الأربعاء ٣١ آذار (مارس) ٢٠١٠
بقلم زياد الجيوسي

ألمٌ يجتاحني وكأنه فهرس الأخطاء

يجتاحك الألم حبيبتي، ويجتاحني أكثر و(ترعف الريحُ أحزانه)، أقف ملتصقاً بنافذتي أتأمل المطر في هذا المساء، لعله يطهرني من اجتياح الألم، وأشعر أنه (سيقعي المساء على أربع ثم ينجب أيتامه)، وأرى الحزن يجتاحك وكأنه (نُدباً في ظهور ملائكة ذابلين)، فأشتاق إليك أكثر، فكيف لي- وأنت في البعيد- أن أصل إليكِ، وأنا (في جبتي وطن من بكاء)، ولا أرى في الحاضر إلا (رداء من الخز يستر عوراتنا، وتواريخ محمولة في الحقائب)، فتقفز بغداد إلى الذاكرة مع ألمنا في البعاد، فأذكر وطناً ضمني حين كانت بغداد (تورد ظهر الزجاج)، وأجرت في دمي ماء دجلة، فمازجته في شراييني مع فيء زيتون وطني (كي لا تطفئ الروح في جسدي).

أجول مدينتي رام الله، نسمات البحر المستلب تداعب روحي، أشعر بطيفي يرافقني وأشعر (أنه راح يجمع بقايا المدن المنهكة..!!)، ويحاول أن يرى (السماء التي لم يرها منذ زمن بعيد)، فسماء بغداد كما سماء رام الله، مليئة بالدخان الذي يحجبها عن الشمس، وتعصف بها (ريح تكنس المدن عن الخارطة)، وتقف شامخة رغم الجرح بمواجهة (قطيع من الظلال.. يمشط بأقدامه الغبار)، فمدننا تمتلك رغم العواصف (جناح مؤجل للطيران)، ومدننا اعتادت دوماً أن (تغزل أحلامها بمغازل من ذهب)، وأنا عاشق المكان الذي يعرفها جيداً، فأنا (رجل بذاكرة عارية)، ولم أكن أبداً من رواد (مقهى من أجل تكرير الجنون).

لماذا تشدني رام الله إلى بغداد؟ أنا هنا أعاني الوحدة في وطن أنغرس فيه، أفتش (في بقايا المدن المنهكة، المدن التي أخطأتها الريح، عن امرأة، وجدار..)، فلا حبيب هنا ولا أبناء يقتسمون معي ألمي، فتأتي بغداد إلى رام الله لتزيد من وهج الألم، وأنا الذي لا يمتلك متراً في الوطن، لكني أمتلك الوطن بأكمله، باقٍ رغم الألم مع طيف أحلم به، يأتيني هنا (كي يعانق آخر إبحاره.. أوّله..)، وأنا الذي (تسكن الأرض خاصرتيه نزيفاً)، و(تبرد في صدره طلقة قاتلة)، فما بين ذاكرة بغداد ومعانقتي رام الله بعد عقود الغياب، كنت أسير (في الطريق إلى وطني، كنت دوماً شهيداً، وكان الزمان صداي).

أترى لأن بغداد من ضمتني حين كنت أحلم أن أعود وألتقيكِ، حين كنت (أحلم بامرأة لا تجادل في النحو أو في البلاهة)، فكنت أكتب لكِ ما تركته فيها فضاع حين لم أعد إليها، ولم ألتقيكِ، ووأد جسدي، وبقيت أحلم بك وأنا (لم أزل أتهجى رماد المدينة)، وأحلم ببغداد سيدة (مدن العالم المشتهاة)، فيا بغداد عودي كما كنتِ (وامنحيني صلاتك أو هدهديني)، ضعي يدي بيدكِ في شارع أبي نواس وضفاف دجلة كما كنت تفعلين (فقد تعبت هذه الأرض من صخبي)، خذيني إلى الوزيرية والأعظمية والكاظمية، (فقد شاب مني الشراع)، أعيديني إلى روح أمي غريبة وابنتي نهلة في كمب الجيلاني، كي لا أكون أنا (سيد المتعبين إذا أقفرت من رفيق ذراعاي)، ضميني إلى صدرك في شارع الرشيد، فأنا بشوقي (مطر عالق في سقوف الغمام)، ودعينا نجول شارع المتنبي نلتقط بعض الكتب، شارع النهر حيث تتهادى حوريات بغداد، جولي معي في شارع المحيط وغابات النخيل حيث كنت (أتوسد الخرائط.. فتنبت على خدي الطرقات)، ودعينا نلتقي أساتذتي الذين كانوا (يغتسلون بحليب الحكمة)، وحين نتعب نحتسي القهوة في مقهى البرازيل (لكي أختصر الأرض)، ولا تتركيني (مثل جذع يتيم في عباب الحياة).

أيا رام الله، ضميني إلى صدرك وانثري على رأسي شلال شَعرك، احضنيني تحت شجرة البركة، فأنت وحدكِ من لها (أذنٌ أجفف فيها الكلام)، وأنا المغني الذي (أطلق لحنجرته عنان البكاء)، وأبذل روحي كي لا (يسقط الوطن من الخارطة)، ولا أمتلك إلا حلمي (وأوراق طرية الحبر)، بينما أرنو فأرى (ثمة أصدقاء عالقون على شفة الموت)، وأرى حلماً حلمناه وسعينا من أجله يتحطم، وأراه قد (سقط في بئر من الخرائط وتدلت فوقه أسماء المدن العتيقة)، وكان الحلم أن (يرى الشمس عنقوداً من المصابيح)، وأن يكون (القبلة لدى سماع آذان الفجر)، لكننا صرنا لا نرى الوقت إلا (من ساعة معطلة في سماء بغداد)، ولا نمتلك (سوى العمر الذي لا يأتيه النوم)، و(تحية لأرواح بعض أجدادنا).

وأسألك حبيبتي (كيف سأسرق باقة ضوء، من قمر.. سلبته النوافذ تاريخه؟)، فتعالي من بعادك كي (أصنع من نجمة.. نجمة)، وكي أخلق من وطني وطناً كي لا يقولون لي: كفاك (لك من الجغرافيا أطلس حافل بتضاريس الحنين)، أنا الذي حلمت و(أطلقت ذاكرتي للريح)، ولا أمتلك إلا حلمي (وأنا أرسم السماء بلون الدم)، وأصرخ بكل ما تمتلك حنجرة قد بُحت من كثر الصراخ: (أيها الناجون من بلادكم.. إلى أين المفر؟؟)، تعالوا ولا تكونوا مثل من (يغزو الظلام مفاصله فيحضن صورته.. ويموت)، تعالوا واسألوا أنفسكم (لماذا ينقش العابرون أسماءهم على سور المدينة.. أو على ما تبقى من جذوع الأشجار.؟).

يا صديقي الشاعر عبود الجابري، لا أريد أن أكون (عابر وطن)، فلماذا تصر أن تحملني من ميدان المنارة إلى (جسر الشهداء)، وتهمس بأذني بصمت: ترى (كم جسراً يلزمنا للشهداء..؟؟)، فأصمت كصمتك ولا تسمع مني إلا (زقزقة مبحوحة) وأهمس لك: لا تبتئس يا صديقي فما زال (ثمة أنت.. وأنا وترابٌ أحمر)، وأطفالنا (أجنحة مؤجلة)، ووطننا لن يكون مثل (غريب يموت من البرد في جنبات الفصول)، فما زلت أرى (غيمة في سماء البلاد) تحلم (بالطين المقدس) و(تمتثل لأذان الفجر)، وتحملنا أنت وأنا، رام الله وبغداد إلى جنين لننثر الورد على مقابر شهداء العراق في جنين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى