الخميس ١٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم إبراهيم عوض

مكتبتى

 متى بدأت تكوين مكتبتك الخاصة؟ وهل لنا أن نعرف عدد الكتب التى تضمها؟
 لا أذكر بالضبط متى بدأتُ تكوين مكتبتى الخاصة، وكل ما أتذكره الآن هو أننى كنت أشترى ما أستطيع شراءه من الكتب منذ الصبا وأنا أتلقى العلم فى طنطا من المكتبات ومن الأرصفة على السواء، وذلك فى حدود القروش القليلة التى كانت متاحة لى، وكنت أبدّل كثيرا من الكتب التى أقرؤها مقابل قرش أو نصف قرش من مكتبة فافا بشارع القاضى هناك، وكان هذا فى منتصف الستينات من القرن المنصرم.

ولكنى كنت أحتفظ أيضا ببعض الكتب الأخرى، لكن دون أن تكون لى مكتبة بالمعنى المفهوم، بل كنت أضع الكتب أينما وكيفما اتفق، وكانت تنتهى دائما بالتبعثر والضياع. أما مكتبتى الحالية فقد بدأت بصناديق الكتب الكبيرة التسعة عشر التى جلبتها معى من بريطانيا حين كنت أدرس فى جامعة أوكسفورد للحصول على درجة الدكتوراه فى الفترة من 1976 إلى 1982م، وكانت تحتوى على كتب أدبية، وأخرى فى النقد، وثالثة فى الإسلاميات، ورابعة فى الأديان، وخامسة فى التاريخ، وسادسة فى السياسة، وسابعة فى الفلسفة وعلم النفس، وثامنة فى العلوم الطبيعية... ثم كبرتْ أكثر وأكثر حتى إنى تخلصت منذ عدة سنوات من نحو ألفى كتاب تبرعت بها لمكتبة كلية الآداب بجامعة عين شمس التى أعمل أستاذا للنقد الأدبى والدراسات الإسلامية بها.

ولا أستطيع أن أحدد عدد الكتب التى تضمها الآن مكتبتى بالضبط، وإن كنت أتصور مجرد تصور أنها قد تبلغ ثمانية آلاف كتاب. ولست بحاجة إلى القول بأن دكاكين الكتب المستعملة مصدر هام جدا لكثير من النفائس فى مكتبتى كدائرة المعارف البريطانية، وتاريخ الفلسفة الغربية لبرتراند راسل، والترجمة الإنجليزية لألف ليلة وليلة بقلم ريتشارد بيرتون فى طبعة نادرة، وعدد من الدواوين الشعرية العباسية مترجمةً إلى اللغة الإنجليزية، وعدد كبير من كتب المستشرقين ومن المعاجم المختلفة التى أحضرتها معى من بريطانيا، وترجمة الكتاب المقدس للشدياق، وهى ترجمة عزيزة نظرا لمقاطعة النصارى لها بعد إسلام الرجل وتوقفهم من ثم عن طباعتها، وكذلك كتابه فى النحو العربى، وكتابه فى الآجرومية الإنجليزية، وتفسير المنار للشيخ رضا، وبعض ترجمات القرآن الكريم، وكتاب د. عبد الرحمن بدوى بالفرنسية فى الدفاع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وكتاب النحو العربى بالفرنسية لبلاشير وديمومبين. ويأتى على رأس ذلك مكتبات سور الأزبكية الشهيرة.

 هل ما زلت تذكر أول كتاب اقتنيته؟ وماذا كان عنوانه؟
 تذكُّر أول كتاب اقتنيته مسألة صعبة، وإن كنت أستطيع أن أتذكر واحدا من الكتب الأولى التى اقتنيتها، وهو كتاب "فن الأدب" لتوفيق الحكيم، الذى اشتريته من بائع كتب قديمة عند مسجد السيد البدوى، ودفعت فيه عشرة قروش، وما زال عندى حتى الآن. وهو من الكتب المهمة جدا للحكيم، لأن فيه كثيرا من نظراته وآرائه النقدية فى أدبنا الحديث والقديم على السواء. كما أستطيع أن أتذكر أيضا كتاب "عَوْدٌ على بَدْء" للمرحوم المازنى من سلسلة "اقرأ"، وقد اشتريته من مكتبة هيئة الكتاب فى ميدان الساعة بطنطا، ودفعت فيه خمسة قروش، وكنت وقتها على ما أظن فى السنة الأولى الثانوية.

ومن الكتب التى اشتريتها مبكرا وقرأتها وكان لها تأثير عنيف على مشاعرى رواية "مرتفعات وذرنج" لإميلى برونتى، التى بلغ من أثرها الطاغى أننى كنت أبكى كلما قرأتها، مما دفعنى إلى تحليل الرواية والتفكير بشدة فى أسباب هذا التأثير المزلزل. وأحسب أن هذه هى أول محاولة لى فى النقد الأدبى رغم أنى لم أكن على وعى وقتها بأنى أمارس نقدا أدبيا، بل كان الأمر يتم عفويا. وبلغ كذلك من إعجابى بتلك الرواية أننى قرأتها ما يزيد على ست مرات: بالعربية والإنجليزية، موجزة وكاملة.

وكانت آخر مرة قرأتها عندما استعرتها من مكتبة كلية التربية بالطائف أثناء عملى بجامعة أم القرى من 1990 إلى 1996م، وهى المكتبة التى كان القائمون عليها يسهلون لى عملية الاستعارة ويساعدوننى فى العثور على ما أبحث عنه من كتب إلى حد لا يوصف، وهم الدكتور عادل عثمانى مدير المكتبة، ومساعداه الأستاذان خالد الأمين وإبراهيم بخارى، وأنتهز هذه الفرصة لأبعث لهم بالتحية من هنا، ولعلهم يقرأون هذه الكلمة، فإن لهم دينا كبيرا فى عنقى، إذ كانوا يعاملوننى معاملة كريمة جدا ولا يهتمون أبدا باللوائح من حيث عدد الكتب التى يجوز لى استعارتها خارجيا على نحو لا يخطر لأحد على بال.

وعَوْدًا إلى ما كنت أقوله عن قراءاتى الأولى أذكر أننى كنت فى صباى أعتمد اعتمادا كبيرا على الاستعارة من المكتبات العامة: سواء مكتبة الوحدة المحلية فى القرية، وقد قرأت منها "الأيام" لطه حسين، و"هارون الرشيد" لأحمد أمين، و"كليوباترا فى خان الخليلى" لمحمود تيمور وعددا من المسرحيات له أيضا، و"هذه الشجرة" و"الحسين أبو الشهداء" للعقاد، أو مكتبة المدرسة الأحمدية الثانوية بطنطا حيث كنت طالبا فيها طوال ثلاث سنوات، وكان أمين المكتبة، واسمه الأستاذ مختار إن لم تخنى الذاكرة، يشجعنى كثيرا ويثنى علىّ أمام الأساتذة فيرفع معنويات صبى صغير مثلى، أو مكتبة البلدية التى كانت فى آخر شارع النحاس بطنطا فى مواجهة السجن العمومى تقريبا قبل أن تنتقل إلى شارع البحر ويتغير اسمها.

وكنت كذلك أستعير بعض الكتب من زملائى، مثل "أمسيات قرب قرية ديكانكا" لجوجول، و"عودة ابن البلدة" لتوماس هاردى، وهذان الكتابان وغيرهما استعرتها من زميل من قريتى لم يكن يضنّ بأى كتاب أريده منه، وهو الأخ إبراهيم ربيع، الذى تلقيت نبأ وفاته قبل عدة سنين بحزن شديد بعد أن ضرب بيننا الدهر بعصا التفريق، ولم أكن رأيته منذ زمن طويل، رحمه الله رحمة واسعة. وكل ما ذكرته تقريبا من الكتب هنا هو بعض ما قرأته بدءا من الإجازة الصيفية قبل انتقالى إلى الشهادة الإعدادية إلى نهاية الإجازة الصيفية التى تلتها. وفى تلك السن ابتدأت اهتماماتى الأدبية تظهر، فكنت أقلد العقاد فى أفكاره وأسلوبه على قدر ما أستطيع.

ولا أدرى السبب فى هذا الانجذاب المبكر له. لكنْ هكذا تم الأمر، وهكذا استمر حتى الآن، فما زلت أضع العقاد فى مرتبة فكرية وأدبية لا يدانيها أحد. وكلما كبرت ونضجت وألفت وحاضرت وتحدثت فى المذياع والمرناء والندوات والمؤتمرات ازداد إجلالى وإكبارى للرجل، عليه رحمة الله. ومن قراءاتى فى تلك الفترة أيضا الكتب التى كانت تصدر فى سلسلة "روايات عالمية" وسلسلة "روايات الهلال"، وسلسلة "كتاب الهلال"، وسلسلة "اقرأ" وسلسة "الألف كتاب" وغيرها.

وأتذكر من قراءات ذلك الوقت كتاب "أنا" للعقاد، وكتاب "مع العقاد"، الذى أخبرنى أستاذى الدكتور شوقى ضيف فى إحدى زياراتى له فى بيته وأنا طالب عنده فى آداب القاهرة بعد ذلك بعدة سنوات أنه ألفه أثناء الإجازة الصيفية التى تلت وفاة العقاد رحمة الله عليه، وهو ما اقتضاه التردد وقتئذ على دار الكتب فى باب الخلق بالقاهرة ليطلع على ما ليس فى مكتبته الخاصة من كتب عملاق الفكر والأدب التى لم يترك منها الأستاذ الدكتور شيئا دون أن يتحدث عنه ويعرضه للقراء فى ذلك الكتاب، وكذلك كتاب "أم النبى" للدكتورة بنت الشاطئ، وقد لخصته وأنا متألم وترن فى أذنى ما قالته المؤلفة عن وقع موت السيدة آمنة على ابنها الطفل الصغير مَرْجِعَهما من يثرب وكيف أنه حين بكاها "ضاع صوته فى سكون العدم" أو عبارة من هذا القبيل، ورواية "نداء المجهول" لتيمور، التى كتبت عنها فصلا نقديا فى كتابى: "فصول من النقد القصصى" بعد أن كبرت وأصبحت كاتبا، وكذلك روايته الأخرى: "سلوى فى مهب الريح"، و"الزنبقة" لحسين عفيف، التى كنت أتناوب قراءتها بصوت عال أنا وزميل لى من قريتى أصبح مثلى أستاذا جامعيا، وكان كلما التفت أحدنا إلى خطإ نحوىّ وقع فيه صاحبه نبهه إليه. وكان ذلك يتم فى أعلى مئذنة الجامع الكبير بالقرية، والنسيم يهب علينا محملا بعطر شجرة "ذقن الباشا" المجاورة فيخفف عنا وقدة قيلولة الصيف وينعش أرواحنا وأجسادنا، والقرية من حولنا هاجعة خاملة. ومما قرأته فى تلك الفترة أيضا روايات المنفلوطى بطباعتها الفاخرة وورقها الصقيل وحروفها الكبيرة وهوامشها التى تشرح ما غمض من ألفاظ، و"عبقرية محمد"، وكتاب عن فن القراءة من ترجمة الدكتورة سهير القلماوى، و"علم الفراسة الحديث" لجرجى زيدان، وقد لخصته أيضا ونسخت فى ذلك التلخيص الصور التى كانت فيه... إلخ.

 هل تتبع طريقة معينة فى تصنيف الكتب فى مكتبتك؟
 طبعا، وإن كانت طريقة تقريبية لا طريقة منهجية كتلك المتبعة فى المكتبات العامة: فمثلا رتبت دواوين الشعر حسب العصور، بخلاف كتب نقد الشعر مثلا، إذ اكتفيت بجمعها فى رفوف متجاورة. ونفس الشىء فعلته بالنسبة للكتب الخاصة بفن القصة نقدا تطبيقيا أو شرحا نظريا، وتلك الخاصة بفن المسرحية، وكتب التراجم، وكتب اللغة، والكتب الإسلامية، وكتب ترجمات القرآن... ومع ذلك فإن هذا النظام ينكسر بين الحين والحين، وبخاصة مع تتابع شراء الكتب وضيق المكان. وهناك دولاب كبير جدا خاص بالمعاجم ودوائر المعارف، وهى كثيرة جدا عندى وتتجاوز المائتين.

ولكن أحب أن أُسِرّ لك فى أذنك أننى أصبحت أعتمد على المشباك (النت) كثيرا جدا فى مطالعة ما أريد من كتب، وبخاصة كتب التراث أو كتب ترجمات القرآن وكتب التفسير والحديث والمعاجم والكتب الأجنبية التى أجد لها نسخا مصورة أو منسوخة على الكاتوب (الكمبيوتر)، وهو ما يسهل علىّ عملية القراءة والكتابة والنسخ والاقتباس بما لا يمكن تصوره بحال، ولا أرجع إلى مكتبتى إلا حين أعجز عن العثور على ما أريد من كتب.

ومن ثم فإن زوجتى تلح علىّ أن أتبرع بكتبى لمكتبة الكلية، لا حرصا منها على الصالح العام بالدرجة الأولى، بل كشأن كل زوجة تضيق بوجود الكتب فى البيت ومزاحمتها كل شىء وزحفها إلى غُرَف النوم والمطبخ والشرفة، رغم أنها (أى زوجتى لا الغُرَف طبعا) حاصلة على الماجستير فى الدراسات الإسلامية، وكانت تتابع ما أكتب أول إنسان بحكم قيامها مشكورة بتبييض ما كنت أؤلفه قبل أن أتحول إلى استخدام الكاتوب فى عملية التأليف ولا أحتاج بالتالى إلى تسويد أو تبييض، بل أكتب عليه ما أؤلفه مباشرة دون ورق وقلم، وكذلك رغم أنها من القارئات، وإن كانت قراءتها تقل مع الأيام وتتجه نحو القراءة الخفيفة بوجه عام، وأخيرا وليس آخرا رغم أنها لم تضق فى أى يوم من الأيام بانصرافى معظم الوقت إلى القراءة والتأليف، بل تسعد بذلك أيما سعادة، وبخاصة أننى كثير الخروج معها هى والأولاد فى نزهات خلوية وسفريات كثيرة إلى المدن المصرية المختلفة، فأنا قد ورثت حب السفر والتنقل من أبى رحمة الله عليه. وكنا، ونحن فى الطائف، قلما يمر يوم دون أن ندور بالسيارة حولها فنصل على الأقل إلى السيل والحويّة عند الغروب، وكثيرا ما ذهبنا إلى مكة، وإلى جدة، التى اشتريت من سوق الحراج فيها طائفة من الكتب القيمة قلما توجد فى مكتبة خاصة مثل ترجمتَىْ محمد حميد الله وصلاح الدين كشريد للقرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، ومعجم "تكملة المعاجم العربية" للمستشرق رينهارت دوزى فى أصله الفرنسى.

أما الصحف فلم أعد أشتريها بتاتا ولا أطيق قراءتها فى الورق، مكتفيا بمطالعة ما أريد مطالعته من صحف عربية وإنجليزية وفرنسية على المشباك، تلك النعمة التقنية التى أكرم الله بها البشرية فى عصرنا هذا وجعل منها متعة عظيمة لمن يقرأون ويكتبون، وهى نعمة لا أظننا نقوم أبدا بواجب الشكر له سبحانه عليها، إذ هيأ لنا من العلماء والمخترعين من استطاعوا صنع هذه المنجز الحضارى الذى لا يقدَّر بثمن والذى لا يستفيد العرب والمسلمون منه للأسف كما ينبغى بسبب كراهية جمهورهم عموما فى تلك الفترة العجيبة من تاريخهم للقراءة والعلم سابحين بذلك ضد تيار الإسلام رغم أنه هو الدين الوحيد الذى يحض على القراءة والسعى فى طلب العلم ويجعله أفضل ألوان العبادة ويطالب بالاستزادة منه إلى غير ما حد. ولكن ماذا نقول؟ "نسأل الله السلامة" بتعبير خطيب المسجد الذى أصلى فيه الجمعة بجوار بيتى فى القاهرة، تلك العبارة التى يكررها فى كل خطبة عدة مرات، وفى ألم وحرقة، كلما تحدث عما يغضبه من سلوك جماهير المسلمين فى أمر من الأمور.

 هل للدوريات الثقافية نصيب من مكتبتك؟
 لا، إذ لا أشترى أو أقتنى أية دورية إلا إذا كان فيها موضوع يهمنى الاطلاع عليه والكتابة فيه. ومن هنا فلن تجد فى مكتبتى قسما خاصا بالدوريات.

 هل فى مكتبتك مخطوطات؟
 الإجابة هذه المرة أيضا بـ"لا". بل إنى لم أفكر فى تحقيق شىء منها رغم أن بعض ما أشرف عليه من رسائل جامعية عبارة عن تحقيق مخطوطة مصحوب بدراسة عنها، وإن كنت صححت بعض ما رأيته محتاجا إلى التصحيح فى تحقيق د. عبد القادر المهيرى لمخطوطة "كتاب النمر والثعلب" لسهل بن هارون، الذى اعتمد فى تحقيقه على نسخة وحيدة كما قال فى مقدمة كتابه. وقد وقع فى يدى ذلك الكتاب وأنا أقلب النظر فى رفوف مكتبة كلية التربية بالطائف فى السداد قبل أن تنتقل إلى الحويّة مع استقلال فرع الطائف عن الجامعة الأم فى مكة المشرفة وصيرورته جامعة مستقلة، وذلك بعد تركى السعودية بفترة. وقد قمت بترجمة الفصول المكتوبة عن الكتاب بالفرنسية، إذ كان تحقيق الكتاب بالإضافة إلى تلك الدراسات التى ترجمتُها هى الرسالة التى حصل بها المهيرى على الدكتورية من فرنسا.

ولم أكتف بترجمة تلك الفصول، بل أضفت إليها عدة فصول أخرى تناولت فيها ترجمة نص "النمر والثعلب" وتحقيق المخطوطة لمعرفة مدى توفيق الكاتب فى هذا وذاك، مع مقارنة الكتاب من الناحية الفنية بكتاب "كليلة ودمنة". ولا شك أنها كانت مجازفة منى أن أدلى ببعض الملاحظات عن التحقيق دون أن يكون فى يدى نص المخطوطة، بيد أنى اعتمدت على إحساسى بأسلوب ذلك العصر، وأرجو ألا أكون قد أفسدت الأمر، وإن كنت أستبعد ذلك نظرا إلى ما التزمته من حذر شديد، فضلا عن قلة الملاحظات التى أبديتها.

وقد صدر الكتاب منذ سنتين رغم أنى انتهيت من تأليفه وأنا فى السعودية قبل خمس عشرة سنة على الأقل، بل رغم أن الكتاب كان مصفوفا على الكاتوب منذ ذلك الحين، ولم يكن ينقصه إلا أن نسحبه على المطبعة فقط. وعلى ذكر هذا الكلام أقول إننى ما زال عندى بعض كتب أخرى مصفوفة أيضا على الكاتوب وتنتظر أول فرصة لسحبها. ولو كانت مطبوعة على قرص لكنت أنزلتها فى موقعى ليقرأها القراء، دون انتظار لطباعتها على الورق، كما فعلت مع عشرات الكتب والدراسات الأخرى التى لم يتم إخراجها حتى الآن فى ثوب ورقى والتى كنت أكتبها بنفسى وأنشرها أولا بأول فى المواقع المشباكية المختلفة.

 هل بالإمكان أن تعطينا لمحة سريعة عن أبرز الكتب التى تشكل رافدا معرفيا لك؟
 كنت وأنا فى الجامعة أتصور أن بإمكانى القراءة فى كل فروع المعرفة، وبخاصة أن العقاد كان يتكلم عن قراءته فى كل تلك الفروع تقريبا، وكنت أشعر بالإحباط لأن الوقت لا يسعفنى ولأن مؤلفات العلوم الطبيعية لا تجذبنى كثيرا ولا أستطيع أن أتابعها أو أفهمها بنفس الطريقة التى أتابع بها وأفهم الدراسات الإنسانية، وعلى رأسها الأدب والنقد والفكر الإسلامى وما إلى ذلك مما هو من صميم تخصصى الجامعى. ولما سافرت إلى بريطانيا كنت حريصا على شراء بعض أمهات الكتب العلمية والمعاجم والموسوعات المتعلقة بذلك. لكنى انتهيت إلى أنه ينبغى التركيز على تخصصى العلمى مع القراءة خارجه كلما اقتضى الأمر ذلك فقط.

وقد ظهر هذا مثلا وأنا أؤلف كتابى: "مصدر القرآن"، إذ كان علىّ أن أتناول اتهامات بعض المستشرقين والمبشرين للرسول عليه السلام بأنه كان مصابا بالصَّرْع أو الهلاوس الفكرية أو الهستريا أو أنه كان واهما مخدوعا يتصور ما ينبثق من اللاشعور عنده وحيا إلهيا، فرجعت إلى عدد من الكتب والموسوعات والمعاجم الطبية والنفسية لكى أبين أن كل ما يقال فى هذا الصدد ليس سوى كذب بواح. ولكنى لم أتوسع فى المسألة أكثر من ذلك.

وبالمثل فعندما كتبت ونشرت فى المواقع المشباكية المختلفة منذ عدة شهور دراسة طويلة جدا (هى فى الواقع بمثابة كتاب كامل) أدافع فيها عن سيدنا رسول الله وأستبعد أن يكون السم الذى دسَّتْه اليهودية فى طعامه عقب غزوة خيبر قد تسبب فى موته، وجدت لزاما أن أرجع إلى بعض البحوث المنشورة على المشباك حول السموم وتأثيرها على البشر... وهكذا. ومع ذلك ففى مكتبتى بعض الكتب العلمية الموجهة للقارئ غير المتخصص فى الطب والطبيعة والفلك وما إلى هذا، وعلى رأسها كتب د. عبد المحسن صالح، الذى كتبتُ عن أسلوبه العلمى المتأدب مقالا نشرته مجلة "البيان" الكويتية فى أوائل سبعينات القرن الفائت.

 هل تستطيع أن تذكر لنا بعض أسماء الكتب التى أُهْدِيَتْ إليك؟
 لعل أول كتاب أُهْدِىَ لى من مؤلف كبير هو كتاب "العصر العباسى الثانى" للدكتور شوقى ضيف. ولهذا الإهداء قصة، فقد كنت طالبا آنذاك بالفرقة الثالثة بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة، وحدث أن سألت الأستاذ الدكتور بين نِصْفَىِ المحاضرة سؤالا عن كتاب "الأغانى" لأبى الفرج الأصفهانى، ولم يعجبه السؤال ظنا منه أن صاحبه (الذى هو أنا) طالب لا يعرف شيئا عن ذلك الكتاب، وقد اتضح هذا من جوابه على سؤالى بعد عودتنا لاستكمال النصف الباقى من المحاضرة.

وغاظنى الرد وعددته مسيئا لى، فقد كنت شَغِفًا بـ"الأغانى" وأقرؤه بشهية واستمتاع، فخرجت وراءه إلى حجرة المدرسين وشرحت له مقصدى من السؤال، ثم شفعته بأن الأساتذة إذا كانوا قد وضعوا أصابعهم العشرة منا فى الشق، فقد وضعنا منهم نحن الطلبة أصابعنا العشرين: أصابع أيدينا وأرجلنا معا، لأنهم ينصرفون عنا ولا يهتمون بنا الاهتمام الكافى. وكان ذلك فى حضرة زميلتين بدا عليهما الاستغراب الشديد لطريقتى فى الكلام مع الأستاذ الدكتور، غير أنى لم أبال، ربما اطمئنانا إلى كرم نفسه، فضلا عن شِرّة الشباب واندفاعه.

ثم لم أكتف بهذا، بل كتبت له رسالة بنفس المعنى وبنفس عبارة "الأصابع العشرة والأصابع العشرين" المضحكة وسلمتها له بعدها بيوم، واجتهدت أن يكون أسلوبها أدبيا قدر ما أستطيع، ثم جلست فى المحاضرة التالية فى أول صف بقاعة الدرس، وكلى تحفز. وما إن دخل، رحمه الله وأكرمه إكراما جميلا بقدر نبله وتواضعه وتشجيعه لى وصبره علىّ وفتح منزله فى وجهى دائما، حتى اتجه نحوى ومال علىّ كيلا يسمعه غيرى وهو يقول إنه قرأ الخطاب، وإنه مسرور منى وسوف يهدينى أحد كتبه، وهو ذلك الكتاب. وبالفعل أحضر لى بعد يومين الكتاب المذكور، وقد كتب عليه: "إلى السيد الصديق...". آسف، دعنى أيها القارئ أنظر فى الكتاب ذاته الذى تصادف الآن وجوده إلى جوارى مع عشرات من الكتب كنت أنظر فيها وأنا أؤلف دراستى النقدية عن كتاب عن الأدب العربي للمستشرق البريطانى هاملتون جب، وهى الدراسة التى أرجو أن أنشرها قريبا فى كتاب بعنوان "مدخل إلى الأدب العربى لهاملتون جب: قراءة نقدية"، وها هى ذى العبارة بالنص: "للصديق السيد إبراهيم محمود عوض، مع أطيب التمنيات". وقد أهدانى الأستاذ الدكتور بعد ذلك عددا آخر من كتبه أثناء زياراتى له فى منزله أيام أن كان يقطن حى الروضة الجميل بالقاهرة. كذلك أهدانى الشيخ محمد الغزالى بعض كتبه عندما كنت أؤلف مقالا عن أسلوبه نشرتُه فى منتصف سبعينات القرن الماضى فى مجلة "الثقافة" المصرية التى كان يرأس تحريرها وقتئذ الدكتور عبد العزيز دسوقى، جزاه الله خيرا.

ومن الكتب المهداة لى أيضا بعض مؤلفات كل من الدكتور مصطفى الشكعة والدكتور عبده بدوى والدكتور إبراهيم عبد الرحمن، والدكتور جابر قميحة، الذى كتب عنى بسماحةِ نفسٍ مقالا أعطانى فيه أكثر مما أستحق ونشره فى كل مكان، والدكتور البدراوى زهران، الذى أرسل لى كتابه عن "مقدمة فى فقه اللغة العربية" قبل موته بأيام، هذا الكتاب الذى كان أحد مراجعى لدراستى الكبيرة التى فندت فيها كتاب لويس عوض ونشرتها على المشباك منذ أشهر قليلة، والدكتور عثمان جمعة ضميرية العالم السورى المعروف الذى كتب فى الصحف السعودية أكثر من مقال عنى وعن مؤلفاتى والذى كثيرا ما أعارنى ما أحتاجه من كتبه فى الطائف حتى لقد ذهبت إلى بيته ذات ضحى وحملت من مكتبته ملء "زنبيلين" كبيرين حويا ستين كتابا للاستعانة بها فى تأليف كتابى عن المجاز فى القرآن الكريم بين منكريه ومثبتيه، والدكتور عيسى العاكوب، وهو زميل سورى أيضا، وكنا نعمل معا فى جامعة قطر منذ سنتين، ود.

حسام الدين الخطيب أستاذ الأدب المقارن المعروف، والدكتورة سلامة السويدى وكيلة آداب قطر فى ذلك الحين، والدكتور حجر بنعلى، وزير الصحة القطرى الذى لا تزال الاتصالات بيننا متواصلة على الهاتف أو على البريد المشباكى، والدكتور يوسف عز الدين، الذى يعيش الآن فى ويلز ببريطانيا ويهاتفنى مشكورا بين الحين والحين، وكلما زار مصر رفع سماعة الهاتف ليخبرنى بحضوره فنتقابل ونتجول فى بعض أحياء القاهرة، أو نذهب إلى بيتى.

وهذا إلى جانب الإهداءات الكثيرة التى يتكرم بها زملائى وأصدقائى وبعض من لا تربطنى بهم صلة سابقة من الأساتذة والشعراء والقصاصين والنقاد، وآخرهم الأستاذ وسيم سلامة، وهو زجال من مدينة دسوق أحسن الظن بى فأرسل لى على غير معرفة بيننا ديوانين صدرا حديثا له فقرأت بعض قصائدهما ووجدت فيها فنا جميلا، وهو ما شكرته عليه بالهاتف وأخبرته أن الصورة الزجلية التى أبدعها قلمه فى ديوان "دلع الأسامى" بعنوان "السوق فى دسوق" تذكرنى بــ"الليلة الكبيرة" لصلاح جاهين، وإن كانت أقصر منها، وأنه لو أعاد النظر فيها وأضاف إليها تفصيلات أخرى مما يجرى فى ذلك السوق، إذن لما قصّرت عن رائعة جاهين. والحق أن هذه الإهداءات تزين مكتبتى وتضفى عليها قيمة وبهجة وتنفث فيها بل فى البيت كله شذى الود الجميل. وأنا حريص على قراءة كل ما يُهْدَى إلىّ ولو قراءة تصفح، على الأقل ردا للمعروف الذى أولانيه صاحب الكتاب، ولكى يمكننى الجواب لو سألنى عن رأيى فيه.

وأحيانا ما أكتب عن بعض تلك الكتب أو أشير إليها باهتمام فى مؤلفاتى بوصفها من المراجع التى أفدت منها كما فعلت مع بعض دواوين كل من د. عبده بدوى ود. أحمد تيمور، وبعض روايات أ. فؤاد حجازى، وبعض أعمال أ. يوسف الشارونى، وبعض مسرحيات د. هشام السلامونى على سبيل المثال، وبعض دراسات كل من الدكتور حسام الدين الخطيب والدكتور عبد العزيز نبوى والدكتور محمد عبد العزيز الموافى... إلخ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى