الثلاثاء ٢٥ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم حسن توفيق

نبوءات الشعراء الملهمين

أصدق من تحليلات المفكرين والسياسيين

أيها الشعر.. يا أيها الفرح المختلس- كل ما كنت أكتب في هذه الصفحة الورقية- صادرته العسس.. هذا ما قاله أمل دنقل في قصيدة من أوراق أبي نواس وكان أبناء جيلي معجبين كل الاعجاب باقتران الشعر بالفرح الذي يختلسه الانسان من بين ركام الحزن الذي يحيط بالجهات كلها، فالحق أن أعماق الشعراء تظل حزينة ومتألمة، حتي وان اكتست ملامح وجوههم بما يوحي بالفرح ، وكما قال الشاعر الرومانسي الرقيق بيرسي شللي انه يحل بين جوانحه شهوة إصلاح العالم فكذلك يشعر هؤلاء جميعا، وهم يتأملون ما حولهم من خطايا وأخطاء ونقائص، وما تحفل به الحياة ذاتها من متاهات وصراعات ونقائض.

لو أننا جمعنا ما قاله الشعراء وما سيقولونه خلال الاحتفال المتجدد باليوم العالمي للشعر، فإننا سنجد أن الحزن سمة مشتركة بين ما قيل وما سيقال، لأن الشاعر الحقيقي لا يقنع بما يري حتي وان كان جميلا، فإذا كان ما يراه قبيحا فإنه يسعي لأن يجعله جميلا، وإذا كان بالفعل جميلا فإنه يطمع في أن يراه أجمل، وهذا هو الفارق الجوهري بين الفن الذي يريد الوصول إلي المستحيل وبين السياسة التي تقنع بالممكن وفقا لمقولة خذ .. وطالب !

دون انحياز للشعر ضد السياسة،فإن الشواهد كلها تؤكد أن نبوءات الشعراء الملهمين- وهم ليسوا بالطبع كثيرين- تبدو أعمق وأصدق من تحليلات المفكرين والسياسيين، لأن الشعر يستطيع أن ينفذ إلي ما هو أبعد بحدسه النقي، أما المفكر فإنه ينظر من خلال وقائع مرحلة معينة،بينما السياسي لا يهتم إلا بما حوله مباشرة، وقد يكون ضيق الأفق فلا يري أبعد من موطيء قدميه.

منذ أقدم العصور، يحاول الشعراء أن يحثوا سواهم علي كل ما من شأنه أن ترتقي حياة الإنسان فوق

الأرض، ابتداء من دعوة زهير بن أبي سلمي الي إحلال السلام بدل الحرب، وهي دعوة مبكرة اطلقها الشاعر العربي منذ قرون من الزمان الي حث المتنبي للمقهورين بألا يستسلموا لما يتعرضون له من قهر وهوان، لأن من يسهل يسهل الهوان عليه - ما لجرح بميت إيلام ومن المتنبي العبقري الي شعراء العالم الكبار، نجد أن دعوات المحبة تتكرر، وان مجابهة الظلم مطلوبة في كل الأحوال، حتي لو كانت المجابهة بأضعف الايمان، وهذا ما يتردد في قصائد الشعراء الذين توجهوا الي الانسانية رغم اختلاف جنسياتهم والوانهم وعقائدهم، ومنهم رابندارانات طاغور - الهندي وفيديريكو جارثيا لوركا - الاسباني وفلاديمير مايكوفسكي - السوفييتي وبرتولت بريشت - الألماني وناظم حكمت - التركي.

في إحدي قصائده الشهيرة - من ترجمة الدكتور عبدالغفار مكاوي - يقول برتولت بريشت موجها كلامه لأبناء الأجيال المقبلة: .. انتم يامن ستظهرون - بعد الطوفان الذي غرقنا فيه - فكروا عندما تتحدثون عن جوانب ضعفنا - في الزمن الأسود الذي نجوتم منه - لقد كنا نخوض حروب الطبقات - ونهيم بين البلاد - ونحن نغير بلداً ببلد - أكثر مما نغير حذاء بحذاء - يكاد اليأس يقتلنا - حين نري الظلم أمامنا - ولا نري أحداً يثور عليه.. . ومن هذا المنطلق ذاته يمكننا أن نعود مع الزمان بعيدا لنسمع صرخة أبي فراس الحمداني التي تتشابه في بعض ملامحها مع ما قاله بريشت:

ونحن أناس لاتوسط عندنا

لنا الصبر دون العالمين أو القبر

يستطيع الشاعر الملهم - لا المزيف المتشاعر - أن يتنبأ، ويمكن أن يقول وهو يري المصائب والكوارث المحدقة بالجميع .. رعب أكبر من هذا سوف يجيء.. ويمكنه إذا عدنا كذلك مع الزمان أن يردد ما قاله طرفة بن العبد:

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

ويأتيك بالأنباء من لم تبع له

بتاتا ولم تضرب له وقت موعد

لعمرك ما الأيام إلا معارةً

فما استطعت من معروفها فتزود

عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه

فإن القرين بالمقارن يقتدي

يوم عالمي للشعر فيه تخصيص، وفيه تكريم للشعراء دون سواهم، لكن الشعر في الحقيقة فن من الفنون التي تسمو بالانسان، وترفعه مما يشترك فيه مع الحيوان الي منزلة أعلي وأرقي.. فإذا كنا نحتفل بالشعر فعلينا كذلك ألا ننسي: الموسيقي.. الفنون التشكيلية.. الأدب بصفة عامة.. ولكن بشرط واحد أساسي هو أن تكون كل هذه الفنون نابعة من قلب انسان مبدع الي قلوب بني الانسانية اجمعين، دون تعصب مقيت، ودون تفاخر سخيف، وهذا الشرط لا يستطيع أن يحققه الا النضال الأصيل وحده.. وتحية للشعر في يومه العالمي.. تحية للفرح المختلس.

أصدق من تحليلات المفكرين والسياسيين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى