الجمعة ٢٤ نيسان (أبريل) ٢٠٠٩
بقلم عادل الأسطة

قراءة في قصيدة تميم البرغوثي

في القدس

يتناص عنوان القصيدة تناصاً تطابقياً مع قصيدة لمحمود درويش عنوانها (في القدس) وردت في ديوانه (لا تعتذر عما فعلت)، وقد كتبها الأخير على تفعيلة البحر الكامل مُتَفاعلن التي تتحول إلى مُتْفاعلن. أما قصيدة تميم التي زاوج فيها بين الشكلين: التقليدي والتفعيلة، فقد نظم العمودي منها على البحر الطويل: فعولن مفاعيلن، فيما كتب سطر التفعيلة على وزن البحر الكامل: متفاعلن. ومكون العنوان مكون مكاني، فالمكان هو محور القصيدة وموضوعها، وعليه يتمحور هم الشاعر.

المناسبة: وسؤال السلالة

كتب درويش قصيدته بعد زيارة المدينة وعبر فيها عن شعوره الذي انتابه، عن فرحه الكبير، عن نسيانه كل شيء، وأثار أسئلة عن الحروب التي يخوضها أصحاب الديانات من أجل حجر عتيق، وأتى في نهايتها على سؤال شرطية له: ألم أقتلك؟ وكتب تميم قصيدته أيضاً إثر زيارة للمدينة، فأتى فيها عما في القدس، على الناس وعلى الحجر والتاريخ، وعلى الشرطي أيضاً.

وتذكر قصيدة تميم قارئ أشعار أبيه مريد البرغوثي يقصائد عديدة له – أي للأب، منها، على سبيل المثال لا الحصر، قصيدة (طال الشتات) التي برز فيها أيضاً شكلا القصيدتين: العمودي والتفعيلة، وقد كتبها مريد بعد حرب العام 1982. هذا الشبل تميم ابن ذاك الأسد مريد، ويذكر هذا قارئ الشعر العربي القديم بزهير بن أبي سلمى وابنه كعب.

بنية القصيدة:

لا أدري إن كان تميم هو الذي أبرز القصيدة شكلاً كما ظهرت في طبعة ديوانه " في القدس " الصادر العام الماضي في رام الله دون ناشر ودون كتابة تاريخ الإصدار ومكانه، وإن أشار إلى أن الحقوق للمؤلف، لا أدري إن كان تميم هو الذي أبرز القصيدة شكلاً كما ظهرت عليه.

كما ذكرت، ابتداء، فقد زاوج تميم بين الشكلين: التقليدي وقصيدة التفعيلة. الجزء الأول منها تقليدي، موزون ومقفى، فيما بقية الأجزاء تدرج ضمن قصيدة التفعيلة. وإذا ما حاول المرء تقسيم القصيدة اعتماداً على قراءة بصرية قسمها إلى خمسة عشر مقطعاً، ذلك أن صورتها في الديوان تقول هذا، فبين كل مقطع ومقطع فراغ بارز تختلف مساحته عن الفراغ بين سطر وسطر. هل قصد تميم هذا؟

وتتكرر شبه الجملة (في القدس) اثنتين وعشرين مرة، وغالباً ما يستخدمها في بداية كل مقطع، ولكن هذا ليس قاعدة، فقد يستخدمها في المقطع الواحد غير مرة، وقد يفتتح بعض المقاطع بكلمات أخرى، ما يعني أننا لا نستطيع أن نقول إن استخدامه لها – أي لشبه الجملة يعد بداية مقطع جديد أو فكرة جديدة.

وبعد قراءات عديدة للقصيدة ارتأيت أنه يمكن تقسيمها إلى سبعة أجزاء، يتشكل أولها من الأسطر الستة الأولى (الأبيات) تقليدية الشكل، وثانيها من ستة عشر سطراً، وثالثها من اثني عشر سطراً، ورابعها من ستة أسطر، فيما خامسها من سبعة وستين سطرا، أما سادسها فمن أربعة أسطر وأما سابعها فمن خمسة عشر سطرا.

الجزء الأول: قانون العدو والحيلولة دون زيارة الشاعر:

يأتي الشاعر في الجزء الأول على مروره على المدينة (دار الحبيب)دون أن يتمكن من دخولها، لأن قانون الأعادي لا يسمح للفلسطيني من أبناء الضفة وأبناء المنفى بذلك. لا يغضب تميم، ويقنع نفسه، أو يحاول، بأن المنع نعمة فماذا سيرى في القدس حين يزورها. سيرى، إذا ما بدت من جانب الدور دور القدس، كل ما لا يستطيع احتماله. ويحاول أن يقنع نفسه والآخرين بهذا فيأتي بما يعزز هذا: ليس كل من يلقى حبيبه يسر، ولا كل من غاب عن الحبيب/ المدينة يضيره الغياب. إن سَرَّ لقاءُ الحبيب النفسَ قبل الفراق، فليس بمأمون عليها سرورُها.

ويختتم الشاعر هذا الجزء الأول ببيت تقريري يقول:

متى تبصر القدسَ العتيقة مرة
فسوف تراها العين حيث تديرها

 أي إذا رأيت القدس القديمة مرة فســوف تظـل الـعين تراهـا

الجزء الثاني: من يوجد في القدس وماذا يوجد فيها:

يأتي الشاعر في هذا الجزء على روّاد المدينة ومن فيها وما فيها؟ في القدس بشر كثر من أشتات الأرض، بشر علمانيون وآخرون متدينون، بيض وشقر وسود، يهود وسياح أجانب، سياح لا يرون المدينة، فما يروق لهم أكثر التقاط صورة مع امرأة فلسطينية تبيع الفجل. وفي القدس أسوار من الريحان ومتراس من الاسمنت. وحيث يمنع تميم من دخولها يصلي على الاسفلت، وتكون المفارقة أن القدس تتسع لكل من سبق إلا للشاعر الذي ينحدر من اصول فلسطينية:

(في القدس مَنْ في القدس إلا أنت)

الجزء الثالث: ما يقوله التاريخ للشاعر:

إذا كان الجزء الأول يوظف فيه الشـاعر ضمير المتكلم: النحن والأنا (مررنا / فقلت) وخطاب الذات لذاتها: فماذا ترى، وفيه أيضاً يبرز عنصر الحوار، حوار الشاعر مع ذاته، وإذا كان الجزء الثاني يغلب عليه الوصف، وصف ما في القدس، فإن الجزء الثالث يغيب فيه صوت الشاعر ليحضر صوت التاريخ، وهو صوت سيحاوره الشاعر وسيبدي رأيه في رأيه. يبدأ هذا الجزء بعبارة سردية (وتلفت التاريخ لي متبسماً)، ولا ندري إن كانت ابتسامته ساخرة أم غير ساخرة، صفراء أو خالية من أي سوء، ونصغي إلى التاريخ يخاطب الشاعر، فماذا يقول له وما هي رؤيته لما ألم بالمدينة؟

سيسأل التاريخ الشاعر الذي يزور القدس إن كان سيبصر غير الجورجي والبولوني والحبشي والسياح الافرنج، وسيقول له: ها هم أمامك. إنهم المتن وأنت الهامش. إنهم الأكثرية وأنت الأقلية، إنهم الأصل وأنت الفرع. هل كنت تظن أن زيارتك، يا بني، ستريك غير ما هو عليه الواقع. ستريك ما تتمنى أن تراه وتهواه؟ وسيتابع التاريخ قائلاً: في القدس يحضر الجميع إلا أنت. القدس غزالة حكم الزمان بفراقها، وأنت ما زلت تركض وراءها. ارفق بنفسك أيها الفتى، فأنا أراك ضعفت و (في القدس من في القدس إلا أنت). وهذا السطر ورد في الجزء الثاني على لسان الشاعر نفسه. هل غدت القدس مدينة غير عربية؟

الجزء الرابع: رد الشاعر على التاريخ:

يصغي الشاعر إلى صوت التاريخ ومكره، ولكنه لا يأخذ به، وتكون له – أي للشاعر – رؤية أخرى لما يجري.

دهر المدينة، كما يرى الشاعر، دهران؛ دهر غريب أجنبي لا يغير خطوه، وكأنه يمشي خلال النوم، مطمئن إلى ما يجري، ولعلنا نتذكر هنا عبارة الحكومات الإسرائيلية عن القدس: القدس العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل، وهي عبارة ليست لفظية فقط، إذ يعمل الإسرائيليون ليل نهار من أجل تحقيقها، فيصادرون الأرض ويهدمون البيوت العربية ويقيمون مبانيهم، ودهر كامن ملتئم يمشي بلا صوت حذار القوم. ماذا يرمي الشاعر بقوله هذا؟ لعله مطمئن أيضاً إلى أن هناك شيئاً خفيا لا صوت له يقول شيئاً آخر، وهذا ما سيفصح عنه الجزء الخامس. كأن الجزء الخامس هو الدهر الكامن الملتئم الذي يمشي بلا صوت، وهو ما يقوله عموماً تاريخ المدينة وحاضرها وشواهدها وما فيها.

الجزء الخامس: ماذا تقول المدينة؟

كأنما يبصر الشاعر مستقبل المدينة من خلال ماضيها وما هي عليه. وما هي عليه الآن نتاج حقب ماضية كثيرة، إن القدس تعرف نفسها أكثر مما يعرفها غيرها. وإذا أردت أن تتأكد من هذا فاسأل الخلق هناك، وسيدلك الجميع، فكل شيء في القدس ذو لسان يفصح، حين تسأله. فما هي الدلالات على أن صوت الدهر الكامن الملتئم هو الذي يقول شيئاً آخر، سيقوله لنا الشاعر في نهاية قصيدته، ويغاير ما يقوله الانطباع الأول لزائر المدينة وما يقوله التاريخ الماكر؟

1. الهلال في القدس يزداد تقوساً حدبا على أشباهه فوق القباب. لقد تطورت بينهم، عبر السنين، علاقة تشبه علاقة الأب بالبنين. طبعاً نفترض هنا الجانب الإيجابي للعلاقة، حيث التواصل لا الانفصال. هنا ثمة ما يشير إلى قبة الصخرة.
2. الحجارة في القدس حجارة افتبست عبارات من الإنجيل وآيات من القرآن، فمن يستطيع انتزاع الدلالات الدينية المسيحية والإسلامية عنها. ويعرف الجمال في القدس بأنه مثمن الأضلاع أزرق – هل يقصد تميم أبواب المدينة السبعة، يضاف إليها قبة الصخرة ذات اللون الأزرق، فكأنها تشكل الباب الثامن، ليغدو سور المدينة مثمن الأضلاع؟ - وفوق هذا الجمال مثمن الأضلاع قبة ذهبية هي في رأيه مثل مرآة محدبة يرى الناظر إليها فيها وجه السماء ملخصاً، والقبة تدلل السماء وتدنيها، وتوزعها، كما لو أنها أكياس معونة ، أيام الحصار، على من يستحق المعونة لمن يطلبها أيام الجمعة بعد خطبة الجمعة.
3. وارتباطاً بما سبق فإن السماء في القدس تفرقت في الناس تحميهم ويحمونها ويحملونها على أكتافهم إذا جار الزمان على أبنائها / أقمارها. هنا نتذكر لوحة الفنان التشكيلي سليمان منصور " جمل المحامل " وفيها يحمل المواطنُ الفلسطيني القدس على ظهره.
4. في القدس أعمدة داكنة، ونوافذ تعلو المساجد والكنائس تمسك بيد الصباح لتريه كيف يتم النقش بالألوان، وحين يبدي رأياً مغايراً ترد عليه متمسكة برأيها هي، حتى إذا ما طال الخلاف تقاسماً وقبل بحل وسط، فهو حر خارج القدس، ولكن إن أراد دخولها فعليه أن يرضى بحكمها، فهي نوافذ الرحمن.
5. وفي القدس دليل آخر يفصح ويبين عن حقيقتها. إذا كان الدليل الأول أتى على الصخرة والهلال فوقها، والثاني على تزيين حجارتها باقتباسات من الإنجيل والقرآن والثالث بتضافر العلاقة بين الناس والسماء والرابع بقدسية أعمدتها ونوافذها، فإن الدليل الخامس يتمثل في المدارس التي بناها المماليك الذين جاءوا إلى المدينة من وراء النهر. كان المملوك عبداً بيع بسوق النحاسة في أصفهان لتاجر بغدادي، فخاف أمبر حلب من زرقة عين المملوك اليسرى، ما جعله يعطيه لقافلة ذاهبة إلى مصر، وهناك سيغدو هذا المملوك غلاب المغول وصاحب السلطان في مصر، وستبنى في القدس مدرسة تحمل اسمه. وهذا شاهد على تاريخ المدينة.
6. وثمة في القدس أشياء أخرى تتعاطف مع سكانها العرب ضد المغتصب. إنها رائحة البهارات في دكاكين العطارين بخان الزيت. وهذه الرائحة لها لغة إذا أصغى الشاعر لها سيفهمها، فهي تقول له حين يطلق المغتصبون قنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين، تقول له: لا تحفل بهم. وحين ينحسر الغاز تعود الرائحة لتخاطبه ثانية: أرأيت؟
7. في القدس تناقض غير مزعج. إنه يرتاح. وسكان المدينة يرون عجائب لا ينكرونها، وثمة معجزات هناك تلمس باليدين. ( إشارة إلى التعايش بين الطوائف وأهل الديانات: قديمها وجديدها ).
8. وما يرتبط بما سبق أنك لو صافحت شيخاً في القدس أو لو لمست بناية لوجدت على كفيك نص قصيدة نقشت، أو نص قصيدتين. كأنما القدس وأهلها ملهمون للإبداع الشعري.
9. وعلى الرغم من مصائب المدينة: احتلال فتحرير فاحتلال، وغزاة إثر غزاة وحرائق المساجد والكنائس، على الرغم من هذا ثمة براءة وثمة طفولة، ولذا ترى الحمام هناك يطير معلناً دولة في الريح بين رصاصتين. وهذا دليل آخر على ما تقوله المدينة عن ذاتها.
10. وقبور المدينة تقول لك تاريخها. كأنها السطور والتراب الكتاب. القبور والتراب تقول لك: الكل مروا من هنا، فالمدينة تقبل من أتاها كافراً أو مؤمنا: فيها الزنج والافرنج والقفجاق والصقلاب والبشناق والتاتار والأتراك، أهل الله والهلاك، والفقراء والملاك، والفجار والنساك:

" فيها كل من وطيء الثرى

كانوا الهوامش في الكتاب فأصبحوا نصّ المدينة قبلنا.

الجزء السادس: الشاعر يخاطب التاريخ وكاتبه:

بعد أن ساق الشاعر ما أفصح عنه لسان القدس، وما أبانه، داحضاً زعم دهر المدينة الأجنبي / داحضاً الرواية الصهيونية، يسأل الشاعر كاتب التاريخ السؤال التالي: ماذا جدّ فاستثنيتنا. هل رأيت المدينة تتسع لهؤلاء كلهم وتضيق علينا وحدنا – أي تضيق على فلسطيني الضفة والمنافي وغزة؟ ولا يقتنع الشاعر برواية كاتب التاريخ / برواية من تلفت مبتسماً قائلاً: انظر ماذا يقول لك واقع المدينة الراهن. ومن هنا يقترح الشاعر على كاتب التاريخ بأن يعيد الكتابة وأن يقرأ الواقع ثانية، فالشاعر يرى كاتب التاريخ أخطأ في قراءته الأولى.


الجزء السابع:
مغادرة المدينة بقدر من التفاؤل:

تغمض العين حتى لا ترى ما رأت، لكنها سرعان ما تعيد النظر. يصعد الشاعر سيارة ذات نمرة صفراء – أي سيارة إسرائيلية، ويميل السائق بالسيارة شمالاً، مبتعداً عن باب القدس، وهكذا تغدو المدينة خلف الركاب، لكن العين تبصرها بمرآة السيارة اليمين: تغيرت ألوانها في الشمس من قبل الغياب.

والشاعر فيما هو عليه، حيث يغادر المدينة، ولكنه ينظر إليها من خلال مرآة السيارة، تفجؤه نسمة لا يدري كيف تسللت للوجه، نسمة قالت له، وقد أمعن فيما أمعن فيه وهو يرى المدينة وما فيها ويستحضر تاريخها وكلام كاتب التاريخ له: (يا أيها الباكي وراء السور، أحمق أنت؟ أجننت؟) وتطلب منه، هو المنسي من متن كتاب القدس الآن، تطلب منه ألا يبكي، فهي تعلمه

أنه في القدس من في القدس، لكن
لا أرى في القدس إلا أنت.

وجاء السطر الأخير، على لسان النسمة، لينقض ما رآه الشاعر ابتداء، وما قاله له التاريخ: في القدس من في القدس إلا أنت.

طبعاً ثمة نزعة تفاؤلية ربما تعتمد الحس التاريخي ليس إلا. فالواقع الآن يقول لنا: في القدس من في القدس إلا نحن، ولكن تاريخ المدينة منذ 1400 سنة يقول لنا شيئاً آخر، يقول لنا: هناك من احتل المدينة ومكث فيها تسعين عاما، ويئس العرب والمسلمون من تحريرها، حتى جاء صلاح الدين وحررها وأعادها للعرب والمسلمين وغدوا متن المدينة وهامشها. ولعل قارئ أدبيات الحروب الصليبية يعرف أن ما يجري في القدس الآن ليس بالأمر الجديد، فقد تحولت المساجد إلى كنائس، وما يقوم به الإسرائيليون الآن من تهويد للمدينة ليس بدعة جديدة. وما من شك في أن نهاية القصيدة ذات النزعة التفاؤلية لم تأت من معطيات اللحظة الراهنة قدر ما جاءت من معطيات الفترات التاريخية التي شهدتها القدس ومرت بها.

في القدس

مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى