الجمعة ٣٠ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم حسن توفيق

هل النساء محتاجات لمن يدافع عنهن من الرجال؟!

جابر عصفور.. أتقن دور المحامي البارع!

انظر وراءك في غضب.. .. صرخة أطلقها عاليةً كاتب غير عربي في الستينيات من القرن العشرين، وقد وجدت هذه الصرخة صدي عميقاً لها في زمانها وامتدت من مكانها إلي أماكن أخري عديدة، أما من أطلق هذه الصرخة فهو الكاتب البريطاني جون أسبورن الذي اشتهر فجأة وقتها، ثم اختفي بنفس الصورة الفجائية. علي نقيض انظر وراءك في غضب فإن الكاتب العربي - المصري الكبير الدكتور جابر عصفور سئل بعد أن غادر موقعه الثقافي الفعال إلي موقع ثقافي آخر عن شعوره الوجداني، فقال بمنتهي البساطة والحسم: عندما أنظر خلفي أشعر بالرضا.. .. لماذا هذا الشعور بالرضا؟

الإجابة ليست وجدانية، فصاحبها يستند إلي واقع تحقق، وأصبح بنيانه شامخاً أمام الجميع ممن يعملون ومن يتفرجون علي من يعملون - يقول جابر عصفور لمحاوره محمد شعير: عندما أنظر خلفي أشعر بالرضا عما أنجزت طوال الأربعة عشر عاماً التي قضيتها أميناً عاماً للمجلس الأعلي للثقافة، لم أحوله فيها إلي جهاز دعائي أو سياسي.. هذا أولاً.. وثانياً.. فإن طبيعة المركز القومي للترجمة أقرب لطبيعتي الأكاديمية من عملي في المجلس.. .

في أي موقع كان أو يكون، فإن جابر عصفور بذل ويبذل جهوداً غير عادية، لكي يظل يتابع ما يجري داخل وخارج عالمنا العربي، وبالذات في قضايا الفكر والثقافة، وهي ليست متابعة قاريء للجرائد والمجلات، وإلا كانت المسألة هينة ولينة، وإنما متابعة المثقف الذي يعرف أنه مكلف - بالالتزام وليس بالإلزام - أن يستوعب وأن يستكشف ويحلل ويستنبط، لكي يظل الرهان علي المستقبل برغم كل المستنقعات والظلمات قائماً إلي أن يتحقق الفوز لهذا الرهان.

لم تستطع أعباء عمله وشواغل مسؤولياته المتعاقبة كالأمواج أن تزهده فيما يحب.. أن يكتب وأن يقدم رؤيته المتعمقة، بصرف النظر عمن يرضي أو يغضب، ومع كل كتاب جديد يصدره، كنت أحس بأنه ينتصر علي نفسه أولاً، لأنه لم يسمح للأعباء والشواغل أن تجعله يتكاسل عن أداء رسالته باعتباره كاتباً ومثقفاً مستنيراً واعياً.

مساء الأحد 20 مايو 2007 كنت أنتظر قدومه في مطار الدوحة الدولي علي الرغم من أن الزحام البشري المتعدد الجنسيات والأديان والألوان كان علي أشده، فإنه لمحني ولمحته في آن واحد.. واندفعنا للعناق، فقد مرت سنتان علي آخر لقاء بيننا في القاهرة.. طلب مني أن أزوره فيما بعد في فندق ريتز كارلتون لكني لم أشأ أن أرد بشكل حاسم، وهكذا وعدته بالزيارة بصورة فيها قدر لا بأس به من المراوغة، وحين أحسست حقاً أن الوقت قد تأخر وأنا ما زلت أؤدي عملي في الراية بادرت بالاتصال به، وأفهمته أني مشغول عنه لا بسواه، وإنما مشغول عنه به، وقد أسعدني دون أن أفاجأ أنه أدرك ما أعنيه.

عدت إلي البيت، وشرعت علي الفور في استكمال قراءة كتاب جديد للدكتور جابر عصفور، هو كتاب دفاعاً عن المرأة الذي صدر في شهر مارس الماضي ضمن سلسلة كتاب اليوم ، وكان الصديق الشاعر الدينامو شعبان يوسف هو الذي نبهني إلي صدور هذا الكتاب يوم صدوره. سألت شعبان يوسف بعد أن اشتريت نسخة من دفاعاً عن المرأة : هل تعتقد أن الدكتور جابر قد تحول من كاتب مستنير كبير إلي محامٍ بارع؟.. ولأني وجهت السؤال بمنتهي الجدية كان لا بد للشاعر الصديق أن يضحك وأن يقهقه عالياً، ثم أجاب: لقد التهمت الكتاب في ليلة واحدة.. ومن خلال قراءتي تيقنت أنه محامٍ بارع بالفعل إلي جانب كونه كاتباً مستنيراً.

حين عدت من القاهرة للدوحة، اعترف بأني لم ألتهم الكتاب - كما فعل شعبان يوسف - في ليلة واحدة، بل إن طريقة قراءتي كانت غريبة حقاً، فقد قرأت المقدمة، وكادت تمنعني من قراءة الكتاب، ثم قرأت آخر فصول الكتاب، وهو بعنوان الحب الأول .. وهنا أحسست بأني قد وضعت نفسي في موقف حرج، لأني وقفت علي ضفتي نهر، ضفة المقدمة التي كتبتها الكاتبة نوال مصطفي وضفة الحب الأول وكان لا بد أن أتابع النهر من البداية إلي النهاية.. من المنبع حتي المصب.. وهذا ما فعلت.
في مقدمتها للكتاب حاولت نوال مصطفي أن تتلاعب لغوياً بمعني عصفور ولهذا قالت: .. والآن يسعدني أن نحظي ببعض هذا التغريد الممتع للعقول.. المنشط للفكر.. الباعث علي التأمل.. بدَا الأمر مقبولاً عندي بدرجة ما، لكن كاتبة المقدمة سرعان ما كتبت .. والآن أترككم تستمتعون بسطور كتاب دفاعا عن المرأة .. الذي اعتبره هدية لكل امرأة مصرية وعربية في شهر مارس الذي يشهد أعياد المرأة جميعاً.. اقرأوا واستمتعوا.. .. هنا أحسست بأن نوال مصطفي تريد أن تبعدني بل أن تمنعني من قراءة الكتاب، طالما أنه هدية لكل امرأة مصرية وعربية، وأنا لست كذلك بالطبع.. وهكذا ابتعدت بالفعل عن كل فصول الكتاب، منجرفاً إلي الفصل الأخير علي وجه التحديد لأنه - كما قلت - يتحدث عن الحب الأول وقبل أن أقرأ تساءلت بسرعة: هل يروي جابر عصفور حكاية حبه الأول؟.. هل سيجرؤ علي أن يكتب بقلمه ما كان منه ومعه أيام صباه؟.. واندفعت، بل انجرفت في القراءة، وهنا أحسست بالشماتة.. قلت لنفسي: إنه لم يفعلها.. لم يتجرأ!.. لقد استطاع الفرار مما هو شخصي حميم إلي ما هو عام ولكنه ممتع وجميل.

أقفز الآن إلي النهر ذاته.. بعد أن توقفت عند ضفتيه المتقابلتين.. ها هي أمواج - فصول دفاعاً عن المرأة تتلاحق.. الموجة الأولي من تاريخ المرأة العربية وفيها يقول جابر عصفور: عندما جاء الإسلام بنوره وعدله، أعلي من شأن المرأة، مؤكداً حقوقها - وأحاطتها الشريعة الإسلامية السمحاء بمباديء العدل، وأقرت لها حق الحياة الكريمة بعد أن كانت موضع كراهية منذ ولادتها، ومنحتها نصيبها في الميراث، وحق التصرف في مالها مهما عظم هذا المال.. .. منطلق المحامي البارع ليس مجرد السرد التاريخي بقدر ما هو التغلغل في جوهر الإسلام، بعيداً عن المظاهر والقشور وكل ما يشوه أو يسيء إلي الصورة الناصعة المنبثقة أساساً من الجوهر.

تتوالي الأمواج - الفصول.. خيط دقيق نحسه ولا نراه يربط بينها.. الخيط هو المرأة.. ومرة أخري أتوقف عند فقرة مهمة، تتعلق بما فعله ابن قتيبة في مخاطبة القاريء - الإنسان المتزمت، حيث يشير إلي أن علينا التأكد من رحابة صدر القدماء في أمور لا يزال يضيقها ويحرمها المتزمتون في كل زمان ومكان.. ويظل المحامي البارع يترافع دفاعاً عن المرأة، لكنه لا يترافع بوجه عابس من طراز إذا رأيت نيوب الليث بارزة.. وإنما يترافع بروح متفتحة متسامحة، وقد تنطلق منها دعابة أو دعابات خلال المرافعات.. فهناك مذمة الزوجات النكدات و تدليل أوجيني و مظاهرة النساء وهناك استعادة لمواقف مترافعين شهيرين عن المرأة، هما رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين.. ونظل نتابع ما كتبه جابر عصفور عن المرأة وعلاقاتها ومشاركاتها في مجالات متنوعة، ويمتزج الكاتب الناقد عنده بالمحامي، حين يتحدث عن الحضور الإبداعي للمرأة العربية و فن القصة والمرأة و أستاذتي سهير القلماوي وهي بالطبع ليست أستاذته وحده، وإنما أستاذة أساتذة علي امتداد عدة أجيال عربية، كما يتحدث عن فرحة لطيفة الزيات وعن سجن كاتبتين هما ليلي العثمان وعالية شعيب، إلي أن يخصص الفصول الثلاثة الأخيرة للحب: الحب في هذا الزمان وهو عنوان شهير لإحدي قصائد الشاعر العظيم صلاح عبدالصبور.. و الحب في زمن الانترنت .. ثم الحب الأول الذي حوله المحامي إلي قضية عامة، ولم يتطرق - من قريب أو بعيد - للجانب الإنساني الفردي في حكايته.

لغة هذا الكتاب الممتع والجميل ليست مثقلة بالحواشي والمتون ولا باللوائح والقوانين.. إنها لغة نهر عذب، تتوالي موجاته الصافية بسهولة ويسر من المنبع حتي المصب، وإذا كنت قد استمتعت بما كتبه جابر عصفور دفاعاً عن المرأة فلا بد لي من أن أحييه أولاً، وأن أشاكسه ثانياً، متسائلاً: هل النساء محتاجات لمن يدافع عنهن من الرجال، ولماذا لا يتوكلن بدلاً من أن يتواكلن، ويدافعن عن أنفسهن بأنفسهن بعد أن تغيرت الحياة من حولهن، ولم تعد الصورة هي نفسها في زمان الطهطاوي وقاسم أمين؟!.

جابر عصفور.. أتقن دور المحامي البارع!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى