الاثنين ٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم حسن توفيق

من مقامات مجنون العرب

الإمبراطور طائش بن راعش..يقتلع الحشائش ويرتكب الفواحش

قال المجنون لنفسه إن «المؤمن القوي خير من الضعيف».. وإن من يرى يميز بين العقربة والرغيف.. كما يستطيع بالطبع أن يميز بين الأصدقاء.. وبين سواهم ممن يواجهونه بالعداء.. لهذا رفض المجنون استسلام زهير بن أبي سلمى.. لواقعِ أنه قد أصبح أعمى.. فاصطحبه بكل هدوء وروية.. إلى إحدى العيادات الطبية.. ودخل معه إلى غرفة عليها ستائر مسدلة.. وفيها أكد رجل يرتدي «بالطو» أبيض أنه سيحل المشكلة.. وبدأ عمله باسم الله.. ثم أمسك جهاز ليزر بكل انتباه.. وأخذ يحركه من اتجاه لاتجاه.. وبعد دقائق قليلة.. نهض زهير بن أبي سلمى بقامته الجليلة.. وتحققت معجزة العلم الحديث.. بشكل فعال وحثيث.. حيث هتف زهير بصوت فرحان.. الآن - والحمد لله - لم أعد من العميان.

في الفجر تتراقص النسمات الجميلة.. وتطير الطيور من خميلة إلى خميلة.. ويصحو من النوم الناس.. رغم اختلاف الألوان والعقائد والأجناس.. لكي يستقبلوا الحياة بكل حب.. متمنين أن تظل الأرض لهم واحات خصب.. وأن تختفي من أجوائها أشباح الرعب.. لكن الفجر الجديد الذي أطل.. كان له مذاق الخل.. فقد ترددت فيه صيحات منذرة بالويل.. فصرخ زهير: ما هذا الذي أراه؟.. النار تندفع من كل اتجاه.. والغربان لا تكف عن النعيق.. ورياح الشر تجتاح الطريق.. انظر يا مجنون إلى السماء.. إني أرى أشباحا سوداء.. تتلذذ بسفك الدماء.. آه.. أكاد أصاب بالحمَّى.. يا ليتني بقيت أعمى!.

رغم اشتداد العاصفة القاصفة.. ورغم تأرجح أصحاب القلوب الخائفة.. ترددت بكل قوة.. كلمات أعادت المجنون إلى زمن المجد والفتوة.. فامتلأ قلبه بالحماسة والنشوة.. وبلحن السنباطي وصوت أم كلثوم.. انزاحت من القلب الهموم:

بغداد يا قلعة الأسودِ

يا كعبة المجد والخلودِ

يا جبهة الشمس للوجودِ

سمعتُ في فجرك الوليدِ

توهج النارِ في القيودِ

وبيرق النصر من جديدِ

يعود في ساحة الرشيدِ

بغداد يا قلعة الأسودِ

قد آذنَ الله في علاه

أن ينهض الشرق من كراه

ويرحل الليل من سماه

وتسطع الشمس من جديدِ

من أمسنا الثائر البعيدِ

بغداد يا قلعة الأسودِ

.. ترقرقت على خدي زهير قطرات دموع.. وقال: لا ينبغي على الإنسان الركوع.. إلا إلى الله وحده.. فهو هازم الشيطان وحده.. وهو الذي يرسل جنده.. وبعد قليل طرح زهير أقسى سؤال: ما الذي أوصل العرب إلى هذا الحال؟.. وفي الحال
تنحنح ثم قال:

«وأعلمُ علمَ اليوم والأمسِ قبله

ولكنني عن علم ما في غدٍ عَمي

ومَنْ يغتربْ يحسبْ عدواً صديقه

ومَنْ لا يكَرِّمْ نفسَهُ لا يُكَرَّم»

لم يشأ المجنون الإجابة.. حتى لا تغزوه سحب الكآبة.. فهو يدرك أن الحال لا يَسرّ.. بعد أن مزجَ التزييفُ الخير بالشر.. وبعد أن استكان كل ذليل تابع.. لما يقرره أصحاب المطامع.. لدرجة أن أحد الجبناء البلداء.. أخذ يستجدي الطامعين اللؤماء.. منذ أن وعدهم بأن يتحول من إنسان إلى فأر.. ينام قانعا في أعماق الجحرُ.. دون أن يميز الإنسان العبد من الحر.

التفَّتْ على زهير بن أبي سلمى أفعى الظنون.. فطلب من المجنون.. أن يشرح له ما كان وما قد يكون.. وهنا صرخ المجنون:

الجبنُ ينخر دنيانَا مع الكذبِ

فاحرسْ ضميرك واحملْ راية الغضبِ

وقُلْ لمن جبنوا لم يبق من أملٍ

يحيا به الناسُ مُذْ ذلُّوا لمغتصبِ

.. من كل الاتجاهات.. ترددتْ أصوات.. كلها تؤكد أن طوفان الطغيان.. يهدد إنسانية الإنسان.. في كل زمان ومكان.. ولكي ينجح الناس في صد الطوفان.. لا بد أن يدركوا معنى الكرامة.. وأن يتحولوا من الجبن إلى الشهامة.. أما إذا ظلوا جبناء.. ورضوا بأن يعيشوا أذلاء.. فإن الطاووس الذي يمشي بخيلاء.. وينظر للناس باحتقار وازدراء.. وهو الإمبراطور طائش بن راعش.. سيظل يقتلع الخضرة والحشائش.. ويرتكب ما يرتكب من فواحش..

الإمبراطور طائش بن راعش..يقتلع الحشائش ويرتكب الفواحش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى