الأربعاء ١٥ تموز (يوليو) ٢٠٠٩
بقلم مصطفى أدمين

وصايا محمد زفزاف الأدبية

بمجرّد أن أسْلَمَ الروائيُ المغربيُ محمد زفزاف روحَه إلى خالِقها، سارع الكثير من (الكتَبة) إلى نعيه في مختلف وسائل الإعلام المغربية. والغريبُ المحزنُ في نعْي هولاء الأشخاص، كلامُهم المقتضبُ عن حياة الراحل وأعمالِه وإطنابُهم في الكلام عن حياتهم الشخصية (الفارغة من أيّة قيمة إنسانية) وعن إسهاماتهم الأدبية والفنية المزعومة، وكلُّه كلام منافقين ووصوليين لا همّ لهم سوى بلوغ الشهرة حيثما كانت وبأيّة طريقة كانت. وهم الأشخاص – بالضبط – الذين تكلّم لي عنهم الراحل الجليل بصراحة نادرة عبر سنين العشرة التي قضيتها معه في بيته المتواضع، بأحد الأزقة المتعامدة مع شارع إبراهيم الروداني بالدار البيضاء، وما من أصحاب معنا سوى خادمتُه فاطمة الزهراء المنكوبة في وجودها بالعاصمة الاقتصادية الغولة وسلاحف الأستاذ الهادئة والصامتة وما تيسّر من الشرب والأكل.

في أيّامِه الأخيرة، كان (سي محمد زفزاف) متعباً لكن مبتسماً على الرغم من داء السرطان الذي شرع ينخر لثته. وكنتُ في حرج من أن أسأله عن صحتِه لعلمي بأنّه يتحفّظ من الشكوى، ولكنّه أدرك بحسِّه الأدبي الرفيع خوفي على صحّته فقال لي:

  أنا لستُ خائفاً من الموت ولا نادماً على الحياة؛ لقد نلتُ من الحياة ما أردتُ، فلقد تعلمتُ ودرستُ وكتبتُ وترجمت كتبي إلى لغات العالم وصدر اسمي في موسوعة الإنترنيت وتزوجتُ عدّة مرّات وأنجبتُ وسافرتُ إلى بلدان العالم وأكلت وشربت ولا يهمّني الآن أن أموت.

فوجدتُ نفسي ملزما بطرح هذا السؤال عليه:

 هل تؤمن بالله؟ فشرب من سيجارته ثم من كأسه وقال لي:
 اسمع يا صُحيْبي! ربّما ستشاءُ الأقدار أن لا تلاقيني بك مرّة أخرى ولهذا سأقول لك ما لم أسمح لنفسي بقوله لغيرك...
ولا أخفيكم حقيقةً أنّ قلبي ارتجف في قفصِه إذ خفتُ من أن يحمّلني أستاذي زفزاف رسالة أنا غير قادر على تسليمها لأصحابها ولكنني تشجعتُ على قبول الوصية لمّا رأيتُ في عينيه الطفليتين برقاً مثل مفتاح ضوئي للسماع؛ فقلت له:

 عافاك، لا توصيني بشيء أنا غير قادر على الالتزام به. فابتسم وقال لي:
 أنتَ أخير عندي من بعض الوزراء والرؤساء الذين ما زاروني في بيتي حتى انهارت صحّتي ولهذا سأقول لك بعض الكلمات...

فتجرّعنا ما تبقّى من مرارة في كأسيْنا في صمتْ ثم قال لي:

الوصية الأولى: الكاتب الحق يكتب دوما في المواضيع التي تهمّه هوولا يفكر أبداً في أن تشهره كتاباته ولا يسارع إلى البحث عمّن ينشرها له.

وضرب لي مثل عمر الخيام الذي كتب الرباعيات ليتسلّى عن واقع سياسي خطير في بلاد الفرس.

الوصية الثانية: من يبحث عن الشهرة شخص واهم فالباحث عنها مثل قابض على الماء خانته فروج الأصابع.
وضرب لي مثلا غريبا لمّا قال لي:(إنّ أشهر المشاهير نكرة عند بعض الشعوب)

الوصية الثالثة: الأعمال الأدبية الجيِّدة تفرض نفسها طال الزمان أوقصُر.

وضرب لي مثلَ أشباه أدباء مغاربة أغرقوا أعمدة الملحقات الثقافية بأشعار وقصص رديئة وآخرين ألّفوا كتاباً واحدا أونظموا قصيدة واحدة خلّدتهم.

الوصية الرابعة: ليس الأديبُ الحقيقيّ ناقداً لا لأعماله ولا لأعمال غيره.
وأعطاني في معرض كلامه مثل بعض الدكاترة (النقَدَة) الذين – بسبب مهنة نقد النصوص – يتوهّمون أن بإمكانهم كتابة نصوص أفضل من النصوص التي ينتقدونها.

الوصية الخامسة: الكتابة باللغة الأمّ أصدق وأبلغ.
في إشارة منه إلى المغاربة الذين يعتقدون أنّهم بالكتابة باللغة الفرنسية سيكتبون شيئاً ذا قيمة، والواقع أنّهم يصيرون (ضُحَكة) في عين عين الأدب الفرنسي.

الوصية السادسة: عزلة الكاتب ووحدتُه ميزتُه.
ناقداً تهافت أشباح الأدباء على التجمعات والملتقيات لأجل الشرب والثرثرة والاستجداء.

الوصية السابعة: الأديبُ أبلغُ عملا وشهرة من السياسي.
بحجة مشاهير مثل الجاحظ وابن رشد شيكسبير وبودلير ومحفوظ...

الوصية الثامنة: كن رحيماً مع الأدباء الشباب والمبتدئين وشجِّعْهم على القراءة! ولا تُجامل ذا سلطة أومال أوذات جمال! لأن الأدب الحقيقي هوالشباب الدائم والمال الخفي والسلطة التي تغيّر الواقع والجمال الذي لا يفنى.

الوصية التاسعة: لا تطمع في الانتماء إلى أية جمعية أواتحاد أورابطة أوحزب، لأن الانتماء الحقيقي للأديب الحقيقي هوالأدب الحقيقي. أمّا غيره من الانتماءات فسالبٌ للشخصية وللأدب.

الوصية العاشرة: الإيمان بالله مسألة شخصية فلكلّ شخص إلهه الذي يجب علينا احترامه. أنا نفسي أومن بالله، إله المسلمين وآمُل أن يغفر لي ذنوبي وأن يدخلني جنته.
عند هذه الوصية الأخيرة، استأذنني للذهاب إلى فراشه الموضوع بين غرفة الاستقبال والمطبخ ونام بسرعة كما ينام طفل صغير في مهده.

رحمك الله يا أستاذي وصديقي زفزاف!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى