السبت ٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٧

آنسات، نساء، مواطنات

نديم جرجورة - السفير اللبنانية

التقط المخرج اللبناني محمود حجيج، في فيلمه الوثائقي الأخير «آنسات، نساء، مواطنات» (عُرض مساء الأربعاء الفائت، في «مسرح بابل»، مركز مارينيان، الحمرا)، نبضاً شبابياً لبنانياً طالعاً من لحظة اغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط ,2005 ومتوغّلاً في يوميات مشحونة بالتوتر والارتباك والانقسام. اختار شابات ملتزمات تيارات سياسية ودينية وإيديولوجية، ورسم صورة حيّة عن واقع لبناني مأزوم من خلال التزاماتهنّ، وذهب (بهنّ ومعهنّ) في رحلة البحث عن المعنى اللبناني الآنيّ، في السياسة والعلاقات والثقافة والانتماء، فكشف أزمة تتعدّى النزاع السياسي اللبناني البحت، لأنها بلغت حدّاً خطراً للغاية: جوهر الهوية اللبنانية، وآلية النقاش، وكيفية التواصل اللبناني الداخلي.

ذلك أن «آنسات، نساء، مواطنات» شرّح جانباً من البؤس الثقافي العام في العقلية الشبابية اللبنانية، متّخذاً نماذج حيّة منه، وفاتحاً مجالاً واسعاً أمام الآنسات المختارات كي يروين فصولاً من عيشهنّ اليوميّ في مرحلة التمزّق اللبناني الأخطر في التاريخ الحديث للبنان. وإذ حافظ الفيلم على مفرداته الوثائقية العاديّة، مستعيناً (في بعض الأحيان) بحيل بصرية عدّة لإعلان ضمنيّ عن موقف ما للسينمائي، أو لقول خاصّ به من خلال تشديده على لقطات أو توليف مصنوعين بخبث فني وثقافي جميل، فإن المشهد الذي استلّه الفيلم من الواقع اللبناني يُنذر الجميع (أو على الأقلّ يُفترض به أن يُنذرهم) بخطورة المرحلة المقبلة: هناك انقسام فظيع ليس فقط بين القيادات السياسية، بل في أوساط شبابية يُتوقّع منها أن تكون «مستقبل» بلد منذور للفراغ والتشرذم والشقاء. الشابات المختارات («حزب الله» و«حركة اليسار الديموقراطي» و«التيار الوطني الحرّ» و«تيار المستقبل»، بالإضافة إلى شابة منتمية إلى فكر يساري من دون التزام حزبيّ مباشر، إلاّ إذا تمّ اعتبار ظهورها في لقاء خاصّ بشبان منتمين إلى «التجمّع اليساري من أجل التغيير» التزاماً مباشراً)، اللواتي بلغن الخامسة والعشرين من العمر كمعدّل عام بينهنّ، منجذبات إلى زعامات طائفية ومذهبية وسياسية (إحداهنّ اعتبرت أن فؤاد السنيورة يمثّلها، والثانية تتماهى بانفعال عاطفيّ مع الجنرال ميشال عون، والثالثة مبهورة بالسيّد حسن نصر الله لأنه «يُفسّر» لجماعته كل شيء قبل أن يطلب منها التحرّك الميدانيّ، والرابعة منبهرة بكلمات ديموقراطية ويسار وعلمانية...، والخامسة تائهة (إلى حدّ ما) وسط هذه التنويعات اليسارية المتناقضة، إلى شابة سادسة ظلّت صامتة و«شاردة الذهن» أمام الكاميرا، ولعلّ صوت الراوية في خلفية المشاهد هو لها، بما فيه من نبرة متألمة إزاء المشهد اللبناني المزري)، وعائشات في مناخ متشنّج ومتوتر وعصبيّ، ورافضات (بحسب سلوكهنّ ونقاشاتهنّ وترويجهنّ الأعمى لـ«قناعات» مقدّسة لا غبار عليها، واستبسالهنّ المبطّن في الدفاع عن «قادة» لا يخطئون وعن «وطن» يصنعه «القائد» لا الآخرون) حدّاً أدنى من تواصل سوي ونقاش نقدي وسجاليّ مع الآخر، وإن بدَوْن في أكثر من مشهد كأنهنّ كسرن الجدار المرتفع بينهنّ، في حين أن جبالاً من حديد تفصل بينهنّ، لأنها تفصل تياراتهنّ السياسية والدينية والمذهبية بعضها عن بعض، أو ربما لأنهنّ لا يرغبن في تواصل سوي.

لا مبالغة في هذا، لأن مشاهدة الإنجاز الوثائقي لمحمود حجيج يدفع إلى استنتاج قيل على لسان مشرفة على إحصاء أجري في إحدى مراحل النزاع اللبناني الداخلي الأخير: «إن لبنان على شفير الهاوية». وهو هكذا ليس فقط لأن السياسيين منفضّون عن حلول جذرية، بل لأن جيلاً من الشباب منصرفٌ عن الوطن والدولة لحساب الطائفة والمذهب. ولن يخفّف من وطأة الصدام هذا وجود منتمية إلى يسار لا يزال هشّاً وضعيفاً ومنقسماً على نفسه، بسبب تبعيته السياسية منطقاً سياسياً واقتصادياً متناقضاً وجوهره الفكري (الرأسمالية المتوحشّة)، أو باحثة عن فكر يساري متحرّر من الطائفية من دون جدوى، بعد أن صدمها الانهيار الفظيع لروح الرابع عشر من آذار على أيدي سياسيين ذوي مصالح ضيّقة وخاصّة. وإذا أبدت الصبيّة التائهة نقمتها على تداعيات الرابع عشر من آذار، لأن هذه اللحظة «التاريخية» لم تُستَكمل بخطوات عملية، فإن الشابة اليسارية الأولى أنهت النقاش بقولها إن ما جرى في ذلك اليوم المليونيّ حقّق المطالب كلّها (لا يكفي خروج الجيش السوري من لبنان وإلقاء القبض على الضباط الأربعة لبناء دولة وتشييد وطن وكتابة عقد وطني سليم يحترم التعدّديات اللبنانية المختلفة. والدليل على ذلك ما آلت إليه أحوال البلد وناسه). في حين أن التيارات الأخرى غارقة في إيديولوجياتها المتنوّعة التي «تشاركت» في سحق لبنان واللبنانيين.

الشابات المختارات ضائعات وسط انهيار لبناني فظيع على المستويات كلّها، على الرغم من أنهنّ جهدن لتأكيد صدق انتماءاتهنّ وشفافية التزاماتهنّ. لكن المشكلة كامنة في مسألتين اثنتين: أولاً، عجز شبابي لبناني فاضح عن الخروج من الطائفة والالتزام المذهبيّ أو العقائديّ الضيّق إلى مشروع وطن ودولة، وإن ادّعى بعض هؤلاء الشبان المحاصرين بالبؤس والتمزّق وانسداد الأفق وغياب الوعي خطاباً «وطنياً» مستمداً من أوهام زرعها في رؤوسهم سياسيون مصرّون على الخراب، وأصرّ بعضٌ آخر على توجّه يساري مشوب بألف سؤال وسؤال. ثانياً، غياب مؤذ لوعي ثقافي وسياسي وفكري لمرحلة ما قبل اغتيال رفيق الحريري، إذ التقت الشابات جميعهنّ تقريباً، وإن بمستويات متفرّقة، عند مقولة واحدة: بدء العمل السياسي والنضالي لحظة الاغتيال المذكور، وعدم التنبّه إلى مرحلة ما قبلها.

بين بداية العمل السياسي والنضالي «من أجل لبنان» (لحظة اغتيال رفيق الحريري)، وغياب التواصل مع الذاكرة الجماعية، والانقسام الحادّ بين الشباب، قدّم محمود حجيج فيلماً قاسياً، لأنه كشف عمق الهوّة السحيقة التي تفصل اللبنانيين بعضهم عن البعض الآخر، والتي تؤكّد، يوماً بعد يوم، مسؤولية اللبنانيين جميعهم عن خراب بلدهم ومجتمعهم، خصوصاً أن جيلاً شبابياً لا يزال قابعاً في بؤرة الجحيم، من دون أن يسعى إلى التمرّد والتفلّت.

نديم جرجورة - السفير اللبنانية

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى