الأحد ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٧
قراءة في خطاب د. جابر الأنصاري
بقلم محمد السموري

لماذا ينتحر المثقفون ؟

قد تقرأ لأديب أو لشاعر كثير من أعماله،فلا تهتدي إلى سره الإبداعي إلى أن تعثر على رسالة خاصة، أو عبارة اعتراف عابرة في حديث ،فينكشف أمامك عارياً كلحظة صراعه من أجل الوصول إلى هذا الإبداع .

بتلك العلائقية بين كشف السرّ الإبداعي، والاعتراف الذاتي يوصف الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه( انتحارالمثقفين العرب ) حالات الانتحار بأنواعها المختلفة، ليس فقط من الاعترافات،والبوح بالصمت تمرداً إنما أيضاً من الماضي النفسي للمنتحرين،مع مختلف المسببات المكونة لما يسمى بـ ( ثقافة الانتحار ) مضيفاً إليها فتحاً جديداً يتجلى بعمق وعي الظاهرة في معالجة تتعدى سيكولوجية الانتحار الجسدي إلى الانتحار المعنوي عندما يتنكر المبدع والمثقف لجوهر كينونته،ومعالجة تتعدى بالطبع حالة الانتحار التقليدي لغير المثقفين كانتحار القائد الألماني النازي أدولف هتلر،وقائد حرسه هنريش هملر بعد خسارة الحرب العالمية الثانية .

فإذا كان الانتحار الفكري للفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر هو تنكر للوهم ورؤيا للحقيقة المتجسدة بالإيمان بالخالق نسفاً للوجودية،وانتحاراً للفكرة التي مضى على الاشتغال بها لإرواء متعة التأليف،وهواية التفلسف وهذه وإن أوردها الأنصاري كلحظة صدق لسارترمع ذاته عبر اعترافه،إلا أننا نضيف أن شعوره بالخواء الروحي جعله يقتل الوجودية بتنكره لها كما قتلته الوجودية روحياً وانتقام سارتر من الوجودية هنا هو انتقام ثأري، وهذه الحالة تنطبق بشكل أو بآخر عل أبي حيان التوحيدي الذي بلغ صراع الأضداد في أعماقه حداً لا بد أن ينتهي به إلى الانتحار فانتحر أدبياً لكن التصوف أنقذه لإيمانه بشرف النفس الإنسانية وضرورة الانقياد للنفس الناطقة بدلاً من الصامتة،لقد تجسدت صورة الانتحار في حياته بشكل درامي عندما حول صداها من نفسه إلى كتبه فأحرقها وهذا النمط يسمى بالانتحار الغيري أو الإيثاري الذي أطلق مصطلحه عالم الاجتماع الفرنسي أميل دوركهايم على حادثة إقدام لويس ألتوسيرعلى قتل زوجته نتيجة نوبات الكآبة التي كانت تنتابه فقتل من يحب ليحميها من الآلام التي كان هو يقاسي منها، ورداً على أصحاب الادعاء بأن الانتحار له علاقة بالجينات الوراثية فقد أثبت عالم النفس وليد صليبي عدم وجود أية جينات وراثية مسؤولة عن الإجرام سيما إذا علمنا أن الانتحار جرم يرتكبه صاحبه ضد نفسه تكون مسؤوليته على عوامل كثيرة ومتباينة ففي هونغ كونغ مثلاً تزايدت نسبة الانتحار بسبب الأوضاع الاقتصادية وفي الولايات المتحدة الأمريكية ينتحرون بسبب الخواء الروحي والمزاج الضعيف، وتأثير مجتمع الاستهلاك والنفعية والفردانية ( البراغماتية ) وانعدام التواصل والشعور باللاجدوى والضغط النفسي وانعدام الحياة الاجتماعية الطبيعية .

كما أن الدعوة بوجود مادة السيروتينين في مخ الإنسان يهيء له فرص الانتحار نعتقد أن مردها إلى الدعوة الوراثية أيضاً ولو أنه لم يتح لأحد ما قياس هذه المادة في مخ كل من المنتحرين لؤي كيالي أروى صالح، تيسير سبول،– سيرغي يسنن،– كيرو كيروساوا ،وغيرهم من المثقفين نجزم أنها دعوة افتراضية لا أكثر ويؤكد زعمنا هذا ما سنجريه من مقارنة لمقاربة حالة انتحار الشاعر خليل حاوي نجد مجموعة من مهيئات الانتحار أثبتها لديه الدكتور الأنصاري كتلك التي لدى الفيلسوف الإنكليزي آرثر كيسلر ومن هذه الدراسة نستخلص محاولة للإجابة على السؤال العمدة في هذه القراءة :

لماذا ينتحر المثقفون ؟

انتحر خليل حاوي عام 1982 بما يحمله هذا العام من معان تفرض على مبدئيته أي خلاص ولاسيما أنه استعاض عن إيمانه الكوني بفكرة الانبعاث القومي الحضاري، غير أن هذه الانبعاث أخذ بالاضمحلال مع تراكم التراجعات 67-82 فهو عانى غربة الذات المتوحشة مضافة إلى مؤامرة النقاد بالسكوت عنه مؤخراً في زمن اضمحلال شاعريته وغيرها من أسباب كفشله في تأسيس أسرة وإنجاب أطفال . إن ظاهرة الانتحار تعبير عن نزيف وتشقق داخلي يباعد بين خلايا النفس الجماعية للأمة وهو ذروة الحرب الأهلية بين المنتحر وذويه وقرائه وهذه (الحرب ) هي التعبير النهائي عن تدمير جزء من الذات للجزء الآخر منها عندما تشعر النفس أن الأهل قد تخلوا عنها، أما الحادث المباشر ليس سوى ( قشة ) والقطيعة هي السبب الحقيقي فخليل قد سرق بيته من قبل أحد ذويه وخطفت محبوبته وهو طالما اعتز بضيعته الأصيلة وتفاخر بها وبأهلها يحصد من تفاخره الخيانة تلو الخيانة ويقول : ( لم ألتق بالمرأة التي يمكن أن تملأ جوانب نفسي )

وهذا الإفصاح الذي بدأنا نبحث عنه قدمه خليل مجاناً وهو ذاته سبب انتحار الشاعر السوفيتي ماياكوفسكي لأنه جوبه بالرفض من المرأة التي أحبها ولما لا فالنساء اللواتي لا ينتحرن ينتحر الرجال من أجلهن لأن خيوط العاطفة لديهن أقوى والعاطفة كما هو معروف معطلة للإرادة، أما آرثر كيسلر (20 ) فبدأت خيوط الانتحار تبدو بالنسبة له فلسفة ونهجاً فقد انضم إلى جماعة ( الخروج ) التي تنادي بالخلاص الذاتي وتعتبر حياة الفرد ملكاً لصاحبها فهو يملك حق التخلص منها بالموت الإرادي ( اليونا نيزيا ) عندما تمثل عبئاً ثقيلاً عليه ، فكسلر الذي اشتد عليه مرض اللوكيميا وحالته النفسية الموصوفة بالمزاج المتقلب والسلوك الصعب المشاكس وميوله للعزلة والانزواء وتعرضه للعقاب المؤلم المتكرر من قبل أمه المتسلطة إضافة إلى تعرضه للاكتئاب وثورات الغضب الانفعالي بعد أن حكم عليه فرانكو بالإعدام وفشله في التحصيل العلمي الدراسي والأهم من هذا أو ذاك اكتشافه لأساطير الصهيونية وممارساتها الإجرامية وخداعها تضافرت جميعاً لتقوده إلى الانتحار وتجعلنا نعتقد أن انتحاره حاصل تحصيل تاريخه النفسي فهو متقلب بين الصهيونية والشيوعية كتقلب الروائي يوكو يوميشيما بين اليمين واليسار، لنؤكد هنا نتيجة الأنصاري أن الأسباب المباشرة ليست سوى قشة بالنسبة للأسوياء نفسياً وليغدو الانتحار فعلاً فلسفياً حقيقياً حسب ألبير كامو كحالة انتحار الفنان اليهودي ياييم لادجنسكي من ظلم الصهيونية وحالة انتحار الفنان الهولندي فان جوخ لاستحالة انسجامه مع الآخرين وشعوره بالغربة لنستخلص نتيجة توصل إليها الروائي الإنكليزي د . هـ لورانس ( التواصل يمثل صمام أمان ضد الانتحار ) فالحادث المباشر لا يقوم البتة مقام فعل فلسفي لتكوين فعل الانتحار، ويذهب الدكتور الأنصاري إلى إطلاق مفهوم انتحار الثقافة وهذا المفهوم يتلخص بتأثير ثقافة الصورة ومحظور التخلف العقلي للجنس البشري حيث صار مقياس العمل الإبداعي بما تحمله الصورة الفنية الحسية من معان وعاد الإنسان بحكم تكوينه التلفزيوني إلى التفكير بالصورة الحسية وأخذت تتقلص لديه ملكة الإمكانات الذهنية التجريدية وملكاته اللغوية الوصفية والمجازية واستسهل المشاهدة الحسية بمقدار ما استصعب القراءة والكتابة واعتبر هذا بمثابة انتحار ثقافي عبر استمرار وترسيخ التلقي المعرفي والمعلوماتي الإعلامي بالصورة التلفزيونية وإن ذلك سيؤدي إلى تدهور عقلي للجنس البشري وإنني لأضيف هنا ضرورة تحلي المثقفين شخصياً عبر سلوكهم اليومي بدعواتهم، فالفجوة كائنة بين المثقف وثقافته والمنظر وما يدعو إليه وإن ذلك سيقود لا محالة إلى الانتحار الثقافي فالذي أدى بسارتر إلى التنكر للوجودية والفلسفة برمتها تلك الفجوة بين الأقوال والأفعال، أما الاعتراف كسرّ للإبداع يأتي على شكل صدق مع الذات كما فعل أرنست همنغواي وهو يعترف بولعه بمشهد الموت الدموي في حلبات مصارعة الثيران في أسبانيا والصيد الوحشي في أمريكا فقرر أن يتقدم الخطوة النهائية في ولعه وينتقل بالتالي من المشاهدة بالحواس إلى الاختبار المباشر بتذوق طعم الموت فانتحر تعبيراً عن الصدق مع الذات .

يقودنا هذا المبحث إلى بديهية رفض توصيف الحالات الاستشهادية البطولية للشعب الفلسطيني والمقاومين للاحتلال والاستعمار ،ونعتها بالانتحار فهذا التوصيف بحد ذاته هو اغتيال بل انتحار للمعنى وتزييف للواقع وقلب للحقائق، فالانتحار كما درسناه آنفاً هو حالات فردية تحصل نتيجة الشعور بالغربة واليأس والإحباط والاكتئاب والقلق ومجموعة ضغوطات نفسية وظروف شخصية، أما الاستشهاد فيقوم به أشخاص أسوياء نفسياً كوسيلة لمقاومة الظلم وتحرير الأرض والرد على العدوان ودرء الأخطار والقتل والتهجير ومع انعدام وسائل الدفاع التقليدية لديهم فإن العمليات الاستشهادية غدت وسيلة دفاعية معدومة البديل أو بديلاً عن وسائل الدفاع المعدومة لذا فهي شرعية وتكتسب شرعيتها من منطق شرعية مقاومة المحتل وما يعاب على الذين يوصفونها بالانتحار إلا لمؤازرة المحتل في استلاب حق المقاومة وسلبها آخر أسلحتها أجساد الاستشهاديين الأبطال .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى