة الاستعمال لحقت بالحقيقة... وهذا لا يكشف سرا عن طبيعة اللغة بعامة والمفردات بخاصة في رحلتها وتطورها، وهو ما يجب أن يواكبه تطور مماثل في الخطابات التي تنشغل بالجدة والحيوية، وليس الإعلاميُّ أبعدَها عن ذلك الهاجس.

ولا يخفى أن هذا الاكتساب متوقف بعد المعايشة والتذوق على الشخصية الإنسانية وقدرتها على الاستخدام الناجح.

وهنا قد نواجه بسؤال عن مكان هذا الطرح من موضوعية الإعلام الذي لا يسمح بهامش تتيحه الإبداعات الأدبية، يتمثل في الصورة الأدبية، والاتكاء على المجاز والرمز وغير ذلك، مما تضيق أمامه اللغة الإعلامية المعنية بالمقام الأول بالدقة والتحديد، بعيدا عن العبارات المفتوحة والدلالات المحتملة.

وهذا صحيح في جانب منه، يصدق على المضامين المحددة من مثل الجوانب القانونية والاقتصادية ، وهذه لا تحتمل المجاز بالطبع، ولكنها لا تعادي التجديد في الصياغة كذلك. وفوق ذلك فإن المساحة المعرفية والاجتماعية الواسعة التي يغطيها الإعلام تتجاوز تلك المجالات الأقرب إلى الصفة العلمية، لينتقل إلى مشاهد من التحولات المجتمعية، والتقلبات المزاجية الاجتماعية، والملامح الحيوية العامة ما تستدعي اللغة غير القاطعة، وتتعانق واللغة الجمالية؛ بما تمثله من مناشط إنسانية الطابع.

بالرغم مما يقال عن اللغة الإعلامية ، أنها تميل إلى ( النمذجة والتبسيط) فإننا لا نستطيع أن نتخيل عملا إنسانيا يتصف بالجمود والآلية والنمطية التي لا تراعي طبيعة الإنسان المتطلعة دوما إلى التجديد مهما اتسع نطاقه، أو لم يتسع. إن الخطاب العادي النمطي ربما مر على المتلقي دون أن يثير فيه التفكير، وإن الصياغة اللغوية الآلية لا تعمل على إثارة مخيلة المتلقي، ولا تسهم في تكوين تصوراته عن المضمون المنقول.

ومما يؤيد صعوبة خضوع لغة الإعلام إلى الموضوعية الصارمة، كون الرسالة الإعلامية بالضرورة تحمل قدرا من الرؤية الذاتية لمنشئها، وهو بوعي، أو بلا وعي، ينحاز إلى خطاب لغوي يتسق وتلك الرؤية المحملة بنوع من المضامين. وبالتالي يحمل خطابه تأثيرات معينة على المتلقي.

ولذلك أكد (بيريلمان) الباحث البلجيكي ذو الأصل البولندي) على ربط شكل القول بمضمونه، أي ربط مظهره بمادته، وعدم الفصل بينهما.. إذ إنّ هناك أشكالاً للقول لها تأثير جمالي، من مثل (الاتساق)، أو الانسجام، و(الإيقاع)، أو الجرس وغير ذلك من الخواص الشكلية.. فهذه الأشكال تمارس تأثيراً على (الجمهور) بما تثيره فيه من (عواطف) الإعجاب، أو البهجة، أو الحزن، أو السرور، أو مما يلفت انتباهه إليه، أو تثير فكره فيه.

وليس أدل على بعد اللغة الإعلامية عن الحسم العلمي تلك التناقضات في إطلاق أوصاف " الإرهاب" أو " المقاومة" و "الاستشهادية" أو " الانتحارية" و " التطرف" أو" الاعتدال" وغيرها الكثير في حقول الاقتصاد والاجتماع والدين. وهي محكومة بتوجهات تلك الوسيلة الإعلامية وفكرها. وليس أدل على انحياز اللغة المستخدمة إلى أهداف الوسيلة الإعلامية وتوجهاتها كذلك من استخدام بعض الأساليب التي تشي بعناية خاصة بمعنى من المعاني، ومن ذلك أسلوب التكرار الذي يؤدي إلى زيادة- الحضور- ، أي جعل الموضوع حاضراً في الذهن؛ والصورة البلاغية التي تحمل المقاصد إلى الناس. وقد قامت في الآونة الأخيرة بحوث علمية لغوية تتعلق بالتراكيب النحوية وصلتها بالمجتمع، وحركيته.

وبناء على ما سبق فإن اللغة العربية بوصفها الأداة اللصيقة بالإعلام العربي، وبما تمنحه له من سمات التجدد وخصائص الجاذبية، فضلا عن الدقة والتحديد، وبما تقوم به بين عناصر الأمة وهويتها الثقافية، جديرة بمزيد من التفعيل؛ ما ينعكس إيجابا على الإعلام وعليها في وقت معا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى