الثلاثاء ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٩
بقلم عبد القادر محمد الأحمر

قرأت لكم

(العرب والنشوء والارتقاء و«دارون»)

مع من قال- وبتصرف- نقول:- (.. بأن العرب هم أول من قال بالنشوء، وأول من أرسى مباديء هذا المذهب، التي تعتبر اليوم من دعاماته الأولية، وإن اختلفت الاصطلاحات.. فهم الذين ذكروا بأن عالم الحيوان والنبات والجماد هو عالم واحد يفصل بين بعضها وبعض حدود انقلابية دقيقة، وقد مثلوا لذلك..

فقد ذكر (أخوان الصفا) في إحدى رسائلهم عن هذا (النخل) قولهم:

(.. وأما النخل فهو آخر مرتبة مما يلي الحيوانية، وذلك ان النخل نبات حيواني، لأن بعض أحواله وأفعاله مباين لأحوال النبات، وإن كان جسمه نبات)..

وقد كان هذا استدلالاً منهم على ان القوة الفاعلة فيه منفصلة عن القوة المنفعلة0 فأشخاص الذكورة فيه مباينة لأشخاص الأنوثة، وأن هنالك اشتراكاً بين الحيوانات والنباتات في بعض الصفات العامة..

كما نجد أن العلامة: (أبوعلي أحمد بن محمد بن مسكويه الخازن) المتوفي عام 421هـ قد ذكر آراءً وشروحاً بينة جلية تنم عن تبحر في هذا المذهب، فقد قال في كتابه:

(الفوز الأصغر):-

(إن أول أثر ظهر في عالمنا هذا من نحو المركز، بعد امتزاج العناصر الأولى، أثر حركة النفس في النبات، وذلك أنه تميز عن الجماد بالحركة والاغتذاء، وللنبات في قبول الأثر مراتب مختلفة لا تحصى، إلا أننا نقسمه إلى ثلاث مراتب: الأولى ، والوسطى، والأخيرة ليكون الكلام عليه أظهر، وإن لكل مرتبة من هذه المراتب غرضاً كبيراً، وبين المرتبة الأولى والوسطى مراتب كثيرة، وبهذا الترتيب يمكننا أن نشرح ما قصدنا إليه من إظهار هذا المعنى اللطيف)0
وعن هذه المرتبة ذكر ذلك النوع من النبات الذي لا يحتاج إلى بذور، ولم يحفظ نوعه ببذر، كأنواع الحشائش، وذلك لأنه في أفق الجماد، والفرق بينهما هو هذا القدر اليسير من الحركة الضعيفة في قبول أثر النفس، كما إنها اشارة إلى تلك الفطريات، أي النباتات التي تتكاثر بواسطة الخلايا الجرثومية التي يقول فيها علماء النباتات في هذا الزمان أنها قسم عظيم من أقسام العالم النباتي التي تتركب من خلية واحدة، أو جرم من الخلايا المتصلة ولا يتميز فيها الجذر من الساق او الورق..

وعن المرتبة الوسطى ذكر زيادة هذا المعنى وظهوره في الشجر الذي له ساق وورق وثمر يحفظ نوعه وغراس يضعونها حسب حاجته إليها، كالأعشاب..

وعن المرتبة الأخيرة ذكر تدرج هذا المعنى حتى انتهى إلى الشجر الكريم الذي يحتاج إلى عناية واستطابة التربة واستعذاب الماء والهواء لاعتدال مزاجها، وإلى صيانة ثمرتها التي تحفظ بها نوعها، كالزيتون والرمان والتفاح والتين.. الخ..

إلى أن قال: (وإذا انتهى إلى ذلك- أي النبات- صار في الأفق الأعلى من النبات، وصار بحيث إن زاد قبوله لهذا الأثر لم يبق له صورة النبات، وقبل حينئذ صورة (الحيوان).. وإن هذه المرتبة الأخيرة من النبات، إن كانت في شرفه، فإنها أول أفق الحيوان، وهي أدون مرتبة فيها وأخسها، وأول ما يرقى النبات في منزلته الأخيرة ويتميز به عن مرتبته الأولى هي أن ينقلع من الأرض ولا يحتاج إلى إثبات عروقه فيها بما يحصل له من التصرف بالحركة الاختيارية، وهذه المرتبة الأولى من الحيوان ضعيفة لضعف أثر الحس فيها، وإنما يظهر فيها بجهة واحدة، أعني حساً واحداً هو الحس العام الذي يقال له حس (اللمس) كما في الصدف وأنواع الحلزون الذي يوجد في شواطيء الأنهار وسواحل البحار.. ثم يصير من هذه المرتبة إلى مرتبة الحيوان الذي يحاكي الإنسان من تلقاء نفسه ويشبهه من غير تعليم كالقرود وما أشبهها، وتبلغ من ذكائها أن تستكفي من التأديب بان ترى الإنسان يعمل عملاً فتعمل مثله من غير ان تحوج الإنسان إلى تعب بها ورياضة لها، وهذه غاية أفق الحيوان التي إن تجاوزها وقبل زيادة يسيرة خرج بها من أفقه وصار في أفق الإنسان الذي يقبل العقل والتمييز والنطق والآلات التي يستعملها والصور التي تلائمها، فإذا بلغ هذه المرتبة تحرك إلى المعارف واشتاق إلى العلوم وحدثت قوى وملكات ومواهب من الله عزّ وجلّ يقتدر بها على الترقي والامعان في هذه المرتبة، كما كان ذلك في المراتب الأخرى التي ذكرناها، واول هذه المراتب من الأفق الإنساني المتصل بآخر ذلك الأفق الحيواني، مراتب الناس الذين يسكنون في أقاصي المعمورة من الأمم التي لا تتميز عن القرود إلا بمرتبة يسيرة، ثم تتزايد فيهم قوة التمييز والفهم إلى أن يصيروا أواسط الأقاليم فيحدث فيهم الذكاء وسرعة الفهم والقبول للفضائل، وإلى هذا الموضع ينتهي فعل الطبيعة التي وكّلها الله عزّ وجلّ بالمحسوسات).

وكذلك نجد أن (ابن خلدون) قد ذكر في مقدمته في (تفسير حقيقة النبوة) شرحاً تسلسلياً لبعض الأحياء من بعض، بقوله:

(ثم انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدرج، آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، مثل الحشائش، وما لا بذر له، وآخر أفق النبات مثل (النخل) و (الكرم) متصل بأول أفق الحيوان مثل الحلزون والصدف، ولم يوجد لهما إلا قوة (اللمس) فقط.. ومعنى الاتصال في هذه المكونات إن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد الغريب القريب لأن يصير أول أفق الذي بعده، واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى التدرج إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والادراك، ولم ينته إلى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك اول أفق من الإنسان بعده، وهذا غاية منشودنا).

هذا وقد وجد الباحثون اليوم- كما جاء في مقدمة كتاب (أصل الأنواع) للأستاذ اسماعيل مظهر- أن هنالك صلة وثيقة بين علم الإنسان القديم وبين علم الحيوان القديم (الحفريات، والتشريح، والأجنة)، ولدراسة هذا التاريخ ذكروا بأنه لا مفر من التعرض لنظرية (التطور)، آمنا بها أم لم نؤمن، بل قالوا يجب أن يستقر في أذهاننا أن ظهور الأحياء على سطح الأرض سار على درجات من البسيط إلى المعقد، ومن المنحط إلى الراقي ، وقالوا بأنه لا علاقة للقرد الذي يضرب به المثل في البشاعة الخلقية بهذا الإنسان الذي يعز عليه أن يعترف بأنه منحدر من حيوان أحط منه، بل إنه لينفر حتى من فكرة القرابة التي ربطوها بينهما، بالرغم من أن القرد من الحيوانات الذكية ذات السعة في الحيلة والمقدرة على محاكاة الإنسان حتى في سلوكياته الخاصة، لهذا اعترفوا بأن دراسة هذا التاريخ البشري المعقدة تحتاج إلى تعاون عدة علوم وتضافر عدد كبير من العلماء، فكون الإنسان منحدراً من حيوان احط منه، فهذا قول- كما ذكروا- لم يقل به (دارون) ولا غيره من الراسخين في فهم نظرية التطور، ذلك لأن بحث دارون قد اقتصر على ناحية واحدة من ناحيتيْ الإنسان وهي تلك التي تعود بأصله (العضوي) إلى عالم الحيوان، وأغفل ناحية (النفس) حيث أنه لم ينفها ولم يثبتها وأثبت أن الإنسان بجسده حيوان!!..

وأضافوا بأن علم التشريح يقول بأن كل عظام هيكل الإنسان، وكذلك عضلاته وأعصابه وأوعيته الدموية وامعاؤه بل والدماغ المركب من شقيْ المخ والرنح والمخيخ وبداية النخاع المستطيل- وهي أهم الأعضاء جميعاً- كلها لها مثيلاتها في القرد أو (السعدان) أو (الخفاش) وهو القالب الذي انصبت فيه جميع ذوات الثدي، بل إن انتقال بعض الأمراض من الحيوان إلى الإنسان ليدل- كما ذكروا- على المشابهة بين الأنسجة و (الدم)!! سواء في التكوين أم التركيب، وعلى الاستعداد الفيزيولوجي كذلك، وإن ما بين أجنة الإنسان وأجنة غيره من ذوات الثدي من أوجه المشابهات ما لا يمكن اغفاله، فقد قال أحد المشرحين: (إن تلافيف الدماغ في الجنين البشري عندما يبلغ الشهر السابع من العمر يكون مماثلاً من حيث النماء والتكوين لدماغ (الجيبون) وهو نوع من القردة عند البلوغ!!!

كذلك نجد أن دارون قد تطرق إلى تلك الأعضاء (الأثرية) في الإنسان، بمعنى أن هذه الأعضاء كان لها منفعة خاصة في أسلافها ثم قلَّت الحاجة إليها فأغفل استعمالها حتى ضمرت وتعطلت وظائفها، بينما هي لا تزال ذات نفع للحيوانات التي تملك مثل هذه الأعضاء، ففي جسم الإنسان- كما قال- عضلات مشابهة لتلك التي يطرد بها الحصان أو الحمار الهوام عن جلده بحركات تموجية مثل عضلات الجبهة، وكذلك تلك العضلات السطحية التي تكون تحت فروة الرأس، وتلك العضلات المحركة للأذن، فمن أين تكون في الإنسان إن لم تكن آتية إليه بالوراثة من أسلافه الذين كانوا في حاجة إليها وكانت ذات فائدة لهم في مدرج ما من مدارج النشوء العضوي!!!

لقد انتهى دارون- كما قالوا- من أمر هذا الجسد فأثبت أنه جسد حيوان (أرقى) من غيره، أما النفس، أما الروح، أما الغيب، فتلك أمور لم ولن يتطرق إليها بأي شيء من التفصيل، سوى أنه- كما علمنا- كان مؤمناً بالخالق، لهذا عُدَّ مذهبه هذا انتصاراً للمادية الصرفة- وليس للروحية الصرفة- كما أنه- كما قالوا أيضاً- لم يكن انتصاراً حاسماً أو قاطعاً ، إذ أنه لم يتجاوز التفسير لبعض الوجوه من خصيات المادة، تناول منه ناحية المادة الحية التي دبت فيها حياة (الروح الطبيعي)، أما المادة التي دبت فيها حياة (الروح الإلهي) فهذا ما لم يذكره دارون! لهذا صار في تقديراتنا من الذين: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم/ 7) ونقول كما قالوا بأنه لم يكن مخطئاً حينما كشف عن وجود قانون النشوء والارتقاء، لكنه لم يسبق القرآن في ذلك، إذ أن القرآن نبه إلى وجود مثل هذا القانون في كثير من آياته، يكفينا منها: (مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً) (نوح/12-13).. والضمير في (خلقكم)- كما نرى- شامل لجميع الأحياء0 والله اعلم

(العرب والنشوء والارتقاء و«دارون»)

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى