الخميس ٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم أحمد إبراهيم رياض أحمد

أخبرني الحذاء

في خزانة الأحذية كنا ثلاثة، أنا والحذاء البني وذلك الوافد الجديد الذي جاءنا فأثار غيرة البني، لمعته تخطف الأبصار، وحجمه الصغير المناسب لأقدام الأطفال جعله يبدو لطيفا، كان مستقرا بيننا بهدوء، الحذاء البني يحاول العثور على عيب فيه، لكنه يئس من ذلك فاكتفى بتجنبه، أما أنا فقد شعرت بالألفة تجاهه، فرحبت به، ونشأت بيننا صداقة في وقت قصير.

وفي أحد الأيام سألته أن يحكي لي كيف وصل إلى بيت السيدة فاطمة في الوقت الذي كانت لا تملك فيه رفاهية شراء الأحذية.

نظر من ثقب الخزانة إلى النافذة المفتوحة، كان القمر مكتملا، ونوره الفضي يريح النفوس، فقال:
الليلة جميلة، وأنا أريد أن أحكي.

ابتسمت منتظرا.

تنهد ثم بدأ يحكي قائلا:

وسط الأحذية كان الانتظار صعبا حتى رأيته قادما مع والده لشراء حذاء، فوقع اختياره عليّ، حينها لم يكن يدري أن مقاسي أكبر من قدمه بقياس واحد، لكنني بالخبرة وبرؤيتي للأطفال في المحل كنت أدرك ذلك، فلم يكن أول من يقيسني. أخرجني العامل من خزانة الأحذية، ووضعني تحت قدميه. رأيت حذاءه القديم أنيقا ملمعا لكنه يبدو صغيرا علي قدميه. بدا الحذاء حزينا. لم أسأله عن سبب حزنه فهو معروف، لكنه أخبرني بمخاوف انتقاله للأخ الأصغر. لم أفهم وقتها ما الفرق بين قدم وقدم، لكنني أعرف الآن شعوره وأقدر مخاوفه. عند التجربة كان قياسي أكبر بدرجة واحدة كما قدرت من قبل، لكنه أصر على شرائي، فوافق والده مع شراء فرش لتقليل القياس. أحببته يومها و صار صديقي؛ فقد اختارني وأصر على شرائي. للمرة الأولى أشعر أنني مميز ومهم. كل يوم يخرجني من الخزانة، ويلمعني بدهان أسود، كان يوازن دائما بين طرفي الرباط، فيجعلني أكثر أناقة، وأخرج معه مزهوا بمظهري بين الأحذية، وهو يتحاشى إيذائي متفاديا الحجارة والأتربة قدر الإمكان. مع مرور الوقت أصبحت قدمه جزءا مني. أحس بنبضاته وبتدفق الدماء في قدميه فتدب الحياة في جلدي، أشعر به عندما يكون فرحا فيقفز ويتراقص برشاقة محافظا على سلامتي، وأشعر بحزنه عندما يسير ببطء وانكسار فأحزن مثله، صحبته كثيرا وشعرت بنمو قدمه بداخلي يوما بعد يوم، وفي كل يوم تزداد مخاوفي، لن أصبر على فراقك يا صديقي. عندما بدأ يشعر بضيقي كنت أحاول التمدد لكن بلا جدوى. عليه أن يشتري حذاء جديدا ويعيرني لأخيه الأصغر. عندما أرى مصير أحذية أخيه يستحوذ علي الرعب؛ لم أجرب من قبل ركل الأحجار، ولم يمض علي يوم دون أن يرطب جلدي دهان أسود لطيف. مصير محزن حقا، لكنه ليس أسوأ من فقدان صديقي. حتى إن اعتني بي أخوه فلن أشعر بالسعادة. سمعته اليوم وهو يحدث والده ويتساءل في براءة:هل يمكن أن يكبر حذائي؟ ضحك الأب ووعده بحذاء أجمل، لكنني رأيت في عينيه الحزن، فأدركت كم هو وفي، وفرت دمعة سوداء بلون الملمع بللت النعل. سوف تفضحني دموعي، أنا حذاء ولم يعتد الناس رؤية حذاء يبكي. كتمت أنيني وفكرت في رحمة الله حتى غفوت.

أشياء عجيبة حدثت بعد ذلك لم أكن أتخيلها، لقد بدأ جلدي في التمدد، وزاد قياسي واتسعت، تسللت من المنزل ليلا وذهبت إلى المحل وكلي ثقة أن المعجزة التي حدثت ستكتمل.

وقفت أمام بوابة المحل منتظرا حتى جاء العامل وفتحها، وعندما نظر أسفل رآني، فشهق دهشة، لقد ظن أنه نسى أن يعيدني لخزانة العرض أمس.

وضعني العامل برفق في الخزانة وانتظرت.

مرت الثواني بطيئة وثقيلة على نفسي، تلتها دقائق أطول، ثم ساعات كأنها سنوات، وظللت متوترا حتى لاح من بعيد، يسير جوار والده وعلى وجهه أمارات الحزن.

دخلا المحل وداعب العامل صاحبي مستنكرا حزنه الغريب فعادة الأطفال الفرح والسرور بشراء الأشياء الجديدة.
رفع بصره إلي فابتسم، عرفت أنه عرفني، واندهشت لأنه لم يندهش، هل دعا ربه كما دعوت؟
جذب والده وأشار نحوي قائلا:

لا أريد إلا هذا الحذاء.

ابتسم الأب وقال:

يشبه حذاءك الأثير بشكل لا يصدق، كأنه هو!

عدت فرحا وذراعي صديقي تحتضنان علبتي بسرور، يا لها من معجزة حققت لي وله السعادة.

أفقت من غفوتي على صوت صديقي يحدث والده، لقد كان حلما جميلا، للأسف لم يتمدد جلدي ولم يتسع قياسي ولم تحدث المعجزة.

لم أتمالك نفسي فنزلت دمعتي مرة أخرى.

اقترب مني صاحبي وحملني برفق، ثم سار ناحية باب الشقة.

ناداه والده سائلا إياه ماذا ستفعل بالحذاء؟ إنه لأخيك.

قال بصوت منكسر: أخي لا يحتاج لحذاء جديد، لكني أعرف من يستحقه أكثر.

هز الوالد رأسه في رضا وابتسم.

نزل صاحبي وهو يحملني، وعند باب شقة السيدة فاطمة توقف وطرق الباب، انفتح الباب على طفل صغير جميل دامع العينين.

ربت صاحبي على كتفه مواسيا وقال: كفاك حزنا، رحم الله والدك، هو الآن في مكان أجمل.رفعني صاحبي وقال:

ما رأيك في هذا الحذاء الجميل؟ هو لك.

رأيت الفرحة في عينيه ووجهه يتحول إلى ضحكة كبيرة، فنسيت حزني، واتسعت الابتسامة على وجه صاحبي.

عرفت أن السعادة لا تأتي من المعجزات، فصديق وفي وبسمة على وجه طفل صغير يفتحان كنزا من السعادة.

انتهى من حكايته، فانتبهنا لخيوط ذهبية من أشعة الشمس تتسلل إلينا من ثقب الخزانة كأنها تحب سماع حكايتنا. عرفنا أنه الصباح، ولم ننتظر طويلا فقد فتح باب الخزانة عن وجه مبتسم لطفل سعيد.

= انتهت =


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى