الاثنين ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨
بقلم عبد الله الحميدي

هل نحن إرهابيون؟

إحنا إيه يا صفية! على وزن مقولة الزعيم المصري سعد زغلول رحمه الله: دستور إيه يا صفية! كلمة نحن فى العنوان لا أقصد بها العرب فقط بل العرب وغير العرب. وأبدأ بإقتباس خمسة نكت من الكاتب العراقي الساخر خالد القشطيني (رسام وقاضى هاجر لبريطانيا منذ سنين عديدة) والهدف من الإقتباس هو التخفيف من هول العنوان.

(سافر السيد أحمد جبر، أحد المعلمين العراقيين، إلى فرنسا ونزل فيها بمدينة صغيرة في الالزاس. وكأي عراقي أصيل ذهب فورا لزيارة مقابر المدينة، فرأى شاهدا يقول: هنا يرقد الكاتب الكبير فرانسوا امانويل. توفي عام 1935 عن عمر بلغ عشرين يوما. استغرب الأديب العراقي ذلك وتساءل، فقالوا له نحن في هذه المدينة نحسب عمر الإنسان بالأيام السعيدة التي
قضاها في حياته. كل الأيام الأخرى نعتبرها هباء ومضيعة. هز الرجل رأسه ومشى. وفي الفندق التفت إلى زوجته، وقال لها لما أموت، اكتبوا على قبري: هنا يرقد المعلم أحمد جبر، من بطن أمه للقبر.

إذا اعتبر القارئ الكريم هذه الحكاية مجرد نكتة، فالحكاية التالية واقعة حقيقية. انشغل برنارد شو أواخر حياته بالبحث عن بيت يناسبه. راح يطوف شتى المدن والقرى الإنجليزية حتى مر بقرية سان لورنس. ورغم أن برنارد شو لم يكن عراقيا، فقد بادر بزيارة المقبرة. وفيها وجد شاهدا يقول: هنا يرقد هنري توماس. مات في عز شبابه في سن الخامسة والسبعين. تأمل الكاتب الكبير في ذلك، ثم قال لنفسه القرية التي تعتبر الخامسة والسبعين سن شباب جديرة بالمرء أن يعيش فيها. فاشترى بيتا فيها وسكنه. وصدق حدسه وتفكيره، فقد عاش في سان لورنس حتى الرابعة والتسعين، ولولا أنه كسرت رجله لربما بقي حيا بيننا حتى اليوم.

لم يوص الكاتب الأمريكي الساخر مارك توين بنقش أي مزحة مضحكة على لوحة قبره ولكنه اشتهر بالتعليق على خبر وفاته. فقد كان حتماً من المحظوظين القلائل الذين قرأوا خبر نعيهم في حياتهم عندما نشرت إحدى الصحف خطأ خبرَ موته. فكتب إليها يوجه أنظارها إلى الخطأ قائلا: لقد كان في نشركم خبر وفاتي بعض المبالغة. (ياسر عبد الوهاب علق بما يلي: مقال رائع غير أن لي وقفة مع تكرار عبارة أن العراقيين أولى اهتماماتهم زيارة القبور وكأن ثنايا كلامك أنها مثلبة وليست منقبة. والحال أن ذلك دلالة أنهم يستحضرون الآخرة في كل لحظة من لحظات دنياهم).

إذا كان الصبر مفتاح الفرج فالضحك دواء الوجع. هذا ما أثبته العراقيون بهذا السيل من النكات التي راحت تتدفق من ألسنتهم وأقلامهم مؤخرا. يسخر الكثيرون فيها من فكرة العودة للوطن. فبعد ثلاثين سنة في المنفى، لم يستطع أحدهم مقاومة شوقه لبغداد. عاد وما كاد ينزل من الطائرة حتى وضع شنطته بجانبه وخر على أرض الوطن ليقبلها ثلاث مرات. وعندما انتهى من قبله عاد واقفا ولكنه لم يجد أي أثر لشنطته.

أصبح كثير من العراقيين يحنون لأيام صدام حسين ويتفهمون حكمتها. انتقل رجل لبيت جديد ولكنه سرعان ما أخذ يتضايق من ديك في مزرعة مجاورة. شكا لجاره معاناته من صياح هذا الديك العتيد الذي لا ينفك من الزعيق ليلا ونهارا. سأله جاره وماذا تريدني أفعل؟ قال اذبحه واتعشى به، وخلينا نرتاح. أجابه الرجل: على العين والراس. فعل ذلك ولكن الصراخ من المزرعة المجاورة لم ينقطع بل ازداد عنفا وعددا وتنوعا. عاد الرجل لجاره مستغربا مما وقع. فأجابه الجار: هذا ما طلبته منا. أردت منا أن نذبح ذلك الديك الشرس. ففعلنا. ولكن، عندنا هنا سبعون ديكا آخر. وكان ذلك الديك العتيد مسيطرا عليها ولا يسمح لأي منها بأن يرفع صوته. ما أن يصيح واحد منها إلا وهجم عليه بمنقاره ومخالبه ونتف ريشه وفقأ عينه. والآن، وبناء على طلبك في ذبحه، ذبحناه ولم يعد هناك أي أحد يستطيع السيطرة عليهم وقطع أنفاسهم وصراخهم ).

لا يستقيم الظل إذا كان العود أعوج. لا نريد إجابة متسرعة. نريد أن نفكر بعقل وحكمة وعلم من أجل الحصول على إجابة شافية وافية. إحترت فى العنوان. إرهابيون أم متطرفون أم غلاظ أم قساة الى آخر ما فى القاموس من كلمات العنف.

تحاشيت الكتابة عن هذا الموضوع لأكثر من 25 سنة. مع العلم أنه من أوائل من كتب بصدق وعلم عن موضوع الإرهاب الكاتب المصري الكبير أحمد أبو الفتوح. تحاشيته لمزيد من التفكير والبحث. وأكتب الآن فقط لتقليل سوء الفهم فى بيئة ربما يسبق فيها سُوءُ الفهمِ الفهمَ.

من ثقالة الدم والسماجة أن يكتب الإنسان عن نفسه بمناسبة وبدون مناسبة. لكن أجدني مضطراً لأوضح أو أزعم بأن العبد الفقير لله كاتب حر مستقل. وكل كتاباتي الكيسة والتعبانة تمثل فقط عبدالله الحميدي. لا أمثل أي جهة أو طائفة أو جماعة أو فرقة. وأكره العنصرية وأحب الشعوب العربية وغير العربية. ومن يعرفني شخصيا يعرف ذلك. وفلسفتي البسيطة الواضحة التي تعلمتها من الحياة والقراءة فى ثلاثة كلمات: العقل والعلم والسلم.

العقل ليعقل النفس ويُلزمها الجادة لتعرف حدودها وطريقها. والعلم حتى لا يتخبط الإنسان فى ظلام الجهل ولينير الطريق أمامه ولا يمسى كحاطب ليل. والسلم (عكس القتال والعنف والحرب) هو الشرط الضروري الكافي للإزدهار والنمو. ولا أكتب مقابل المال. وكم أتمنى أن يأتي اليوم الذى يحصل فيه الكاتب والناشر العربي الحر المستقل على المال الحلال من خلال السوق مقابل جهدهما. بدلاً من الدفع من جيبيهما أو الكدية (نوع من الشحاذة) من أهل الخير لدفع تكاليف الطبع والنشر. أهل الخير والخير فى أمتنا كثير. لكنهم فى الغالب لا يحبذون المساعدة فى طبع ونشر العلوم الإجتماعية والإنسانية والعلمية. فهم يفضلون دفع جزء من صدقاتهم لطبع ونشر الكتب الدينية. مع إحترامنا وتقديرنا لعلم الدين إلا أننا لا ننتقص من أهمية وتقدير العلوم الأخرى. مع الأخذ فى الإعتبار غياب (فى أغلب الوقت) أو تدني التخصص وتقسيم العمل والحوار والعمل كفريق فى المجتمعات النامية. كم كتاب أو موقع إنترنت عربي متخصص فى علم واحد مثل علم النفس التربوي الجماهيري وغيرها من علوم وحقول معرفة جديدة لا أعرف إلا أسمائها وباللغة الإنجليزية؟

لماذا كتبت عن هذا الموضوع الآن؟ يا سيدي إتسع الخِرقُ على الراقع خاصة فى العالم العربي. زادت المأساة وريحة العفونة طلعت من العراق الى المغرب ومن المغرب الى العراق مرورا بكل الدول العربية زائدا ما يحدث من عنف فى بعض الدول الأخرى. ولست من الذين يكتبون مع التيار بدون روية وتفكير. لست ممن قال عنه الشاعر:

وما أنا إلا من غـزية إن غزت
غزيت وإن ترشد غزية أرشد

كم هي صعبة! الكتابة المستقلة المنيرة فى مجتمع يغلب عليه فهم حرية التعبير بأنها حرية تهييج العواطف وتقزيم العقل. والسب والشتم لغياب قانون التشهير وإساءة السمعة. فتراه يصفق غير قليل منه للغانية ولاعب كرة القدم ويشتم من خالفه وجهة الفكر والنظر من أصحاب العلم والقلم. وهذه الأيام كثر الحديث عن الجزم. القنادر (جمع قندرة) كما تنطق فى العراق أو كندرة كما كنا نقولها فى الحجاز. لكننا تطورنا مع الدنيا وجرفنا جارف التيار وصرنا ننظر لمن يقول كندرة بأنه قديم. وأصبحنا نسميها جزمه.

أكرمك الله أيها القارئ الكريم. وكلمة كندرة أصلها غير عربي بل هو تركي كاندورة، كما أفادنا أخونا الكريم المؤرخ والكاتب العراقي رشيد الخيون. الشعرة التي قصمت ظهر البعير الصابر أتت عندما كتب أخونا الكريم المغربي حميد طولست: (فمن الخطأ أن نعتقد أن التقدم الحضاري والرقي في سلم العلم والتعلم يقضي على ظاهرة العنف وتبعاته، و إلا ما تألم المغاربة، إلا من كان به خلل، لمصاب الطفلين الذين ألقت بهما معلمة من أحد طوابق مدرسة ابتدائية بالدار البيضاء، حيث أحدهم بجروح بالغة الخطورة، ونجا الثاني بأعجوبة. إنها حقا لمفارقة مأساوية أن يواجه الأطفال الخطر في الأمكنة التي يفترض أن تكون أكثر أمانا لهم، حيث أصبحوا عرضة للعدوان من طرف الذين من المفروض الاعتماد عليهم في القيام برعايتهم وحمايتهم ).

لا حول ولا قوة إلا بالله. لماذا هذا العنف؟ هل نجد الإجابة فى كتاب (فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب) الذى يُغني عنوانه عن مضمونه؟ لا أعتقد. الطريقة الوحيدة لمعرفة نسبة العنف فى مجتمع ما هي الإحصاءات الإجتماعية الموثقة. الموجودة فى مصلحة الإحصاءات. مثل عدد السرقات والجرائم والاعتداءات الى آخره خلال فترة معينة. وبمقارنة هذه الفترة بفترة أو فترات سابقة نعرف نسب العنف. وهل إرتفعت أم لا؟ بعد ذلك يأتي دور السلطات الثلاث، التشريعية، القضائية، التنفيذية على التوالي.

كثير من الناس يلقون باللوم على حكوماتهم. أن الحكومة هي نتاج وإفراز المجتمع فى تفكيري. وفى الأثر الشريف (كيف تكونوا يُولى عليكم) مع معرفتنا (بأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). الحكومات التى لم تقم بدورها سببه الأساس ضمن أخرى أن الغالبية فى مجتمعاتها أو شعوبها لم تقم بدورها. البليد الكسول الفاشل هو الذى يُلقى اللوم على الآخر تبريرا لفشله وبلادته وكسله. الحكومة الغير منتجة إفراز مجتمع غير منتج أغلب أوقاته. الحكومة الظالمة نتاج مجتمع فى الأغلب هو ظالم. الحكومة العادلة نتاج مجتمع فى الأغلب عادل. واضحة كل الوضوح بالنسبة لي.

قبل أن نتوه يجب أن نعرف ما هي الحكومة؟ ونبسط من أجل تفهم أفضل. الحكومة عبارة عن كل موظفي الحكومة. كل من يعمل فى قطاع حكومي هو جزء من الحكومة. الحكومة هي السلطة. السلطة تتكون من ثلاث أجزاء رئيسة. التشريعية التي تسن القوانين. القضائية التي تقضى بين الناس. التنفيذية التي تنفذ القوانين وما حكم به القضاء مثل الشرطة.

لماذا يجعل أو يصنع المجتمعُ الحكومةَ؟ كلمة واحدة الأمن. لذلك نفهم أن سَنة من حكومة دكتاتورية ولا يوم واحد بدون حكومة. ولفهم (أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). إن الذي يؤمن فعلا بكلام الله هو الذي عندما يقرأ، مثلا، قول الله (إن الله يأمر بالعدل) تجده يعدل. له حافز من نفسه للعدل وله من نفسه رادع عن الظلم. فهو يعدل سواء عاش فى شمال الكرة الأرضية أو فى جنوبها. مثل هؤلاء هم أصحاب المُثل والمبادئ والضمائر والإيمان. فى واقع الحياة أن هؤلاء قلة فى أي مجتمع. بينما الأكثرية لا يردعهم إلا العقاب ولا يحفزهم إلا الثواب أو المكافأة. فالواحد منهم لا يسرق إلا إذا أمن العقاب. ولا يعدل إلا إذا عرف بأن هناك من يحاسبه ويراقبه ويكافئه إن عدل. وهذا هو دور الحكومة الأساس، تطبيق القانون لحفظ الأمن. ومن هنا نفهم قول الإقتصاديين (رأس المال جبان) ليس المقصود هنا النقود كما أن صفة جبان ليست للمدح أو القدح. بل تقرير واقع. فالعلاقة بين رأس المال والأمن عكسية، كلما إنخفض الأمن شرد رأس المال. والعلاقة بين رأس المال والعدل طردية، كلما زاد العدل تزايد الإستثمار. والعدل هو تطبيق القانون. أما المجتمع فهو بناء مكون من أُسر وهي مكونة من أفراد. الفرد يريد حياة رفاه وأمن. ولا يحب بالتأكيد حياة الجوع والفقر والخوف. الغنى الحق ليس في الجيب فقط بل في النفس والعقل والمجتمع. ما قيمة الملايين من النقود الورقية فى جيبك وخزانتك في مجتمع لا رفق ولا مرافق ولا أمن فيه؟ كم وصل التضخم في زيمبابوي عام 2008؟ سنعرف لاحقا.

وكلنا نحب الحرية. لكن، ليس كلنا يفهم الحرية. وكل واحد حر فى فهمه. من أراد أن يفهم فليفهم، ومن لم يرد فهو حر، يوم واحد من دون حكومة أسوأ أو أشّر من سنة من حكومة دكتاتورية، أخف الضررين وأهون الشّرين بتعبير أهل الفقه والقانون. حريتك تنتهي عندما تصل عند حرية الآخرين. ومن العنف الإعتداء على حريتك وكرامتك وحرية الآخرين وكرامتهم.

ما هو العنف؟

يفيدنا أهل اللغة والتفسير (بأن العنف هو ضد الرِّفْق. أَرْفَقْته أَي نَفَعْته، الرِّفق لِـين الـجانب ولَطافةُ الفعل، والرِّفْق لـين الـجانب خِلاف العنف. وفى الـحديث الشريف: (ما كان الرِّفْق فـي شيء إِلاَّ زانَه) أَي اللّطفُ، وفـي الـحديث الشريف أيضا: (فـي إِرْفاق ضَعِيفِهم وسَدِّ خَـلَّتهم) أَي إِيصال الرِّفْق إِلـيهم؛ والـحديث الآخر: (أَنت رَفِـيق واللَّهُ الطَّبِـيب) أَي أَنت تَرفُق بالـمريض وتُلَطِّفُه والله الذي يُبْرئه ويُعافِـيه. وفى القرآن الكريم نقرأ: (ويُهَيِّىءْ لكم من أَمركم مِرْفَقا) (16 الكهف). ويعنـي بـالـمرفق: ما ترتفقون به من شيءْ. وهو ما يرتفق به الإنسان. أي يجعل لكم من أمركم الذي وقعتم فيه ما يرفق بكم ويصلحكم، مخرجا ونجاة ورزقا. ما ترتفقون به أي تنتفعون. رفق به وله وعليه. ورفق له أي لانَ له جانبه وحسن صنيعه سعة، أو معاشاً، مرفق بكسر الميم إذا وصل إليك من غيرك، وبفتحها، إذا وصلته إلى غيرك).

مع اللغة والتفسير، النص أعلاه، كما تلاحظ، فيه إقتصاد (رزق، معاش وإنتفاع) وإجتماع إيجابي (علاقات رفيقة منك وإليك). المرافق العامة هي البنى التحتية أو الأساسية (infrastructure) فى مصطلحات الإقتصاد. مثل الطرق، شبكات المياه والكهرباء والهاتف، والمطارات الى آخره من رأس المال التحتاني الأساسي. وهو المملوك بالكامل للمجتمع وتشرف عليه الحكومة وتصونه فى المجتمعات الإشتراكية. أو مملوك للقطاع الخاص كليا أو جزئيا أو مشاركة فى مجتمعات السوق. والأخير من وجهة نظري أفضل. وذلك بطبيعة الحال يعتمد على مدى رقي ونمو المجتمع من ناحية العدالة الإجتماعية (الديمقراطية الحقة جاذبة للإستثمار حتى فى المرافق العامة) أضف لذلك أيضا مدى التراكم الرأسمالي فى المجتمع. ربما يستغرب بعض القراء ما نكتب هنا. ويسأل ومعه الحق. ما علاقته بالعنف وعالم الجريمة؟ هنا علاقة كبيرة أرجوا أن تُفهم بوضوح. إن لم يكن القارئ الكريم فهم العلاقة بعد إكمال قراءة المقال أرجوا منه إعادة قراءة المقال الذي هدفه فهم أفضل للعنف ومحاولة طرده من عقلية ونفسية القارئ للمقال لا أقل ولا أكثر. فالموضوع له تشعبات كثيرة. ومن العدل أن نوضح بأنه فى القراءة الحرة والكتابة بدون مقابل مالي ويجمعهما حب الفهم. هنا فقط ليس القارئ مجبورا على القراءة وليس الكاتب مجبورا على الكتابة. لكتابة عشرة أسطر أعلاه مثلا، فقد راجعت عشرة مراجع لكتابة فقط جزء أهل اللغة والتفسير أعلاه. وربط الأجزاء يتطلب مهارة من القارئ كما يتطلبها من الكاتب. اليوم قرأت أن شركة الإتصالات والهاتف (وهي قطاع خاص) فى السعودية بدأت فى خدمة الألياف البصرية لتوفير أعلى سرعات الإنترنت لعملائها من خلال ربط منزل العميل بشبكة الألياف البصرية الحديثة ذات السعات العالية وتزويده بالمودم الخاص بالخدمة. بسرعات عالية في التصفح ونقل المعلومات بسرعات تصل إلى 100 ميجا بايت فى الثانية مما يتيح الحصول على خدمات الإنترنت في مجالات الخدمات المرئية والمحادثات الصوتية المتطورة، وخدمات النقل التلفزيوني الفضائي عبر الإنترنت. هذه الخدمة معروفة فى الدول المتقدمة بأسعار معقولة هناك فى وقتنا الحالي. بدأت هناك قبل 20 سنة لكن بأسعار مرتفعة الى حد ما ذلك الوقت. وهو مثال عن المرافق العامة الحديثة.

لتوضيح فكرة علاقة الفرد بالسلطة والعنف، لنأخذ فقط السلطة التشريعية، والتشريعيون يفهمون أكثر منا فى ذلك. نعرف أن حكم السارق فى الإسلام هو قطع اليد لحماية الممتلكات. لكن لهذا الحكم ضوابط منها أن يكون المال أو الشيء المسروق محرزا (غير مفلوت) وأن لا يكون قليلا فى ثمنه وقيمته، ولا أن يكون السارق مضطرا للسرقة. قصة حدثت أيام هارون الرشيد والمأمون والشافعي. التشريعيون ذلك الوقت مثل الإمام الشافعي الذى هو مدرسة فى التشريع ومكتشف علم أصول الفقه فى كتابيه الرسالة والأم. قرروا أن دية اليد هي خمسمائة دينار ذهبي. وحد قطع اليد فى حال السرقة ربع دينار وأكثر. أقل من ربع دينار لا يطبق الحد. مما حدا بأحد الشعراء لأن يتعجب قائلا:

يـد بخمسمائة عسجد أُديت
ما بالها قُطعت فى ربع دينار

فرد عليه الشافعي:

عـز الأمــانة أغـلاها و أرخصــها
ذل الخيانة فافهم حكمة البارئ

السرقة صورة من العنف الإقتصادي، إعتداء على الملكية. الآن ركز ولاحظ وفكر، فى حالة سرقة المضطر ينتفي العقاب لكن لا تنتفي الملكية. مثلا رجل إضطرته ظروف الحياة لأن يكون معدما ولم يجد من يعطيه فإضطر للسرقة من صاحب طعام ما قيمته 50 درهم. عليه أن يعيد قيمة ما سرق فى حال إنتفاء الإضطرار والفقر لو أن مالك الطعام طالب بذلك وهو من حقه قانونا.

الحروب صورة واضحة لأقوى وأبشع أنواع العنف العام وبالتالي الأزمات الإنسانية طويلة المدى. وأنا أكتب أتتني رسالة من منظمة (أطباء بلا حدود) عنوانها أسوأ عشرة أزمات خلال عام 2008 على مستوى العالم. من وجهة نظر الباحثين فى هذه المنظمة الخيرية والتركيز كان على الأوضاع الصحية. إثنتان من العشرة هذه ليس لها علاقة مباشرة بموضوعنا، أحدها مرض الإيدز. والثاني نقص وسوء تغذية الأطفال (178 مليون يموت منهم 5 مليون دون الخامسة سنويا). والثمانية الباقية هي بسبب الحروب. ثلاثة منها فى العالم العربي: العراق، السودان، الصومال. أضف مينمار التي تقع جنوب الصين، زيمبابوي فى إفريقيا، باكستان، الكنغو في وسط إفريقيا، إثيوبيا. لفت إنتباهي أن الوضع فى العراق بالنسبة للمنظمات الخيرية الإنسانية هو الأسوأ فهي مستهدفة وتعاني من صعوبة الوصول وتوصيل المساعدات.

محاربة الجهل أولى وأهم ويتم بدون خسائر فى الأرواح والممتلكات لأن الحرب المسلحة لا عقل لها وخسائرها فظيعة. فى زيمبابوي التى تعاني الحرب منذ 5 سنوات بلغ التضخم فيها نسبة فلكية 231 مليون فى المائة. وهو رقم لم نره منذ الحرب العالمية السابقة. إن الحرب الأهلية فى الصومال جعلت نصف الشعب (4 ملايين) فى فقر مدقع والنصف الباقي مشتت فى فقر نسبي خارج بلده. إن دور الكاتب العارف الصادق كشف الزيف والنفاق الإعلامي الذى يلصق ويعمم ظواهر معينة فى ظروف معينة بفئة معينة أو دين معين. ذلك يتم بالكلمة وبعرض الحقائق بحكمة كما هى، لا إرضاءا أو إثارة حمقاء فى نتائجها لعواطف الجماهير ولا السلطات ولا جماعات معينة. أخونا الكريم الكاتب والإعلامي السعودي عبدالرحمن الراشد كتب مرة أن مندوب الصومال لدى جامعة الدول العربية يحضر الإجتماعات بدراجة! يبدوا لي أن الإعلام والكتاب العرب نسوا الصومال ماعدا قلة من أمثال الراشد. الصومال في أزمة كبيرة منذ سقوط نظام الرئيس الراحل محمد سياد بري في عام 1991. المعارضون الذين أسقطوا النظام أغرقوا أنفسهم في وحل من الصراعات الدموية المسلحة وأفقدوا البلاد استقرارها السياسي والأمني والإقتصادي مما جعل شعب الصومال عرضة للتمزق والشتات وأرضه ساحة مفتوحة للتدخل الأجنبي من كل حدب وصوب وبالتالي حرمت البلاد من هيبتها ومكانتها كدولة ذات سيادة مستقلة وحرة وتحولوا القادة الى أمراء حرب لا يهمهم شيئا سوى مصالحهم الشخصية بدل من أمراء سلم يهمهم بلدهم. سنة حوار ولا ساعة حرب، كم فرحنا بتوقيع الاتفاقية من قبل الأطراف المعنية في جدة فى السادس عشر من سبتمبر (أيلول) 2007، بقي تفعيلها من أجل استقرار الصومال الشقيق وتحقيق أمنه وازدهاره.

لذلك كم هو عظيم ورائع فكر وعمل رجال من مثل توليستوي وغاندي ومانديلا ومارتن لوثر وأمثالهم. ولا تضع وقتك لقراءة خرط ونظم لبشر خذلوا البشرة السمراء والبيضاء ونهبوا ثروات الأرض ونشروا الخراب والفقر وسرقوا الرغيف من فم الجائع والنفساء ومنعوا حتى على الرضيع الدواء. بدون عنف، حرر غاندي وأمثاله من رجال ونساء الهند بلدهم وهي أكبر بلد مُستعَمَر في العالم من أضخم إستعمار في التاريخ الحديث. حرروها من إستعمار دام خمسة قرون. بدون عنف وحرب وخسائر جسيمة فى العمران والأموال والأبدان. كل الحروب إنتهت بمفاوضات وحوار سلمي وإستخدام للعقل والكلمة بدلا من المدفع والقنبلة. فلماذا لا تكون مفاوضات وإن طالت بدلا من الحرب والقتال والعنف!؟ سنة من حوار خير من ساعة حرب بالسلاح الأبيض فما بالك بالسلاح الأسود والبلواي التى نقرأ عنها مثل النووي. هل الفكرة واضحة؟ هذا لا يعني إنتهاء الحروب على مستوى الفكر والواقع. بل يعني أن آخر العلاج وأبغضه للطبيب والمريض هو الكي بعد إستنفاذ كل الوسائل الممكنة.

تأمل قول الشاعر العظيم المتنبئ:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلي
مُضُِّر كوضع السيف في موضع الندى

من أمن العقوبة أساء الأدب ومن حُرم العطاء جره ذلك للعداء.

كم هو سهل الكلام عن الغضب ورذيلته وكم هو صعب أن تملك نفسك عند الغضب كما نعرف جميعا. العنيف إن كان صاحب حق يُضيع حقه بنفسه فبدلا من أن يثبت الحق له ينقلب عليه. عندما ينجلي غبار ثورة العنف يري حقيقة ربحه من خسارته. والعنف الفردي يهون مع العنف والإرهاب الجماعي سواء كان بإسم الدين أو غيره. العاقل فى أي مكان وزمان هو الذى لا يخرب بيته بيده حتى وإن كان يعتقد جهلا منه بأن هذا التخريب هو إعادة للبناء. فالمجتمع ليس بناءا ماديا وليس مرافق فيزيائية بل علاقات وكل المرافق والأبنية لخدمته. فرب يوم بكيت فيه ولما صرت فى غيره بكيت عليه. القضية فكرية فالعنف والحرب يكونان فى النفوس والرؤوس قبل الفؤوس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى