أرْصِفَةٌ تُنَجَّدُ لِمَبِيتِ الأَحْلامِ
(1)
أريدُ مقاوِلاً يصلح لترميم إنسان..
كلُّ ما أَحْلُمُ بِهِ أنْ يرانِيَ،
فيرْأَفَ بِكيَاني الذي يزْدادُ تأكلاً
مِنْ حَرَارةِ الاضطهادِ،
ومِنْ ندَى التَّجَاهُل،
ويَقومُ بوضْعِ ميزانيَّةٍ تُرَمِّمُ هذا الشُّموخَ الذي
صارَ آيلاً للسُّقوطِ؛ نتيجةِ زلازلَ اجتماعيِّةٍ مُفاجِئةٍ..
لكنْ هَلْ يسْتطيعُ هذا المُقَاولُ
أنْ يَنْصُبَ سقَّالاتٍ عالِيَةٍ تَتَناسَبُ مَعَ هذا الارتفاعِ؟!
فيَتَمَكَّنُ العُمَّالُ وصولاً لأعلى نُقْطَةٍ
بموادِ ودهاناتِ تّرميمِ بناءٍ عظيمٍ
مكوَّنٍ مِنْ لَبَناتِ الأحلامِ والكَرَامةِ والحُرَّيةِ..
فَجْأةً،
واسْتيْقَظْتُ مِنْ أحْلامِ الكبْرياءِ،
وكوابيس عِزِّةِ النَّفْسِ التي تُطارِدُني..
وجَدتُ أنِّي لَسْتُ مَبْنىً أثَريًّا تبَقَّى مِنْ مُخلفاتِ الأزْمنةِ،
أو تِمْثالاً فُرْعُونيًّا ضَخْمًا،
تُنْفِقُ عليهِ الدَّولةُ مِنْ خزَائِنِها،
لتَنْفُخَ فيهِ الرُّوحَ لسائِحَةٍ تُقيمُ مَعَهُ عِلاقَةً عاطفيِّةٍ
تدْفعُ عليها مقابلاً مادِّيًّا في سعادةٍ..
ولأنَّني أنا الذي أدْفَعُ دائمًا؛
خَطيبتي تترُكُني لضِيقِ الحَال،
ولعدَم قُدْرتي على تجْهيزِ مَتْحفٍ يجْمَعُنا مدى التَّاريخ.
وجَدتُ نَفْسي مُهْملاً على "فاتريناتِ" الأرْصِفةِ
يتساقطُ مِنْ عُمْري كُلَّ يومٍ قالِبٌ مِنَ الطُّوبِ
لأضَعَهُ في بِناءِ حُلْمٍ لا يَرْتَفِعُ
مُقابِلَ هذا القِصَرِ والتآكلِ في بُنياني،
إذا بنارٍ مِنْ معاناة الحياةِ
وُضِعتْ فوقي..
تَجْعلُني شمْعدانًا لا يَصْلحُ لمُقاولٍ أَنْ يُرَمِّمَ بِناءَهُ!
(2)
مِنْ لَحْظَةِ ميلادِهِ وهو يبيتُ على الأرْصَفَةِ
يتسَوَّلُ مِنْ عُيُونِ المارَّةِ
فُتَاتًا مِنَ الشَّفَقَةِ لا تُشْبِعُ مَعِدَةً
بَقَدْرِ ما تشْمئِزُّ مِنْها أنوفُ الكَرامةِ
التي تَسْعَلُ دائمًا مِنْ غَبارٍ
ينْتُجُ عَنْ احْتكاكِ الأحْذيةِ بأرْضِ طُرِحَ عليهِا شُمُوخُهُ،
وتُعَرْبِدُ حَوْلَ نَوْمَتِهِ سُخْرِيَةُ العُطُورِ النَّفيسةِ..
هذا هوَ الحُلمُ النَّائم هُناكَ على الرِّصيفِ
في ثيابهِ المُهلْهَلةٍ،
عِنْدما يَفْتَحُ عيْنَيْهِ بعْدَ النَّومِ
تَفيضُ دمْعاتُهِ إثْرَ مَوْجَةٍ مِنْ دُخانِ سيجارٍ فاخرٍ
أطلَقها أحَدُ رِجالِ الأعْمَالِ عِنْدَ مُرُورِه..
اعْتَقَدَ بأنَّ اخْتلاطَ الدُّخانِ بدَمْعَتهِ
هُوَ هديَّةُ السَّماءِ لتَفْصيلِ سَحابَةٍ ثَرَيَّةٍ،
ظَنَّها صَفْقةً مُرْبِحَةً بينَ نُجومِ المجْتَمعِ
وبينَ الحَصى المُلقى على الأرْضِ..
لكِنْ للأسفِ.. ما زالَ.. وسيظلُّ حُلْمًا مُهلهلَ الثِّيابِ
تَتَمَدَّدُ عَبْقَريَّتهُ فِي العَراءِ
لَنْ تَرْحَمَهُ سَحَابَةٌ مِنَ سُعالِ المُجتَمعِ عليهِ
أو حتَّى مِنْ أشِعَّةِ الأيَّامِ
التي تَجْري بكَشَّافاتِ سَيَّاراتِها مِنْ فوقِ رأسِهِ،
كانَ يتَمَنَّى أَنْ يكُونَ مَكانَ هذهِ السَّحَابةِ
ـ فقط ـ
ليَرْحَمَ ضَنْكَ الصَّحراءِ التي لا تَجِدُ رَصيفًا
تتسَوَّلُ عليه بجوارِ مَطْعَمٍ أو مقهَى.
ويَكونُ سَقْفًا للشّوارِعِ العاريةِ
لِحِمايةِ الباعَةِ الجائلينَ
والنِّساء اللواتي يبعنَ الجُبنَ والفطيرِ
مِنَ أجل تربيةِ أطفالهنِّ اليتَامَى
بَعْدَ استشهادِ أزْواجِهِنَّ
من أجل وطنٍ يبني شُموخَهُ..
لكنْ للأسَفِ..
عِنْدما شَبَّ هذا الحُلْم قليلاً:
لَمْ يَكُنْ سَحَابةً؛ بلْ وجَدَ نَفْسَهُ مُطَارَدًا
مِنْ شُرْطَةِ المَرافِق ـ مع هؤلاء ـ عِنْدَ بناءِ أوَّلِ كُشْكٍ خَشَبيٍّي
تتقوَّتُ عليهِ الأماني الهَزَيلةُ،
ليَصْبحَ مبيتُهِ على هذِهِ الأرْصِفَةِ
مخالِفًا للقوانين،
لأنَّها لا تُنَجَّدُ
إلا لمضاجَعةِ السيَّاراتِ المَمْشُوقَةِ القوامِ فوقَها..