السبت ١٧ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
بقلم عبد العزيز غوردو

عبر نافذة الأتوبيس رقم 100

الفصل الأول

أنا عصفور، قطعا لا علاقة لي بالريش أو المناقير...

قطعا أيضا لا علاقة لي بالعصفور، بطل قصة "السيد سنونو" الشهيرة، أو المغمورة...
كل ما في الأمر أن والديّ، أحدهما أو كلاهما، لست أدري وما همني ذلك، قررا يوم ولادتي أن يسمياني "عصفور"، فكان ذلك كذلك، وما همني ذلك أيضا...

ما همني حقيقة، طيلة حياتي، هو البحث عن اللذة، بكل تجلياتها المثيرة للشبق، أعني هيدون الأبيقورية المشخصنة في الجسد الفينوسي والزجاجة النواسية... ثالوثي المقدس الذي صليت في محرابه ليال طوال...
  ماذا؟ لم أتحدث إلا عن ثنائي: جسد وزجاجة؟
فليكتمل الثالوث إذن بسرير مخملي، وما حوله، مذبح هيكلي المقدس، الذي لم يخذلني أبدا...
اكتمل الثالوث إذن، فهل تسمحون لي بإنهاء الحكاية؟
عصفور، أقصد أنا، ابن تاجر مسيحي مصري لا يعرف عن المسيحية إلا النعت الذي التصق به بحكم الولادة، كاسمه تماما، ويقينا أن ثالوثه قد حطم الثالوث المسيحي منذ مدة، ربما سبقت ولادته أيضا، فأبوه الفاحش الثراء، والذي تاجر في كل شيء، المخدرات والدعارة والسلاح... والذي كان مستعدا لأن يتاجر في كل شيء، بما في ذلك عرضه، لم يؤمن برب غير المال: "إله المؤمن والملحد"، هكذا كان دائما يردد، وبهذا آمن عصفور واعتقد.

عصفور، أنا طبعا، وبينما كان المصريون يصرخون في وجه تطبيع دشنه السادات، وحده، وأعادته الليبرالية الجديدة في مصر، بما فيها ليبرالية أبيه، ما كان يهمه من كل ذلك إلا نفسه، لذلك وبينما كانت قنوات الأخبار ترصد نبأ لقاء رئيس بلاده، مع نظيره الإسرائيلي، وفيما كان الرجلان، العربي والعبري، يتباحثان بلغة مشتركة، سبل تدعيم علاقات بلديهما، ومنها العلاقات السياحية، كان عصفور يفكر كيف سيدخل "تل الربيع"، المقابل الآخر، العربي، لتل أبيب؟

عصفور، وبينما كان النقاش ساخنا حول العلاقة مع الآخر: أطبيعية هي أم تطبيعية؟ كان قد حسم نقاشه مع نفسه، معتبرا نساء شارع روتشيلد أرضه البكر، وأنه فاتحها، أو لم يدخل السادات قبة الكنيست دخول الفاتحين من قبل... دون أن يعرف أحد، أو لعل الجميع عرفوا، ثمن المتعة التي كسبها في رحلته من القاهرة إلى تل أبيب... ذلك أن تل أبيب، إن كنت لا تدري هي أيضا ماخور لهو ولذة، وليست قلعة عسكرة وسياسة فقط.
عصفور الذي لم يهتم أبدا بأغنية كوكب الشرق: "إلى فلسطين طريق واحد يمر من فوهة بندقية"... اهتم كثيرا، بما نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في عددها الصادر يوم الأربعاء 8 مارس 2006 تحت عنوان: "إعادة تشغيل الخدمة اليومية لأتوبيس تل أبيب القاهرة"، حيث ذكر الخبر أن وزير السياحة "الإسرائيلي" أبراهام هيرشنزون ونظيره المصري محمد زهير قد تقابلا في معرض برلين السياحي الدولي، وبحثا العديد من القضايا لتنشيط السياحة بين البلدين، وأثناء اللقاء اقترح هيرشنزون إعادة تشغيل الأتوبيس رقم 100...

ورغم أنه، أي عصفور وليس أحد الوزيرين، كان باستطاعته، كما أحد الوزيرين، زيارة تل أبيب من أوجه عدة، إلا أن خبر الرحلة عبر الأتوبيس رقم 100 كان يشكل لديه متعة من نوع آخر، على طريقة "هيبيي" ستينيات القرن الماضي، يحقق بها، وعبرها، الفتوحات التل أبيبية...
عصفور إذن، لم يختر أن يدخل العاصمة العبرية محلقا عبر سمائها، فهو وإن كان "عصفورا"، لم يعشق أبدا هواية الطيران والتحليق، إلا انزياحا في مذبح هيكله المخملي، وبجناحين كان ضروريا أن يكون أحدهما جسدا والآخر زجاجة...

لم يكن ثمن تذكرة الرحلة، ذهابا وإيابا، يتعدى 34 دولارا... ثمن زهيد لشخص ألف بعثرة ألف دولار مقابل متعة ليلة واحدة... ليجد نفسه داخل الأتوبيس الذي حلم به ليلة كاملة، رسم فيها خياله أبدع رحلة: من رفيقة الرحلة الشقراء الباحثة عن الفحولة، التي ستشاء الصدفة أن تجلس بجواره، والتي ستجعل من الساعات العشر، مدة الرحلة، كأنها طرفة عين حالمة... إلى الطريق الساحلي الذي رصعت زرقة البحر المتوسط بهجته، وصولا إلى التلة الخضراء المزهرة، التي ستحتضن فرحته... وبعد: أو ليست "تل أبيب" هي المقابل الآخر، العبري، "لتل الربيع"، والتي لا شك، وكما يدل عليها اسمها، ستكون أجمل أرض للحب؟
...

الفصل الثاني

يغادر الأتوبيس رقم 100 المحطة، يبدأ الفصل الثاني

لا شيء كان كما شاء، أو كما أراد له عصفور أن يكون... فالذي احتل المقعد إلى جواره كان رجلا عجوزا، فلسطينيا خشنا، خطت التجاعيد شقوقا غائرة على وجهه وجبهته... عيناه أيضا كانتا غائرتين وهما تدوران بقلق في كل اتجاه... فمه الأدرد أيضا كان غائرا... كل شيء فيه غائر وخشن، كأنه خرج توا من كتاب تاريخ... بكلمة واحدة: لم يكن فيه ما يربطه بفاتنتنا الشقراء إلا احتلاله المقعد الذي يجاور "عصفور"، وبحيث تحول عصفور، في هذا السيناريو، إلى لعب دور الفاتنة التي تبحث عن فحل... لذلك قرر أن ينام طيلة الرحلة، عسى النوم يكسر ساعاتها العشر، التي لا شك ستكون، وبالفعل كانت، أطول مما قررت لها أحلامه.
الرجلان خلفه، أيضا كانا فلسطينيين، خارجين من كتاب تاريخ بدورهما، كتاب التاريخ نفسه الذي خرج منه صاحبهما، كتاب التاريخ الذي بنى لهم حضارة، وسلب منهم أرضا...

لاحقا سيكتشف عصفور أنه المصري الوحيد في الرحلة...
كلهم كانوا بعيون غائرة، حائرة، تشرح في صمت ما تعجز الألسنة عن شرحه... ومن خلف كل وجه تختبئ، أو تطل، قصة/مأساة، دامية، قاسية، مريرة... ليتحول الأتوبيس رقم 100 إلى حافلة حبلى بالألم وبالمعاناة...
عصفور الذي أغمض عينيه أكثر من مرة، ما استطاع النوم، وأنى له ذلك، فعند كل غمضة عين كان يترصده كابوس مزعج، تأسس على قصة/مأساة... تحول مجرد التفكير في النوم إلى عار على جبينه... ما عاد يستطيع التفكير في غير قصة/مأساة هذا أو تلك...
عشرة آلاف سنة مضت قبل أن يجد عصفور نفسه، والأتوبيس رقم 100، عند معبر رفح... هنا كوابيس أخرى بالانتظار، أقسى وأمر من تلك التي رافقته في رحلته، وبحيث باتت هذه (مآسي الرحلة) مجرد تسالي أمام ما كان بالانتظار في المعبر المحاصر منذ عشرين يوما.
هنا، في المعبر المقيد، ما عادت المآسي تختبئ خلف الوجوه... ما عادت أيضا بحاجة إلى حكي أو كلام... ما على عصفور الآن إلا أن يطل من نافذة أتوبيسه ال100 لتقفز إليه المعاناة قفزا من كل اتجاه، سافرة، من دون حكي أو كلام... فما حاجة الحطام إلى الكلام؟
أكثر من سبعة آلاف فلسطيني، وكأنهم في محشر بانتظار ساعة الحسم، إلى الجنة أو النار، باتجاه الوطن/غزة، وبينهم وبينه صراط عسير الحساب...

مغلق الباب إلى الجنة... مغلق أيضا الباب إلى الجحيم... فقط انتظار...
انتظار ماذا؟
انتظار أن يفرج زبانية الجحيم عن جحيمهم... أما الجنة فما عادت في متناول أحد...
أكثر من سبعة آلاف فلسطيني... أكثر من سبعة آلاف قصة/مأساة: من الطفلة المشلولة التي لا تكاد تحرك جسمها الصغير، إلى الشيخ الذي لم يرحم الروماتزم ضعفه، إلى العجوز المصابة بانسداد الشرايين، إلى الشاب المعاق الذي افترش الثرى والتحف السماء، إلى... إلى... إلى... إلى أكثر من سبعة آلاف قصة/مأساة:

كم حجم المواساة، فقط، يحتاجها كل هؤلاء الأحرار؟
كم حجم الإبداع الذي يمكنه أن يستوعب، فقط، عشرين يوما خلف جدار؟
وكم يمكن لما بناه عصفور طيلة حياته أن يصمد قبل أن ينهار؟
ودون أن يلطخه العار...

"إلى فلسطين طريق واحد يمر من فوهة بندقية"... هكذا وجد عصفور نفسه يردد، وقد حسم في ذهنه نهاية الرحلة... سيعود إلى "تل الربيع" يوما، لكن بعد أن يتعلم فن التحليق، تماما كبطل قصة "السيد سنونو"... وبعد أن ينمو له ريش ومخالب، بحجم مخالب الرخ، حتى تستوعب التل كله...

في صباح اليوم التالي صدر قانون بالقاهرة، يقضي باعتقال جميع عصافير المدينة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى