الثلاثاء ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠١١
بقلم سمير صابر الجندي

أبونا عيسى...

أبونا عيسى، رجل عليه وقار السنين، قد عبثت خطوط الزمن بوجهه ويديه اللتين تقبضان بعزم على مقبض عصاه التي يتكئ عليها بغدوه ورواحه، وجهه مشرق كأصباح بئر زيت تلك القرية التي أخلص أبونا عيسى في حبها، فلم يغادرها إلا في رحلاته الإيمانية إلى القدس، يزور فيها كنيسة القيامة، يؤدي واجباته الدينية، ويقفل راجعا إلى خربة بئر زيت، كأنه قطع عهدا أبدياً مع تراب أرضه الأحمر، كان يجلس على ركبتيه، يعالج نبتاته برقة اكتسبها من نسمات نيسان التي تهفهف على أشجار اللوز والرمان، وتداعب أغصان الصنوبر العالية، من هناك من فوق رابيته يطل علينا من البعيد البعيد بحر يافا بمياهه الزرقاء الصافية كالكرستال التشيكي الأزرق، الذي يبعثر ألوان الطيف بطريقته الفوضوية المحببة، كان يجلس بين شجيرات الفول بنوعيه، ذات القرن الطويل وذات القرن القصير، وبين شجيرات البازيلاء الخضراء التي يشبه مذاقها العسل من شدة حلاوتها، كانت لحيته البيضاء الناصعة التي تتدلى حتى منتصف صدره، تتثاءب بدلال كلما لامستها نسمة هواء مشاكسة، ابتسم لنا أبونا عيسى عندما حييناه، دمعت عيناه كجدول ماء يسير بين ظلال سنابل خضراء ملأى بالحبوب عندما عرف أننا من القدس جئنا لزيارة ريفنا الجميل، دعانا لشرب الشاي، وأجلسنا على مقعد خشبي قديم، يذكرني بمقاعد الدراسة الابتدائية، بدأ يحدثنا عن حبه لأرضه التي لا تزيد مساحتها عن عشر قامات طولا وعرضاً، يصر على زراعتها في كل المواسم، زرعها بالزيتون، والتفاح والعنب، وزرعها بالبقول من فول، وحمص، وبازيلاء، كما زرع بعض شتلات من البندورة والخيار والكوسا، يقضي نهاره بين نبتاته، وتراب أرضه الأحمر، رفيقته العصا وكنته التي لم تنجب له الأحفاد بسبب عقم الزوج، المرأة التي ارتسمت على محياها سعادة العمل بجانب حماها الخوري الجليل، الذي يشفق عليها كما يشفق على تراب أرضه من عبث العابثين، ذئاب الأرض الطامعين، الذين يحاولون النيل من كل بقعة متروكة، أبونا عيسى، لم يترك أرضه يوما واحداً، ولم تتركه أرضه، فيها كل ما يريد من محبة، وثراء، وبهجة، وراحة بال، فيها أحلامه تنضج يوما بعد يوم، فيها عزيمته وقوته وحياته، للشمس فيها معنى الحياة، وفيها يتعانق الأفق مع الغروب، وفيها تتسامر الطيور فوق الأفنان، فيها أبونا عيسى يبتسم ابتسامة عريضة تتسع لكل الآمال، فيها تتحطم كل الأطماع، تختفي كل الجدران، عندما جلست مع (أبونا) عيسى شعرت لأول مرة في حياتي بأن الأحلام ممكن لها أن تتحقق، فماذا نريد من الحياة أكثر من زادنا اليومي، وجرعتنا في عشق الوطن، يتحول التراب إلى ماس ثمين بين أصابع المخلصين...

لم يحدثنا أبونا عيسى عن نفسه ولم نسأله أبداً، كان حديثه عن أرضه كأنه يتحدث عن معشوقته، فهي شريكته، ورفيقته، وملاذه، سألنا عن أحوال القدس... القدس حزينة، وحيدة، تتوق إلى تلك الأيام التي صنعت من ذكرياتها منارة انصهرت فوق خيوطها مشاعر الإيمان.

أُحضر الشاي بالنعناع الذي فاحت رائحته في المكان وامتزجت مع عبير أزهار اللوز والريحان ولسعة برد تداعب الجسد فيستسلم هانئا بين أحضان الطبيعة الغناء، تناولت كوب الشاي وأنا ممتن لكرم الضيافة، نظرت إلى عيني أبونا عيسى فوجدتهما غارقتان في هم تنوء عن حملها جبال رام الله وتلالها، في البداية لم أشأ اقتحام خصوصيات الرجل، إلا إنني اندفعت بعد ذلك اسأله عن معنى تلك النظرة الحزينة التي تسكن بين مقلتيه، رفع نظره إليَّ مبتسما وقال: لقد فتقت جروحي يا بني.

آسف يا سيدي لم أقصد إزعاجك.

لا، بالعكس يا بني، أنت لم تزعجن بحديثك، بل رؤيتك جعلتني أتذكر القدس والأيام الخوالي، وأعدتني إلى مرحلة من حياتي ظننتها طُويت إلى الأبد، كنت ساذجا عندما اعتقدت بأن الزمن كفيل بأن ينسيني تلك المرحلة... ولكن، لا بأس في ذلك، فإن الذكريات مهما كانت، هي دليل حي على وجودنا، أنا سعيد جدا بوجودك هنا، فإنني أشمُّ رائحة القدس تفوح من أنفاسك...

قام أبونا عيسى عن مقعده الخشبي متكئاً على عصاه، يسير ببطء نحو زاوية الأرض الشرقية، فاستغلت الكنة ذهابه بأن قالت: أبونا عيسى رجل فاضل، لكنه قاسى الكثير في حياته خاصة عندما تعرضت أرضه للمصادرة من قبل الاحتلال قبل سنوات، ما جعله يترك الكنيسة الأرثوذكسية بالقدس لإنقاذ أرضه، فقد كان على خطوات قليلة من رئاسة الكنيسة، إلا إنه آثر إنقاذ الأرض وتخليصها من براثن الاحتلال على منصبه، ذلك المنصب الذي يسعى إليه كل رجل دين في الكنيسة... صرخ أبونا عيسى مناديا لنا بالحضور إليه، انظروا إلى تلك الزهرة التي اكتسبت اللون الأبيض، لقد زرعتها قبل أسبوعين، وها هي قد أزهرت فما أطيب رائحتها! وما أجمل لونها الذي يميل قليلا إلى لون السكر! أبونا عيسى سعيد بزهرته، ظهرت عليه نشوة الانتصار، أبعد التراب عنها وصنع حوضاً صغيراً صبَّ فيه الماء بيد ترتجف من فعل الزمن، ثم تناول يدي برفق وأخذ يسير بي بعيدا عن الآخرين، شعرت بدفء قلبه من خلال كفه الضخم، همس قائلا: ما يؤلمني يا بني أن الزمن يمر سريعا، والعمر يتناقص ولا يزيد، في داخله صراع بين الحياة والموت، والحرية والاستبداد، وجمال الأرض وقبح الاستيطان... أضاف يقول: ها أنا اقترب شيئا فشيئا من نهايتي- هذا أمر الله- وقلقي يتزايد لأنني لا أعرف من سيروي الأزهار بعد رحيلي الأبدي...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى