الخميس ١٥ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم محمد علي الرباوي

ليلتان من ليالي السندباد

إلى أبي في أرض الوطن

(1)
 
أَعْرِفُ أَنَّكَ كُنْتَ غَريبا
في أَرْضِ الرُّومِ غَريبا
تَلْتَهِمُ الأَوْراشُ دِماك الفَوَّارَةَ
تَأْتيكَ مِنَ الأَحْبابِ رَسائِلُ
بَلْ تَأْتيكَ قَنابِلُ
تَفْتَحُهَا: لِتُحِسَّ الغُرْبَةَ تَقْطَعُ أَوْصالَكَ
فَالْحَرْفُ أَمَامَكَ غابَةُ صَفْصافٍ
مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَقْتَحِمَ الغابَةَ
مِنْ غَيْرِ سِلاحٍ
آهٍ مَنْ يَقْدِرْ
 
(2)
 
مُدُنُ الرُّومِ تَمُوتُ
إِذَا هَبَّتْ ريحُ الأَحَدِ البارِدِ
تَمْتَدُّ عَلَيْها قاماتُ الصَّمْتِ القارِسِ
تَهْجُرُها الْحَاناتُ الأَسْواقُ الأَطْيارُ الدُّورُ
لِماذا مُدُنُ الرّومِ تَمُوتُ صَباحَ الأَحَدِ البارِدِ
 
****
هَذَا الشّارِعُ تَمْتَدُّ عَلَى وَجْهَيْهِ ظِباءُ الأَصْداءِ
تُطَوِّقُهُ غيلانُ البَيْداءِ
وَفي صَدْرِكَ يَقْدَحُ زَنْدُ البَيْنِ
وَنارُ الوَحْشَةِ تَرْمِي قَلْبَكَ بِالْجَمْرِ
وَأَنْتَ تَسيرُ عَلَى بَعَرِ الآرامِ وَحيدا.
تَرْمِي قَدَمَيْكَ عَلَى الأَرْضِ وَحيدا.
لا تَسْمَعُ إِلا صَوْتَ القَدَمَيْنِ الْمُتَوَرِّمَتَيْنِ وَحيدا.
لا تَسْمَعُ أَحْياناً إِلا قِطّا حينَ يَمُوءُ وَحيدا
لا تُبْصِرُ في الأَرْضِ سِوَى ظِلِّكْ.
 
****
مُدُنُ الرُّومِ إِلَيْها الرّوحُ تَعودُ
إِذَا هَبَّتْ ريحُ الإِثْنَيْنِ عَلَيْها
أَمّا أَنْتَ فَتَبْقَى مَيْتا
لا يَحْيا فيكَ سِوَى عَضَلاتِكْ
 
(3)
 
عَجَباً..كَيْفَ طَحَا بِكَ قَلْبٌ
في حُبِّ بِلادٍ داسَتْ بِسَنَابِكِها
قَلْعَةَ صاحِبِكَ الأَعْرابـيِّ
تُتَمِّرُ لَحْمَ بَنيهِ جِهارا في كُلِّ السّاحاتِ
تَبيعُ لِـخَيْبَرَ كُلَّ دُروعِكَ
كَيْفَ دَخَلْتَ مَهامهَ حُبِّ بِلادِكَ
كَيْفَ تُناديها: أُمّي
وَهْيَ تَبيعُكَ لِلرّومِ صَباحَ مَساء
تَبْعَثُ بِالْغَيْثِ إِلَيْها
وَهْيَ تُمِدُّكَ بِالْمِلْحِ وَبِالصَّلْصَالِ اللافِحِ
تَسْتَرْضِعُها أَطْفَالَكَ لَكِنْ
حينَ البَحْرُ الْهَائِجُ تَعْبُرُهُ
تَلْقَى ثَدْيَيْها
في فَمِ هَذَا الرُّومِيِّ الْمُنْتَفِخِ الأَوْداجِ
فَواكَبِِدا مِنْ حُبٍّ تَقْرَأُهُ وَحْدَكَ
واكَبِدَا مِنْ زَفَرَاتٍ لَيْسَ لَهُنَّ فَنَاءُ
قالوا: لَوْ أَنْتَ تَشاءُ سَلوْتَ السّاعَةَ عَنْهَا
بِاللهِ عَلَيْكَ أَحَقّا أَنْتَ تَشاءُ
 
(4)
 
كِنْدَةُ أَطْلالٌ
بَعَرُ الآرامِ كَحَبِّ الفُلْفُلِ
في ساحَتِها الدَّكْناءٍِ تَبَعْثَرَ
أنَّى لَكَ أَنْ تَجْعَلَها مَمْلَكَةً
لا تَغْرُبُ عَنْها الشَّمْسُ
وَأَنْتَ صَغيراً ضُيِّعْتَ
كَبيراً حُمِّلْتَ دَمَ الوَطَنِ الْمَقْهورِ
هَجَرْتَ مَمالِكَهُ الظَّمْأى
فَالْهَمُّ أَمامَكَ
وَالْهَمُّ وَراءَكَ
لَيْسَ لَكَ اليَوْمَ سِوَى
أَنْ تَرْسُوَ في صَدْرِ حَبيبِكَ
أَنْ تَطْلُبَ مِنْهُ الرَّحْمَةَ
قَيْصَرُ لا تَنْثُرُ عَيْنَاهُ الرَّحْمَةَ
ضُيِّعْتَ صَغيراً وَكَبيراً ضُيِّعْتَ
وَها هِيَ ذي الغُرْبَةُ
تَمْتَدُّ جَزائِرُها قُدَامَكَ
تَمْتَدُّ وَرَاءَكَ
وَالرُّومُ حُصونٌ رَفَعَتْ زَنْداكَ قَوَاعِدَها
 
(5)
 
كُلُّ صُخورِ الرّومِ
وَكُلُّ بِحارِ الرّومِ
وَكُلُّ بِلادِ الرّومِ تَقولُ لَكَ: ارْحَلْ
تَرْحَلُ؟!
كَيْفَ؟! وَأَنْتَ شَبابُكَ مَدْفونٌ فيها
وَنَضارَةُ وَجْهِكَ مُودَعَةٌ في أَوْجُهِ كُلِّ بَنيها
وَدِماكَ تَشُدُّ حِجارَ مَبانيها
تَرْحَلُ؟! كَيْفَ؟! وَكُلُّ جَواريكَ الْتَهَمَتْها النِّيرانُ
تَقولُ لَكَ ارْحَلْ هِيَ تُعْطيكَ جَواريها
 
(6)
 
هُوَ ذا الوَطَنُ الْحُلْمُ أَمامَكَ
أَجْهَشْتَ لَهُ حينَ رَأَيْتَ سَنَابِلَهُ الْخُضْرَ
وَهلَّلَ لِلرَّحْمانِ وَكَبَّرَ
حينَ اشْتَعَلَتْ عَيْناكَ عَصافيراً
أَذْريْتَ دُموعَ العَيْنِ
وَناداكَ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ
وَدَعَا أَنْ ضَعْ قَدَمَيْكَ عَلَى الشّاطِئِ
قبِّلْ تُرْبَتَهُ الْخَضْراءَ
وَحَدِّقْ في حَبَّاتِ الرَّمْلِ جِهارا
وَاسْجُدْ
أَنْ عُدْتَ وَرَأسُكَ ما زالَتْ بَيْنَ الكَتِفَيْن
أَنْ عُدْتَ وَما زِلْتَ تَسيرُ عَلَى قَدَمَيْن
 
****
هُوَ ذا الْوَطَنُ الْحُلْمُ أَمَامَكَ
حُلْوٌ فَمُ هَذَا الْمَحْبوبِ السّاحِرِ
خَدَّاهُ كَفَلْقةِ رُمَّانهْ
عَيْنَاهُ خَمِيلَةُ طِيبٍ تَقْطُرُ شَهْداً شَفَتَاهُ
وَأَطْلَسُهُ ذَهَبٌ إِبْريزٌ
داخِلُهُ عاجٌ أَبْيَضُ غُلِّفَ بِالياقوتِ الأَزْرَق
 
****
هَذَا الوَطَنُ الآنَ أَمَامَكَ
لِلرّيحِ الْجَبّارةِ بَوّابتُهُ مُشْرَعَةٌ
تَدْخُلُها حامِلَةً زَوْبَعَةَ الْجِنِّ عَلَى كَتِفَيْها
أَمَّا أَنْتَ فَهَلْ كُنْتَ الرّيحَ
وَهَلْ كُنْتَ الْجِنّْ
هُوَ ذا الْجُمْرُكُ يَسْتَوْقِفُ هَيْكَلَكَ العَظْمي:
- ما اسْمُك؟
مِنْ أيِّ بِلادٍ أَنْت؟
-"............"
تُوقِظُكَ الدَّهْشَةُ تَصْحو:
فَإِذا الْجُمْرُكُ رومٌ
اَلشُّرْطَةُ في الشّارِعِ رومٌ
اَلشّاشَةُ في بَيْتِكَ رومٌ
زَوْجُكَ..أَبْناؤُكَ.. رومٌ
رومٌ
رومٌ
تَشْعُرُ أَنَّ عَلَيْكَ لِباسَ الْخَوْفِ
عَلَيْكَ لِباسَ الدَّهْشَةِ
لَكِنْ تَثْبُتُ
تَعْلَمُ أَنَّ السّاعَةَ غُرْبَتَكَ الصُّغْرى
أوْدَعْتَ لَوافِحَها في جَوْفِ البَحْرِ
وَأنَّكَ تَدْخُلُ غابَةَ غُرْبَتِكَ الكُبْرى
هَلْ أَعْدَدْتَ لَها زاداً في حَجْمِ فَيافيها؟
 
****
أَنْتَ أتيْتَ بِلادَكَ فَارْبِضْ في دارِكَ ظَبْياً
هِيَ دارٌ مَحْروبٌ مَنْ حَلَّ حَدائِقَها
إِمّا مَقْتُولاً أَوْ مَهْمُوماً
هِيَ دارٌ
إِنْ يَكُ حُوِّلَ مِنْها الأَهْلُ فَلا بَدِئٌ
إِنَّ الأيَّامَ لَها حُكْمٌ هَجْرُ
أَوْ يَكُ أَقْفَرَ مِنْها الْجَوُّ
وَعادَ إِلَيْها الْمَحْلُ
فَكُلٌّ مَكْذوبُ
كُلٌّ سَفْرُ
هِيَ دارٌ
قَدْ يُوصَلُ مِنْها النّائي الْمَكْلومُ
وَقَدْ يُقْطَعُ ذو السُّهْمَةِ وَهْوَ قَريبُ
هِيَ دارٌ أَرْضٌ تَخْتَرِقُ الغابَةُ ساحَتَها
لَكِنّكَ تِرْبِضُ فيها ظَبْياً
تَسْمَعُ صَوْتاً كَرِياحِ الأَغْوالِ
يُزَمْجِرُ داخِلَ أَحْشَائِكَ:
- اُهْجُرْ
- أَيُحِبُّ الأَحْباشُ اللَّحْظَةَ
مَنْ هاجَرَ كَالْغَيْمِ إِلَيْهِمْ
- ا ُهْجُرْ
- هَلْ تَفْتَحُ يَثْرِبُ أَذْرُعَها لِلْغُرَباء
- اُهْجُرْ
- لا.
لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ الْمَيْمُونِ
عَظيمٌ أَنْتَ وَأَنْتَ هُنا تَثْبُتُ في أَرْضِكَ
كَالنَّخْلِ الواقِفِ في الصَّحْراءِ
وَكَالْمِلْحِ السّارِحِ في البَحْرِ
وَكَالْحُبِّ النّابِضِ في قَلْبِ الْمَجْنونِ
عَظيمٌ أَنْتَ وَأَنْتَ تُعِدُّ
الزّادَ لِغُرْبَتِكَ الكُبْرى
هَلْ بُشِّرْتَ بِأنَّ الفَجْرَ عَلَى الأَبْواب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى