الخميس ٦ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم حسين عتروس

قراءة في قصيدة (جميلة) تصلي لشوقي بغدادي

الفصل الأول: مشاهد

المشهد الأول: الشهود

في بداية القصيدة وفي مطلعها نقرأ مقطعا يكاد يعاد بأكمله في المقطع الأخير ففي أولها نقرأه هكذا:

"تنظر من شباكها الصغير
في سجنها المملِّ
كأنها تصلي
وقلبها الكبير
يدق مثل ساعة ضخمه
تعيد في تكرارها كلمه
ترن في عالمنا الملتاع
يا إخوتي الوداع
الوداع... الوداع"

وفي آخر مقطع من القصيدة نقرأ

"جميلة تصلي
في سجنها المملِّ
وقلبها الكبيرْ
يدق مثل ساعة ضخمه
تعيد في تكرارها كلْمه
ترن في عالمنا وتصدحُ
يا إخوتي افرحوا…"

المقطعان – تقريبا – بنفس الكلمات، ولكن ليس بنفس الروح، فإذا كانت نهاية المقطع الأول "الوداع" فإن نهايته في الأخير "إفرحوا"، فالكلْمتان من جميلة تخاطب بهما أحبتها ورفاقها...

وإذا كانت في المقطع الأول "كأنها تصلي" فإنها في الأخير "تصلي"...

وإذا كان البيت من المقطع الأول جاء:"ترن في عالمنا الملتاع" والعالم جاء موصوفا باللوعة فإنه في الأخير جاء: "ترن في عالمنا وتصدح" فالعالم جاء مرصوصا بين كلمتين خفيفتين من إعلان البهجة والفرح وهما "ترن" و"تصدح" وهما صوتا النشيد والطيور...

هنا يمكننا أن نقول: أن القصيدة رافقت جميلة في سجنها وعايشتها محنتها ورحلتها الصوفية...

فهي إذ كانت تطل من شباكها الصغير، وهو حال ممل ومضجر للأحرار، لكن هذا الشباك الصغير من المقطع الأول يختفي في المقطع الأخير، لأن الترقي قد تمَّ والإنفتاح على العالم بالبصيرة قد حدث، فالرؤيا تبدلت إذ كانت بصرية وأصبحت في الأخير بصيرية...

فقد كانت دقات القلب مثل ساعة ضخمه، دقات أسى على فراق الإخوان وهجر الرفاق في المقطع الأولِ، لتصير في الأخير دقات قلب مملوء بالفرح والبهجة.

وقلبها الطاهر لم يعرف في تلك اللحظات إلاّ نوعين من الدقات، دقات الشوق للإخوان والأسى على فراقهم، وفي الأخير دقات الفرح، وبين هذين لم تعرف دقةً للخوف ولا للندم...

في مقام مقطعها الأخير جميلة في عالمها المستور والروحي فرحة... فقد تحققت لها الرؤيا وتمت المكاشفة، ولكن هل هي رؤيا الشهادة "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتا بل أحياء عند ربهم يرزقون، فرحين بما آتاهم الله من فضله... " [1] أم هي رؤيا كفلق الفجر أن الشمس ساطعة وأن النصر لقريب "أليس الصبح بقريب" [2].

ومهما يكن هذه أو تلك أو هما معا، فإن المكاشفة قد تمت، وبعد الوقوف على الباب قد أذن لها بالدخول في عالم الملكوت المستور...

ولكنها جميلة هل ترضى بأن تعيش لحظات الفرح وحدها وهي التي نذرت نفسها للوطن والأمة كلا ّ" يا ليت قومي يعلمون" [3] "يا إخوتي افرحوا... يا إخوتي افرحوا".

والسجن في كلا المقطعين موصوف بأنه "ممل" وهو إحساس الحر الذي ألف الحرية، ولكنه لا يكسر عزيمتها ولا يقهر إرادتها في التحرر والنضال وولكنه مضجر مهما كان...

ولكن هذا المكوث به رغم أنف الحرة سرعان ما يتبدل في رحلتها الروحية، فهي ترقت من " كأنها تصلي" إلى منازل الصديقين " تصلي" وبذلك قهرت غربتها به ولوعتها على إخوانها... فكان النداء من وهج المكاشفة ونور الترقي"يا إخوتي افرحوا يا إخوتي افرحوا".

استطاعت القصيدة بهذا الحلول التام مع جميلة والترقي معها في مقامات العاشقين والثائرين أن تُبْدل كلمة "الملتاع" وتحذفها لتترك المكان لـ "تصدح" و "ترن"... فالحقيقة قد تبرجت في زوايا سجنها الممل ورُفعت الأستار وأشرقت أنوار الحق " عرفت في عذابك الحقيقه".

فهي ليست مهزومة ولا خاسرة حتى يأسى عليها الناس، إذن هو الصدح الذي أرادت أن تعلنه في تحليقها مع الطيور صوتا سماويا ونشيدا مطلقا...

المشهد الثاني: العار

ويتكون من المقطع الثالث والرابع، وهما مقطع واحد في نظري لأن الرابع تداع لكلمة "الجبين" التي ختمت المقطع الثالث، حتى أنّا نجد سند هذا التداعي يعاد في الرابع "لو مت يا جميله".

فالعار هو الكلمة التي تشكل نقطة المحور في هذا المشهد، وتدور حوله ثلاث كلمات:

- الأرض: ويتجلى منها الجبال والماء
- التاريخ:
- والجبين:
العار: "فكيف يستطيع أن يحدق الرجال
بعضهم في أعين بعض"
العار: "و أن كل عين
ستغرق في العار الذي نزل
وتطبق الأجفان من خجل"
العار: "كيف تُرى سنمسح العار عن الجبين"

العار: هذه الكلمة المحملة في ضمير كل عربي بتاريخ من الإباء والشرف والرفض للذل... فالعربي أهون عليه ذوق كأس الموت وخوض غمارها من أن يجرع كأس الذل والعار... أهون عليه من أن يصاب في عرضه أو شرفه أو أرضه، وهي حين تمس يتلطخ الجبين بوصمة العار الذي تجرُّعه أمرُّ من الموت بل الموت أحلى وأزكى حين يحل العار...

العار: هو السبة التي يأباها كل عربي... هذه الكلمة في خطاب العرب أقرب إلى العِرْض، فالعار عرض مثلوم كما أن العار عرض حذفت ضاده...

والعار قريب من "عارٍ" من العري الذي يكشف سوءة المرء... فعند العربي العار عريٌ الموت أهون منه، لكن العار هنا هو موت جميلة...

جميلة المرأة العربية الأبية التي ثارت ضد المحتل، ولكنها وقعت بين يديه ليمارس عليها صنوف قذاراته وأشكال المهانة... وليحكم عليها بعد أن عجز عن إذلالها بالإعدامِ أمام مرأى كل العرب... لو ماتت فلن نتخلص من هذا العار وسيبقى سكينا مغروسا في قلب الضمير العربي ليظل جرحا ينزف تأنيبا أبديا...

الأرض: أمّا لماذا الأرض في هذه الأجواء فلأنها ثورة الأرض... وأما لماذا لا تتجلى إلاّ في ثلاث: الماء والجبال والبركان، فلأن الجبال هي موطن الثورة وحضنها الحاضن حتى صارت علما عليها... وأما الماء فهو الرمز للحلم الآمن في نسق الطبيعة الهادئة، وهو الرمز للحياة التي قتلها العدو... حتى إذا ماتت جميلة وتلطخت الأرض بعارها فإن التناساق الذي كان على الأرض بين عناصرها سيختل ويعلن رفضه... ويتبدل هدوء الكون إلى بركان يحرق ما حوله ويدمره...

حتى الشمس من نظام أرضنا تُذْكر في عَرض من الكسوف يحجبها بروز آخر من وهج الشهيدة، يشع بأشعة حارقة من التأنيب اللاهب...

حينها فإن الجبين المرفوع عبر قرون العز سيوصمُ بوصمة العار التي تجعله لا يجرؤ على رفع رأسه، وهو الذي ألف الإباء...

"كيف ترى سنمسح العار عن الجبين
وكيف سنكتب التاريخ
وأنتِ في جبيننا علامة"
فالعار صار إسمه جميلة
"وأن كل عين
ستغرق في العار الذي نزل
وتطبق الأجفان من خجل"

لو ماتت جميلة سيلطخ موتها بالعار جبين التاريخ ولن نجرأ على فتحه وقراءته...

"لو مت يا جميله
فما الذي يقال
غدا إلى الأجيال
كيف سنكتب التاريخ
وأنتِ في جبيننا علامه"

فالعار هنا في موت جميلة يُغرق الأرض والتاريخ والضمير العربي والعالم، والقرن العشرين في لطخة من العار.

المشهد الثالث البركان

هنا تدخل القصيدة في حالة من التأزم والصراع والاحتدام. ويشحن هذا المشهد داخل هذه الكلمات: الاحتدام/ الدم/ المجنون/ الصراع/ الجلاد...

هنا كأنه امتداد للمقطع الذي قبله وبيان لمعنى البركان...

فإن الجبال التي في تناسقها مع العين تجري بالسيل، فإنها بعد اغتيال جميلة ستصير مغمورة بالنساء والرجال، يواصلون ثورتهم أكثر غضبا وأشد حنقا، وأكثر إيمانا بضعف عدوهم وأنه أول انتصار يكون مشحونا بالغضب والإيمان والثورة...

فلو أن العدو تزمت وأصر وأعدم جميلة - "فأنشب الأظفار واحتدم/ يأكل لحما ويعبُّ دم"-، دمَ جميلة المرأة المعزولة... سيقابله استهزاء منها له لأنه انتصار لها وبيان على ضعف العدو... "فأنت يا صديقه/ عرفت في عذابك الحقيقة/ وأنه أضعف ما يكون جلادكِ المجنون".

وسيقابله إباء واستمرار "ففي ذرى الجبال/ يزدحم النساء والرجال/ وفي المدائن الكبرى وفي الضياع/ وملء هذا العالم الملتاع/ كي يقسموا في ساعة الوداع/ رغم الأسى والحزن واللياع/ أن يجهدوا أكثر كي يتابعوا الصراع".

الفصل الثاني: قراءات

1- قراءة في الأبيات المفردة

وهي أبيات وردت دون أن يكون لها تابع في القافية أو سابق، فكل الأبيات جاءت تتناغم أزواجا وأكثر في حركة القافية إلاّ هذه التي شذّت عن ذلك وهي حسب ورودها في النص كالتالي:

عيونها
كيف ترى سنكتب التاريخ
والذكريات
جميلتي
وقلبها الكبير

خمس أبيات شذت عن ذلك التناغم والتزاوج يفصل كل واحد منها عدة أبيات.

هذه الأبيات تشبه قطع الآثار التي يعثر عليها المهتمون بعلم الآثار، يريدون من خلالها الكشف عن زخمٍ من حياة أولائك البائدين... وأنها ربما الأهم في عين الأرض والزمن... هذه القطع من داخل القصيدة تحيلنا على خيال رحب نجول به عوالم مسكوتا عنها...

"عيونها": عيون من، ومن هذه الفتاة التي انمحت كل دلالاتها إلاّ "عيونها" تحملق بها منصوبةً دون معرفة السبب الذي جعلها ترد هكذا ومضافة إلى ضمير الغائبة... هنا وكأن عيونها شاهد نور على ذلك الانطفاء القاتم، فهي والنجوم شهود على ظلام حالك.

"كيف ترى سنكتب التاريخ": هنا استفهام غرضه التوبيخ... هنا يتفجر النص على معنى آخر وهو أن هذه المرأة لها علاقة بالتاريخ، وأنها ستدخله وتبقى ترصدنا من داخله بأشعة حارقة من الخزي والعار...

"والذكريات": وكأننا ما زلنا أمام هذا الوخز الذي ستمارسه الذكريات من داخل التاريخ حول هذه المرأة المنطمسة المعالم إلاّ "عيونها"...

"جميلتي": هنا التصريح بالاسم مضافا إلى ياء المتكلم ليدل على تلك الرابطة القوية التي ربطت المتكلم بهذه الجميلة... ولكن هل جميلة هو ذاك الوصف الذي يطلق من سحر العشق ثم يأتي من باب الدلال منسوبا إلى ياء العاشق... ربما...

لكن ورود كلمة التاريخ والكتابة، تدل على أنها من باب الخطْب، وأنه يتعلق بأمة أو بالأحرى بامرأة تحمل هموم أمة، وهذا ما يؤكد أن جميلة علم على هذه المرأة، وفي نفس الوقت هو لا ينفي تلك الحميمية في تلك الإضافة أو على الأقل ذالك الشعور بالإعجاب الذي هو الحب الذي ترقى من الإعجاب إلى درجة رفيعة من العشق العذري...

"وقلبها الكبير": هنا نعرف أنها امرأة اسمها جميلة ولها قلب كبير، ولكن الجملة غير منتهية، فهي إما مسبوقة أو متبوعة...

فالمرأة اسمها جميلة من اللائي سيدخلن التاريخ، وجاءت بأوصاف، أن لها عيون منصوبة ولها قلب كبير وأن المتحدث ينتسب إلى قوم جميلة نفسهم، وأنه عشقها حد التصوف... وأن عيونها المنتصبة ستظل تؤرقه بوخز...

ولكنها ذات قلب كبير سيعفو عنهم ويمنحهم ما يمنح كل صاحب قلب كبير...

إذن هناك امرأة انطمست كل معالمها ولم يبق منها غير عيونها وقلبها الموصوف بالكبير، واسمها جميلة، وهناك الذكريات والتاريخ...

فحركة النص تدور حول هذه الكلمات التي نقطة المحور فيها التاريخ، والحركة فيها غير منتظمة ولا متجانسة، فهي متغيرة ومتعددة تستمد هذه الحركة اندفاعها من سؤال"كيف" (كيف سنكتب التاريخ)... وهذا التغير يمر عبر كل الممكن الذي تطرحه معادلة جميلة والتاريخ...

2- قراءة في نظام القافية
نظام القافية في القصيدة منتظم، ويخضع بشكل كبير لعملية التداعي، فنجد أن القافية متنوعة الروي ونظامها نظام البيت فصاعدا لتتنوع حسب التداعي ونظام السياق اللغوي الذي تسير فيه القصيدة، وجلّ هذه القافية مقيدة تنتهي بساكنين، ساكن صامت قبله ساكن صائت، وهي ما يعرف بالمترادف...

وهذا لأن القصيدة تدخل في عالم مملوء بالرهبة والحزن منذ بدايتها ولا نكاد نجد القافية مغايرة لهذا النظام إلاّ في المواضع التالية:

أ‌- الموضع الأول:

"في سجنها المملِّ/ كأنها تصلي" من المقطع الثاني من القصيدة.

"جميلتي تصلي / في سجنها المملِّ" من المقطع الأخير.

فالقافية هنا من المتواتر، حركة/ سكون، حركة سكون. فحركية هاذين هي حركية النشيد لأن المقام هنا هو مقام ترقٍ روحي وعروج لعوالم الشهود، فكأنه من نشيد السماء...

ب‌- الموضع الثاني: من بداية المقطع الخامس.

"لو صار يا صديقتي ولم / يقدّر الوحش مدى الألم/ فأنشب الأظفار واحتدم/ يأكل لحما ويعب دم /فلن تكوني أبدا وحيده/ ولن تضيع هذه القصيدة".

فالأربع الأولى من المتدارك، والثّنْتان بعدهم من المتواتر... فالقافية هنا قوية عند الدال والميم وهي دمدمة تعبّر عن التأزم الذي دخلت فيه القصيدة، وبيانٌ أن الصراع بعدها سيكون قويا... تبدأ القافية هنا بالخروج عن النظام المعروف فتبدأ بـ "ولمْ/ ألمْ" لتصّعد إلى "تدمْ/ بدمْ"... ثم تتلى بقافية لها هاء جميلة ودال الدمدمة "حيده/ صيده"، فيتم القران بين الدال والهاء كما سيتم بين الغضب والثورة، وهو موت جميلة... أما المواضع الأخرى فلا تكاد تكون إلاّ تداعٍ يقتضيه السياق مثل: "فأنت يا صديقة/ عرفت في عذابك الحقيقة"، أو "يدق مثل ساعة ضخمه/ تعيد في تكرارها كلمه".

لكن الملاحظ هنا أن الهاء التي تتنسم من عبيرها جميلة تظل مقترنة بهذا التداعي والجمال اللغوي...

3- تفاعيل الأبيات وحركة التفعيلة:

أقدر الوزن هنا من الرجز والتفعيلة الأساسية هي " مستفعلن".

تتجلى مستفعلن في مظاهر:
فَعِلَتُنْ: بعد أن وقع عليها الخبن (متَفْعِلن)
مُفْتغلنْ: بعد أن وقع عليها الطي (مسْتَعِلن)
مفاعلن: بعد أن وقع عليها الخبل (متَفْعلن)
فاعلاتن بعد أن وقع عليها القطع (مسْتَعِلن)

هذا مع الملاحظة أن هناك زيادة وقعت في أواخر أغلب الأبيات نقدرها كالتالي – على اعتبار أن البت من الرجز المقطوع الضرب - فعولن، واجتمع فيها القطع والخبن، بقطع الوتد المجموع وذلك بنزع ساكنه وتسكين ما قبله وخبن السبب بنزع ثاني ساكنه من أول التفعيلة فعو، وقد اجتمع فيها الحذف والخبن، وذلك بنزع الوتد المجموع كاملا ثم خبن السبب من أول التفعيلة فعولْ: وأعتقد أنه نفس التغيّر الذي وقع على "فعو" مع زيادة ساكن.

وكل هذا واقع في أواخر الأبيات ماعدا ما حدث في البيت الثامن والسبعون "وفي المدائن الكبرى وفي الضياعْ"

"فعو/ مفاعلن/ مستفعلن/ فعولْ"

فإن الزيادة هنا وقعت في أول البيت وفي آخره، إلاّ إذا قدرنا "فعو" من أول البيت و"فعول" من آخر البيت تفعيلة واحدة "فعوفعول" = "مفاعلان"...

وعلى هذا يمكننا أن نقول أنها وقعت في قدر الانشطار لترص رصا عنيفا المدائن الكبرى والضياع في منطق الانفجار الثوري المتوحد والمتراص...

وهنا وكأنا "مفا" تدفع بقوةٍ كبرى ما بعدها إلى "علان" ليقع الرص الموحد لما بينها ويفصل المسافات ما بين التفاعيل ليقع قدر التوحد والاختزال في تفعيلة واحدة كما تتوحد على فعل الثورة المدن والضياع... ويكون البركان عنيفا كما هو في المدائنِ هو في الضياع... على نسق واحد ووزن واحد...

 أما إذا قدرنا كلمة الكبرى زائدة مطبعيا أو أثناء الكتابة والنقل، وعليه يصير البيت "وفي المدائن وفي الضياعْ" والوزن فيها مستقيم على الرجز "مفاعلن/ فَعِلَتُنْ/ فعولْ"...

القصيدة كما وردت في إحدِى أعداد مجلة الثقافة الجزائرية التي تصدر عن وزارة الثقافة وأعتقد أنها توقفت عن الصدور، أما عن العدد الذي وردت به القصيدة فقد ضاعت مني ولم يبقَ لي إلاّ نسخة طبق الأصل سأعيد كتابتها كما وردت هناك، مع العلم أن القصيدة كتبت بالمجلة بخط اليد لا بحرف الطباعة.

القصيدة

جميلة تصلي

الفرحُ الكبير يا جميله
يشوبهُ الإعياءْ
وعندما يخيّم المساءْ
تجهشُ بالبكاءْ
أختي التي تحلم بالبطولة
وتقرأُ الأخبارَ عن جميله
 
* * *
 
وفي مدينتي
يفكّرون يا صديقتي
بهذه التي
تنظر من شبّاكها الصغيرْ
في سجنها المملِّ
كأنها تصلي
وقلبها الكبيرْ
يدقُّ مثل ساعةٍ ضخمه
تعيد في تكرارها كِلْمه
ترنّ في عالمنا الملتاعْ
يا إخوتي الوداعْ
الوداعْ... الوداعْ...
 
* * *
 
لو مُتِّ يا جميله
فكيف يستطيع أن يحدق الرجالْ
بعضهمُ في أعين البعضِ
وكيف يا رائدة الجبالْ
سينبعُ الماءُ من الأرضِ
لو متِّ يا جميله
فكيف سوف نستحقُ
بعدُ أن نعيشْ
ومن ترى سيمنع البركانَ أن يجيشْ
والشمسَ أن تُحجبَ باليدينْ
عيونهَا
وأن كل عينْ
تَغْرُق في العار الذي نزلْ
وتطبق الأجفان من خجلْ
لو متِّ يا جميله
فما الذي يقالْ
غدا إلى الأجيالْ
كيف ترى سنكتب التاريخْ
وأنتِ في جبيننا علامة
وفي غياباتِ القلوبِ صرخة الظلامة
لو صار يا جميله
كيف ترى سنمسح العار عن الجبينْ
ونقتل الإثم الذي استقرّ كالجنينْ
والذكرياتْ
والذكرياتُ السودُ بعد حينْ
تدقُّ جدران ضميرِ العالم الحزينْ
 
* * *
 
منِ المدين يا جميلتي
من المدينْ؟
لو تعرفين
ليس همُ الذينْ
ينتصبون عند باب السجن حاقدينْ
ويشحذون في ظلام ليلكِ السّكينْ
لا.. لا أُدينُ هؤلاء وحدهمْ
لا... لا أُدينْ
لو مُتِّ يا جميلتي فكلّنا مدينْ
ولطخة الجبينْ
سوف تغطّي قرننا العشرينْ
 
* * *
 
لو صار يا صديقتي, لو صارْ
وانقطعتْ من سجنكِ الأخبارْ
ولم يفد ما صنع الأحرارْ
ولا أغاني الشوق والأشعارْ
لو صار يا صديقتي ولمْ
يقدّرِ الوحشُ مدى الألمْ
فأنشب الأظفارَ واحتدمْ
يأكلُ لحما، ويعبُّ دمْ
فلن تكوني أبدا وحيده
ولن تضيع هذه القصيدة
ولن يقال إنها أيامْ
وعبثا لن ينفع الكلامْ
فأنتِ يا صديقه
عرفتِ في عذابكِ الحقيقة
وأنهُ أضعف ما يكون
جلاّدكِ المحيّرُ المجنونْ
يخبط في غياهبِ السجونْ
بوجههِ الممتعقِ العيونْ
وأنهم لو رفعوا الأسوارْ
وكتموا من دونكِ الأخبارْ
ففي ذرى الجبالْ
يزدحمُ النساءُ والرجالْ
وفي المدائنِ الكبرى وفي الضياعْ
وملء هذا العالم الملتاعْ
كي يقسموا في ساعة الوداعْ
رغم الأسى
والحزنِ
واللياعْ
أن يجهدوا أكثرَ كي يتابعوا الصراعْ
 
* * *
 
جميلتي تصلي
في سجنها المملِّ
وقلبها الكبيرْ
يدقُّ مثل ساعةٍ ضخمه
تعيد في تكرارها كِلْمه
ترنُّ في عالمنا وتصدحُ
يا إخوتي افرحوا...
يا إخوتي افرحوا

شعر: شوقي بغدادي - 1958

جميلة بوحريد: مجاهدة جزائرية كان قد حكم عليها المستعمر الفرنسي إبان الثورة التحريرية الجزائرية بالإعدام وقد أحدث ذلك انتفاضة كبرى داخل الشارع العربي وقد خلدها حينها كثير من الشعراء وكنا في القراءة السابقة قد تعرضنا بالقراءة لقصيدة صالح خرفي" لن تموتي يا جميلة ".

شوقي بغدادي: شاعر سوري من مواليد بانياس بسوريا سنة 1928 له عدة دواوين شعرية مطبوعة ورئيس تحرير مجلة الموقف الأدبي التابعة لاتحاد الكتاب العرب. المرجع: موقع اتحاد الكتاب العرب. http://www. awu-dam. org/dalil/02ba/dlil027. htm


[1سورة آل عمران الآية 169-170

[2سورة هود الآية 81

[3سورة يس الآية 26


مشاركة منتدى

  • بعد التحية، أطرح سؤالا أرجو أن أجد له جوابا: ما علاقة هذه القصيدة بهذين البيتين:
    أواه ! كم نزفت يا حلوتي !
    وظلت في شبابك الرّابي...
    جزائري ! يا جذع زيتونة
    صامدة في وجه حطاب !...
    وما موقعهما في كتابات شوقي البغدادي (المرجع)؟
    مع الشكر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى