الثلاثاء ٢٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم فلاح جاسم

مذكرات «قلم»

أن يكتب واحد من البشر مذكراته، هذا أمر مألوف، ومعروف أيضاً، يكتب ما مرّ به ويسرده ويرويه من وجهة نظره، ليكون وثيقة في يوم ما. أما أن يكتب قلم مذكراته فهذا أمر غريب حقاً.

حَكى لي أبي حكاية جدي الأكبر، وكيف أنه كان يصنع الأقلام من أعواد " الزّل ".. يأخذه الناس ويقومون بقصه بأداة حادة، فيصبح رأسه مشطوفاً وحاداً حتى يصلح للكتابة .. كانت أعواد "الزلّ" تتعانق، وهي مغموسة السيقان والجذور في مياه النهر، لم تكن تتوقع يوماً أن يكون الفراق بينها حتمي ... فيأتي الإنسان ويقتلعها بكل صلف ويعرضها للبيع، في مستودعات كبيرة، أو يبسطها على جانب الطريق عُرضةً لحرّ الشمس وغبار الجو المنبعث، يأتي الناس ليبتاعوا حاجتهم من "الزلّ"، كلٌ حسب غرضه، فبعض الأعواد تؤخذ لسقف المنازل فوق الأعمدة؛ ترصف بشكل عكسي، ويوضع فوقها التبن، ثم يؤتى بالطين الممزوج بالقش ويوضع فوق التبن، ويملس بأيدي بني البشر.

وهناك أيضاُ ما يؤخذ لصناعة السلال، فتستخدم للزينة أو لوضع الحاجيات فيها، أو استعمالها كنوع من الإكسسوار في القصور الفارهة والمكاتب و المنازل الفخمة، وأتعسها حظاً تستخدم لصناعة سلال القصب، تحملها النسوة البائسات الفقيرات على رؤوسهن، تتكدس وسطها الحاجيات، وقد سئمت النسوة تلك السلال كسأم الحياة نفسها، وأصبحت تلك السلال المحملة بهموم هي قدر يجثم فوق رؤوسهن.

نحن معاشر الأقلام منّا الشقي ومنا السعيد، بعضنا سأم حياته لكثرة تعبه وانشغاله، كالأقلام التي كانت في حوزة الكتـّاب مثلاً، فأبي يقول دائماً: كان الله في عونها، تعمل باستمرار بلا كلل أو ملل، ليس لها دوام معين، بل ربما يوقظها ذلك الكاتب الفظ من عز نومها في ليالي الشتاء الباردة، في الهزيع الأخير من الليل ليكتب مقالاً عن نبل الأخلاق"، قدرها كان سيئاً، ليس لها نظام في حياتها، كأخواتها التي يستخدمها الموظفون في الدوائر الرسمية والمكاتب، بل كثيراً ما تكون هي عُرضة للنقد والمساءلة عندما يتطرق الكاتب لأحد المحذورات، فيقال عنه: كاتب ذو قلم يقطر سماً..وقلم مأجور..و قلم بائس ..وقلم متآمر..وقلم خبيث... إلى آخر هذه القائمة من النعوت السلبية والتي ربما تقود إلى الموت أحياناً.

كان نصيبي وقدري أنا ـــ محدثكم ـــ أن أكون على طاولة كاتب "معاريض" في كشك مقابل للمجمع الحكومي، بيد ذلك العجوز، ذي القبعة الصوفية يرتديها صيفاً وشتاءاً، وفي كل فصول السنة، تحسباً لأي طارئ، وخصوصاً في أيام الصيف ، كيف لا ؟ وهم يقولون: برد الصيف أحدّ من السيف.

دأب ذلك العجوز على وضعي على الطاولة أمامه، كم كنت أتوق أن يضعني في جيبه ويخرج متباهياً بيّ بين الناس، لكنه لم يفعل ذلك، بل يرهقني بالكتابة منذ ساعات الصباح الباكرة حتى انتهاء الدوام الرسمي، وكان في أحايين كثيرة يبقى بعد انتهاء الدوام، ليتمّ ما لديه من "معاريض"، تتكدس على طاولته، لشهرته بين الناس بالنزاهة في التعامل والحصافة في طريقة كتابة المعروض، كثيراً ما كنت أبكي بحرقة، دون إرادة مني، حينما يكتب بيّ واصفاً حالة أم ثكلى أو أرملة لا معيل لها أو طلب توظيف لعجوز تخلى عنه أبناؤه، وأصبح حلمه أن يعمل في دائرةٍ ما في إعداد الشاي والقهوة. كل تلك المواقف كانت تثير مواجعي، ربما تستغرب بأن لنا أحاسيس كالتي لكم معشر البشر، لكن هذا هو الواقع.

كان بكائي ينقلب وبالاً عليّ في معظم الأحيان، إذ يتدفق الحبر على الورق بكمية كبيرة، فيزمجر صاحبي ويسبّ ويلعن ويشتم ويتأفف، ويضطر لتمزيق الورقة بعد أن كتب أكثر من نصفها، حتى أنه يحلف أحياناً برمي في سلة المهملات واستبدالي بقلم آخر. وقد بتُّ أحسد ذلك القلم الذي استعاره من أحدهم ليكمل به كتابة المعروض للشخص ذي الملابس الأنيقة الذي يجلس على يمينه على كرسي خشبي قديم، وقد وضع قلمين فاخرين من ماركة ــ كريستيان ديور ــ في جيبه، أحدهما سائل والأخر جاف، حدثني أيضاً عن ثمنهما الباهظ الذي يستطيع به شراء مئات الأقلام العادية أمثالي، أو ربما جميع ما أنتجته المصانع منّا، كم حسدت ذلك القلم !! لأن صاحبه يضعه هو وأخاه في جيبه متباهياً به أمام الآخرين بسبب ثمنه الباهظ، وبمجرد السلام على أحدهم يمتد طرف الشخص المقابل له إلى الأقلام في جيبه، ويبدأ بتفحصها، فيعرف بأن ذلك الشخص من "علية القوم".. آه كم هو محظوظ ذلك القلم .. قلت له ذلك صراحة عندما وضعه صاحبي بقربي على الطاولة عند تكملة المعروض، فوجئت بالحسرة تسكن قلبه، ظننته في البداية يقول ذلك مجاملة لي ليس إلا، لكنه أردف قائلاً: أنا لم أكتب شيئاً أو أعانق الورق الصقيل واستمتع برائحته منذ ما يربو على ستة أشهر خلت، مسجون في جيب ذلك السمين للزينة والتفاخر فقط، أشعر بالملل والخوف في معظم الأحيان، سئمت لأنه خصصني لغير ما خُلقت له، والخوف أن يورثني لولده الجاهل الذي لا يجيد القراءة والكتابة، كما حاله هو، وتكون فرصتي الوحيدة للحياة عندما يستعيرني أحدهم عند دائرة رسمية، أو يستخدمني صاحبي للتوقيع بيد مرتجفة، وبحركة تشبه عجلات السيارة عندما تغوص في الوحل، لحرصه على أن يكون التوقيع مطابقاً قدر المستطاع. عرفت قدر معاناته الآن رثيت لحاله، وحمدت الله، وتمنيت أن يوزعني أن أشكر نعمته.

كادت أن تنتهي حياتي في إحدى المرات، عندما انزعج مني صاحبي، في حضرة رجل في الأربعينيات من العمر، ذي شارب أشيب خفيف، حليق الذقن، يرتدي بذلة رمادية أنيقة على ربطة عنق خطوطها عريضة مائلة، تتناسق مع لون البذلة والقميص الذي يبدو أبيضاً نظيفاً لبني البشر، لكنه بعيوني ملطخاً ببقع شتى.

استل ذلك الشخص قلمه الأسود من جيبه وناوله لصاحبي قائلاً:

تفضل يا أبا نوفل، خذ هذا القلم هدية مني، بدلاً من قلمك الذي يخذلك في أحيان كثيرة، خفق قلبي فزعاً من ذلك العرض، وتملكني شعور عدواني تجاه ذلك القلم الأسود الذي امتشقه صاحبه كالسيف، لكن روعي هدأ عندما قال صاحبي: شكراً لك، لكن قلمي هذا رفيقي منذ زمن، و ربما لن تصدق إذا قلت لك بأنني ورثته عن والدي ــ رحمه الله ــ وهذا ما يجعلني أصبر عليه أحياناً.

و وضع ذلك القلم بجانبي لبرهة، فهمست بأذنه: ما أسعدك ــ بعد أن زال شعوري بالتهديد ــ فرد عليّ: لماذا؟

قلت: لأن صاحبك يبدو من الأهمية والمسؤولية بمكان، وهذا ما تدل عليه هيئته.. قال: نعم، لكن لو عرفت ما يكتب بي، ودعوات الناس عليّ بالكسر في أغلب أوقاتي لما حسدتني!!

قلت: لماذا؟ وقد تملكتني دهشة كبيرة!! قال: لأن توقيع بسيط مني أحياناً ينهي حياة إنسان؛بحرقه في كلس أو إذابته في أسيد أو إطلاق رصاصة تفجر رأسه أو شنقه، والإدعاء بأنه انتحر في سجنه!! أو في أحسن الأحوال السجن لمدة عشرين سنة إن لم يكن مؤبداً.

تملكني الشعور بالذعر، حتى إنني كدت أقفز في جيب صاحبي واختبئ داخله، لكن فضولي دفعني لسؤاله: وما هو عمل صاحبك؟؟

ردّ عليّ: الرئيس العام للمباحث على امتداد الوطن. رفعت بصري إلى ذلك الرجل الأنيق، فإذا به يمسح يديه بمنديل، وقد تلوثتا بالدم..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى