

أوراق الصفصاف...
أفلت شمس اليوم؛ ولمْ يعُدْ...لم تكن هذه عادته...
تنظر "فتيحة" إلى عقارب الساعة، سُلطان القلق يكسِرُ ثباتَها.... العيْنُ تخْدَعُها وهي تراقب الفضاءَ الخارجي من خلف زجاج النافذة... يُخَيّلُ إليْها أنها رأتْ طيْفاً... يلتصق أنفها بزجاج النافذة بينما عيناها تُتابِعان ما تخيّلتْهُ.... تتسع المُخيِّلَة، تخدعها الأذن؛ فتظنُّ أنّها سمِعَتْ طرْقاً خفيفاً على الباب، تُهرْولُ وتفتحُهُ... تُطلُّ برأسِها - وقدْ لفّتْهُ بخمارٍ وردي- يميناً وشِمالاً... فَـــــــرَاغٌ رَهيبٌ يفْترسُ المكان... تقفل الباب بإحْكام، وتعود إلى الدّاخل... زفرَاتُها تتصاعد، ترْتمي فوق الأريكة بعد أن قهَرَها طول الانْتظار وتقاذفتْها عواصِف الظُّنون... رداءُ الليْل يتمدّدُ شيْئاً فشيْئاً، ها هي تغْفو لِلَحْظة...
لمْ يكنْ بِالإمْكان...
في الطابور الطويل؛ ينتظر "سعْدو" دوره ليسْتلِمَ بِدْلَتهُ الجديدة وما معَها منْ مُسْتلزَمات... يُحاول التّحكُّمَ في أعْصابه... يستعْصِي عليْهِ التّخلّص من المشْهَد، يستعْصي عليْهِ انتزاع الصورة من بيْنِ عيْنيْه، كلّما تقدّم خطوة؛ تمدّدتِ الصّورة... يُحسُّ بوخز دبابيسَ تنْتشِرُ عبْر جسده، يُمَرِّرُ أصابعه الطويلة على فرْوَة رأسه... على ذراعه الأيسر... يتحسّس صدره، يسعل بين الفينة والأخرى... يخال أنّ التقدُّمَ بطيء.... يشْغلُ نفسَهُ بِتِعْداد مَنْ قبْلَهُ في الطابور، وبالالتفات كذا مرّة؛ إلى العدد الذي وراءه.. مع كل خطوة؛ تدور به الأرض، يُكابِر ويصبر.. غير أنّ الخطوة تسْتصْرِخُهُ واللحْظة تسجنه داخل شتات الصُّورة العنيدة.. ورغم المُكابَرَة ينهار فيسقط، يلتفُّ حوله رجالٌ ممّنْ ينتظرون مثْلَهُ. يتركون أماكنهم في الطابور ويحملونه إلى المقدّمة حيث يتولى أحد المُنَظِّمِينَ إسْعافَهُ.... رَشّاتُ ماءٍ باردة متلاحقة؛ ويعود "سعْدو" إلى وعيه. يُخيّلُ إليْهِ أنّه سمع أحدهمْ يُردّد في إشفاق ملحوظ: "هذا ضعيف... لم يتحمّلْ ساعة وُقوفٍ... فكيف سيتحمّل ما نحن عازمون عليه...!"
كيف وصل إلى هذا المكان...؟ مَغارةٌ في قلب الغابة؛ تُعانِقُها أشْجار الصّفْصاف ذات الأوراق الرُّمْحِية المُتدلّية... فجْوة الوُلوجِ إليْها تستوْجِبُ انْحناء الأجسام بشكْلٍ لا يخطر على بال.. داخل المغارة يتصفّحُ الوُجوهَ والأشياء، يُرْهِفُ السّمعَ وكأنّهُ يستعيد نبرات صوْتٍ يعْرفه... ينْتبه إلى القدميْنِ الوَاقفتيْنِ قُبَالَتَهُ. يُصعّدُ نظراته شيْئا فشيْئاً في الجسد الضخم المُتسمّر أمامَهُ.... يشهَق... يسقط رأسهُ على صدْره... يُسارِعُ الواقف إلى إسْعافه.
سيكتشف أنّ أخاه لم يمُتْ...وأنّ نَعْيَه كان مُجرّد إشاعة؛ صدّقها الجميع.. يسْتعيدُ توازُنَهُ، يُحاوِلُ أن يفهم..؟ وقبل أن يسْأل، يُعانِقهُ "عبد الحقّ" وقد أغرقه عرَقٌ شديدٌ، واعترتْه دهشة كبيرة؛ تتناسلُ عنها استفهامات متبايِنة؛ تقتنِصُ سهْواً مَلْحوظاً، تُفسّرُهُ حيْرة الاخويْنِ وهما يعيشان وَاقعية اللحْظة...
يُكلّفُ "عبد الحق" أحد رِفاقِهِ بمتابعة عملية استقبالِ الراغبين في الانضمام، يتأبط ذراع أخيه ويتوغّلانِ حتّى آخر زاوية في المغارة.. يجلسان القرفصاء، يتحاكيان، يستعيدان الأزمنة العالقة بيْن ماضٍ وَلّى.... وبيْن حاضِر جديد...
يقول "سعدو" وقد سرح ببصره في فضاء المغارة: " ذات ليلة – ودون قصْدٍ – سمعتُ حديثكَ مع أمّي... كانت قد أحضرتْ لك الكثير من الزاد وطلبتْ منك أن تأتي بواحدٍ من رُفقائك؛ يُعينُكَ على الإيصال. شرحْتَ لها أنه من غير الممكن أن تُغامِرَ بهذا الشكل... وأنّ الأنسب أن تتحمّل أنتَ وحدك هذه المهمة؛ حفاظا على أرواح بقية الرّفاق. يبدو أنها لم تقتنع؛ لذلك رُحْتَ تُبرِّرُ وتُعلّلُ وتقول: "يا أمي، الغابة قريبة من البيت، مسافة العُبور إليْها؛ لنْ تتجاوز نصف ساعة... وهذا الظلام يُساعدُني على المشي دون عقبات...ثِقلُ المؤونة فوق ظهري؛ لنْ يضرّني، لقدْ تعوّدْت.... دعواتُكِ تجعلني أصِلُ سالماً منذ بدأت..."
ابتسمتْ أمّنا، هزّتْ رأسها بِثِقة، ثمّ اسْتَدارتْ إلى حيثُ كنتُ أتظاهر بالنوم وعلّقتْ بنبْرَة حزينة: " ليْتَــــــــــــــهُ يُشْبِهُــــــــك....!!"
تألّمتُ.. غير أنّي فهِمتُ أمّي والتمستُ لها الأعذار... ولكنّ الذي حيّرني: أين يذهب أخي في هذا الليل الدامس؟ لمَن يأخذ كلّ هذه المَؤونة؟ ومُنْذُ متى..؟ فكّرْتُ في أنْ أنتظرَ قليلاً حتى تنامَ أمّي وأخْرجَ؛ لعَلنِي أفْلِحُ في تعقُّبكَ.... لكنها لم تنمْ.... خِفتُ أنْ أفْقدَ أثرَك وصممتُ على الانطلاق. قصدتُ الباب مُسْرعاً، وإذا بها تقف بيني وبين الباب في حالٍ من الذّهول... أمرتْني بصرامة لمْ أعْهَدْها؛ بالعودة إلى فراشي؛ فالوقت ليس وقت خروج، والصقيع يأكل أطراف الأرض...
كانت هذه تبريراتها.... وكانت ليَ تبريراتي... اِدَّعيتُ أنني نستُ حضور وليمةٍ في أحد بيوت القرية، وأنه لا بدّ لي من الذهاب حتى وإن كان الوقت متأخّراً، فأصدقائي الشباب تطولُ سهراتهم حتّى ينشقّ الصُّبْح... رجعْتُ إلى الفراش وكأنّني سمعتُ ما كانتْ تُتمتم به أمّي: " متى ستعْدِلُ عن هذا الطريق يا بُنيّ...! فراغٌ وطيشٌ وعَماءُ بصيرة..." أطفأتْ أمّي المصباح بعد أنْ دَثَّرَتْني وراحتْ إلى غُرْفتها. لمْ أنَمْ تلك الليْلة، كنتُ أفكّر: لماذا لمْ أصادِفْك من قبْلُ وأنت تخرج ليلا؛ مُحَمّلاً بهذا الذي رأيتُهُ..؟ قرّرتُ في الأخير أن أقلّلَ من سهراتي في القرية؛ سأنتظر حتى تأتيَ مرة أخرى. أربعة أيامٍ فقط؛ وجِئتَ يا "حَقُّو" – كما كان يحلو لأمّي أنْ تناديك- أتيْتَ بكيسٍ كبير من الثياب وطلبْتَ منْ أمّي أنْ تغْسِلَها وأن تُصْلح ما تمزّق منْها... فكّرتُ أنّكَ تبيعُ الثياب المُسْتَعْملة... سخِرْتُ منك، علّقتُ بيني وبين نفسي: "رغم سِنّ أمّي المتقدّمة؛ عجباً...أنت لا ترْحمُها !!". غطّيْتُ رأسي حتى أنْصِتَ من تحت الغطاء؛ لبقية الحديث بينكما.
لمْ يكنْ بالإمْكان أن أفهَم "يا حَقّو".. أنا عشْتُ حياة خاصّة، استهواني لعب الورق وأجواء الصّخب مع بعض شباب القرية؛ لأصبح فيما بعدُ مُدْمِنا على القمار، أراهُ خُبْزي ومائي... ومِمّا زاد الطّين بلّة؛ انضمام صديق جديد إليْنا.... كان هذا الوافد الجديد؛ يشتغل في المزرعة المجاورة لدى أحد السفاحين الفرنسيين؛ يحمل إليْنا في ساعات فراغه؛ بقايا خمور؛ يجمعها في قواريرَ بلاستيكية؛ تعَتّقتْ عُفونتُها... نشربُها بالتناوب... فمن شرب هذه المرة؛ لن يشربها في المرّة القادمة... وهكذا أصبحنا ننتظر قوارير "برْهوم" وكأنّنا ننتظرُ حُلْما كبيراً لا فكاك منه...
"بَرْهوم"... الوجه الآخر...
كان "عبد الحقّ" يستمع لكلام أخيه ويُراقبُ من بعيد سيْر عملية المُنْضَمّين الجُدُد، لكنه لم يلبثْ أنِ انتفض فجأة؛ وكأنّه يهمُّ بالوُقوف.... وضع يديْه على رُكْبتيْهِ وهو في نصف انحناءة... ثمّ عاد إلى الجلوس ويداه تعْصِران رأسه... لِسان حاله؛ يحكي ذكرياته مع "برهوم".... لمْ يكنْ "برهوم" مجرّد عامل في مزرعة أحد السفّاحين من الوافدين الفرنسيين.... كان صاحب قضية، أخفاها بالعديد من الأقنعة.... فهو يستميت في خدمة "جان"، ولا يُفوّتُ فرصة الإفصاح عن كُرْهِهِ لِساكنة هذه القرية، ولطالما نقل أخباراً زائفة إلى مالك المزرعة كاتّهام بعض العمال بسرقة المزروعات تارة، أوْ بالتراخي أثناء ساعات العمل، أو أنّهُمْ بصدد التمهيد لاحتجاجاتٍ ضدّ "جـــان" وَليِّ نعْمتِهم... كرِهَهُ العُمّال وتحيّنوا الفُرَصَ للتّخلّصِ منه... غير أنّه كان ينجو في كل مرّة؛ فيشكُوهُمْ إلى "جان" وحين يستفسره عن ماهية العقوبة التي يقترحها بشأنِهِمْ؛ يكتفي "برهوم" باقتراح الطرد من العمل... تضاعفتْ ثقة "جان" في "برهوم"... وأصبح أحد مُقرّبيهِ.... كان بيْتُ "جان" محَلاّ سرّياً لاجتماعات مسؤولي المناطق المجاورة. في هذا البيت؛ أُعِدّتْ أغلبُ الخطط الهجومية على المنطقة وما قارَبَها... وفيه استطاع "برهوم" أن يعرف أسماء بعض الخونة المتعاونين مع السفّاح "جان" فقوّى علاقتَهُ بهِمْ؛ واعتبروه واحداً من شاكلتهمْ، وباحوا له بكل ما يعرفون أثناء جلساتهم القصيرة معه؛ حين كانوا ينتظرون نزول "جان" من الطابق العُلْوي؛ الذي خصّصهُ لِلرّذيلة بمُختلف أشكالها.... يبدو بملابسه الداخلية؛ وكأنّه اغتسل بالخمر.. تُصْبِح رائحة المكان مثل رائحة الجيفة... يُسارِعُ "برهوم" إلى مُساعدته حتّى يُجْلِسَه على الأريكة الضخمة التي تشغلُ رُكنا مُعْتبراً من البهْو.... يهزُّ "عبد الحقّ" رأسه وكأنه يتحدّثُ مع نفسه.... ثمّ يتأمّلُ وجهَ أخيه؛ وكأنّه يراه لأوّلِ مرة... يربت على كتفه، يبدو أنّهُ يُتابع حديث النفس ولكن هذه المَرّة؛ بصْوتٍ مسموع...." أتعْلم يا سعْدو؛ أنّ فكرة تزويدكم ببقايا الخمور؛ إنما هي فكرة السفاح "جان".....! ذاك الخليع؛ رسم أبعاد فكرته الخبيثة، وأمر "برهوم" بتطبيقها.... غير أن "برهوم" حاول أن يكسب الوقت؛ حتى يتسنى له القيام بأمرٍ ما... فتظاهر بالقبول، وادّعى أنّهُ سيتلصّصُ أوّلاً على تلك الفئة المقصودة والتي كنتَ أنتَ يا سعدو، واحداً منها.... وهكذا انضمّ إليْكم؛ وقَبِلْتُموهُ بينَكمْ.. وهو في طريقه إليْكمْ؛ وحتى لا يراهُ "جان" كان يخلط لكم بقايا الخمر بالماء؛ مُحاولةً منْهُ لتقليص الضّرر...!
اغتنم "برهوم" خروج "جان" مثل العادة؛ إلى الضاحية المحاذية، وتسلّل إلى الغابة حيث يتواجد الرّفاق... كان القرار صعباً.... فهِموا أنّ هذا الخليع؛ يُمَهّدُ لِحَرْبٍ منْ نوعٍ جديد... حرب الضّياع.... خُيِّلَ إليْه أنّه سيضْمَنُ تدمير العقول وأنّ العدْوى ستغْزو كل القرية.... ينتهي الاجتماع باتّخاذ القرار الصّعب... لا بُدّ من التّضْحية...! ينجح "برهوم" في هذا الاختبار الخبيث... وتكبُرُ ثقة "جان" في "برهوم" وفي فعالية الحرب الجديدة.
بِلا أصوات.... ففي الجِرَابِ ما يكفي..!
يستمرُّ "برهوم" في تزويد الرِّفاق بالأخبار بين الفينة والأخرى في انتظار موعد الاجتماع السرّي الذي سيجتمع فيه "جان" مع كبار مسؤوليه.... استعدادات أمْنية وَاسِعة؛ يُشْرِفُ عليْها "جان" بنفسه؛ ومعه "برْهوم" باعتباره ابْنُ المنطقة ومحلّ ثقة سفّاح المنطقة. كان "جان" يقطع البهْو الكبير جيئة وذهاباً؛ وهو يُراجع ما أعدَّهُ من التّفاصيل الجديدة حول المنطقة.... الانشغال بضرورة تنفيذ مشروعه الهجومي؛ صَعّدَ من قلقه...ها هو يدقُّ الأرضَ برِجْليْه... ها هو يتوقّفُ عن المشي بين اللحظة والأخرى؛ ليُركّزَ أكثر على فكرة معيّنة... ها هو يجلس على أحد كراسي الاجتماع؛ يُدوِّنُ كلاماً قبْل أن ينساه... ثمّ لا يلبث أن يقف ويعضَّ على شفتيْهِ؛ وكأنه يعُضّ على أحلامه قبل أن تطير...! يدخل عليه "برهوم" برفقة ثلاثة أعضاء من هيئة الاجتماع.... يُرحّبُ بهم ويأمر الخدم بتحضير طاولة العشاء.
قبل ثلاث ساعات تقريباً؛ كان "برهوم" قد دبّر الأمر... تمكّن من إدخالِ "حقّو" واثنيْنِ منْ رفاقه؛ إلى أحد الأقبية في الطرف الآخر من البيت؛ وأوْصاهُمْ بالانتظار والتّأنّي مهما طال الوقت. عند التّوسُّط في العشاء؛ تسلّل "برهوم" إلى حيث الثلاثة رفاق. بِإشارةٍ وَاحِدةٍ تبِعوهُ... وكان الذي كــــــان....
من عادة ضيوف "جان" أن يُعَلّقوا معاطفهم أو سُتْراتهم عند مدخل الرّواق قبل الوصول إلى البهو الكبير، وتلك العادة؛ لاحظها "برهوم"؛ وعلى أساسها َبنَى خطّةَ الليلة.. هَا هُمْ يأكلون ويشربون ويقرعون الكؤوس وتتعالى قهْقَهاتُهُمْ حتى تفيضَ أعْيُنهمْ دمْعاً، يتباهوْن بِوَحْشِيتِهِمْ ويستعرضون قصص الاغتصاب والتنكيل وما شابهها.... تتصاعد القهقهات الساخرة... يقتحم "حقّو" ورَفيقاهُ البَهْو... في الجِراب خناجر وأسلاك....! ينْقضُّ "حقّو" على الخليع "جان"، يطعنه عدة طعنات، الهلع يُغْرق البقية في التّبَوّل.... وهم يروْنَ الأسلاك تُطوّقُ الرّقاب.... "برهوم" يجرُّ مَنْ سقط إلى ما وراء الأرِيكة الكبيرة ويُرْشِد أصحابَهُ إلى المعاطف المُعَلَّقة... ففي كل واحد منها؛ يوجدُ مُسدّس... هي غنيمة لا تُقدّر بثمن... يتسلّلون إلى الخارج؛ ماعدا "برهوم" الذي كان آخرَ مَنْ سيخرج.... غير أنّ رئيس الخدم استغرب صَمْتَ المكان فجأة؛ بعدما كانت القهقهاتُ تثقب الجُدران... بَحَث عن "برْهوم" ليسأله؛ فلم يجِدْهُ... فدفعه الفضولُ إلى تفقُّدِ سيّده "جان" وضيوفه وتسلّل بحذرٍ إلى الدّاخل... تسمّر في مكانه، وضع يده على فمه؛ خشية أن يصرخَ؛ وراحَ يُراقب "برهوم" وهو يمْسح آثار دماء "جان" الممتدة من طاولة العشاء إلى غاية الأريكة الكبيرة في الزاوية. لمْ يرَهُ "برْهوم".. وعندما رفع رأسه عن الأرض؛ كان رئيس الخدم قد غادر... جمع "برهوم" ما تبقَّى من الأسلاك، رماها فوق الجثث وراء الأريكة، ألقى نظرة على ملابسه، رأى بعض الدم على سُتْرته؛ نزعها وألحقها بالأسلاك... وخرج بهدوء لا يخطر على بال... في الخارج؛ استقْبَلهُ وابلُ الرّصاص... لم يسقطْ... ظل واقفاً والرصاص يتطايرُ فوق جسده...! وكأنه كان يطمئنّ على نجاة "حقو" ورفاقه... تزايد الرّصاص... ابتسم "برهوم"، تهاوى الجسد، وصعدت روح الشهيد إلى بارئها....
كان "عبد الحقّ" أوْ "حقّو" يبْكي وهو يسرُد الوجْه الآخرَ لِبرْهوم... الرجل البطل الذي لبس قناعا في المزرعة؛ ورماه ساعة التّضْحية.!
تلاحقتْ زفراتُ "سعْدو".... وَضعَ رأسَهُ على كتفِ أخيهِ وسال الكلام منْ شفتيْهِ المُرتعشتيْنِ كما يسيلُ المداد على القرطاس... الآنَ فهِمْتُ سبب تخَفّيكَ يا حقّو... الآن فهمْتُ عدم بكاء أمّكَ يوم أخبرونا بموتك... انْدهَشْتُ وأصحابي لمّا علِمْنا بتصفية "برهوم"، أذاعوا أنّهُ ضُبِطَ متلبِّساً بسرقة قوارير الخمور منَ الأقْبية.... وَأنّهُ... وأنّهُ....
إشاعة نعْيِكَ يا أخي، وتصفية "برهوم" فيما بعْدُ؛ جَعَلانِي وأصْحابي نُغادِرُ عالَم البدايات المُقْرِفة...نخطو نحْو حياةٍ جديدة... خطّطْنا لإحراق المزرعة...خطّطْنا لإتلاف السكة الحديدية؛ فزاغ القطارُ بمن فيه منَ المُعَمِّرين الأنذال... لا رُجوعَ عن هذا الطريق... سنُقِضُّ مَضاجِعَهُمْ في كل حين... ثمّ سكت.... دمعتْ عيْناهُ، وأخوه يُفاجِئه بالسُّؤال: أريدُ أن أعرف كيْف اهتديْتَ اليوْم إلى هذه المَغارة...؟ اعتدل "سعْدو" وجفّف ِبكُمِّ قميصِه ما تبقّى من دمعه، وتسابقتِ الكلمات؛ تُلخِّصُ مِشْواراً منتصباَ أمام عيْنيْه.... كما أخبرتُك يا أخي؛ كنتُ أسمع حديثك مع أمي، وعندما استعصى عليَّ الخروج من البيت لتعقُّبِكَ بسبب منع أمي لي؛ قضيت ليلة كاملة غير بعيد عن البيت؛ حتى صادفتك وأنت تقطع الطريق إلى الغابة المحاذية؛ وعلى كتفك كيس مملوء.... تبعْتُك بحذر، كنتَ تلتفِتُ بصعوبة بسبب الثقل وكأنّك أحسسْتَ بمَنْ يتبعُك.... توقفتُ بضْعَة دقائق عن المُلاحقة، استمرّيتَ أنت في المسير... دخلتَ المغارة وأنا في دهشة ممّا أرى....! سمِعْتُ أصواتَ رفاقك وهمْ يغْبِطونكَ على هذه الأمّ التي تساهِمُ في الفِعْل الثوْري بطريقتها الخاصّة. عُدْتُ أدْراجي إلى البيت، قبّلْتُ رأس أمّي، وحكيتُ لها ما رأيتُ وما سمعتُ..... اسْتحْلفتْني بأن أكتمَ هذا الأمر وإلّا سنموتُ جميعا.
فجْرٌ بِبَقايا كُحْل.....!
قبل هذه الواقعة بشهور؛ كانت أمّي قد ارتأتْ تزويجي من إحدى فتيات القرية، وكأنّها بهذه الطريقة؛ ستُبْعِدني عن حياة السّهر والقمار... تحجّجتْ برغْبتِها في وجود حفيد يمْلأ علينا البيت.... لمْ أُعارضْ، وتركتُها تختارُ لي مَنْ تُريد... جاءتْ "فتيحة" إلى البيت؛ ومعها مفاتيح بداية عوالمَ جديدة... قلّتْ سهراتي، أقلعْتُ عن الكثير من العادات السيئة، اشتغلْتُ في مقهى بالقرية؛ لدى عجوز فرنسي بعدما سمِعتُ بِمَقْتِهِ للحروب، وبِامْتعاضِهِ من سياسة أبناء جلدته؛ كان قدْ تعلّمَ بعض كلمات اللغة العربية من رُوّاد المقهى؛ وممّنْ يشتغلون عندهُ؛ فسَهُلَ عليْهِ الإفصاح عن مكنوناته.
خرجتُ في الصباح الباكر؛ مثل العادة لفتح المقهى وتنظيفه ورَمْي قُمامَة الليْل، فأعْقابُ السجائر الكثيرة؛ تُغطّي الأرض، وقواريرُ الماء البلاستيكية مُبَعْثَرة هُنا وهُناك، وقُصاصات الجرائد التي يتركها هُواة الكلماتِ الُمتقاطعَة؛ تُغَطي الطاولات وقد تتطايرُ عبر نافذة المقهى التي يوصيني العجوز دائماً بفتحها في الساعة الأولى قبل اسْتقبالِ الزّبائن... قصدتُ النافذة اليوم؛ فتحتُها.... نكّس "سعْدو" رأسَه، زفر زفرة حارقة، غطّى عيْنيْه بإحدى يديْه وراح يجهش بالبكاء.... حاول "حقّو" أنْ يُسْكتَه.... حاول أن يفهم سَببَ بُكائه.... طلب شيئاً من الماء؛ أحْضروه له، أمرهُ بشُرْبِ الماء، لمْ يستطعْ، لجأ "حقوّ" إلى إفراغ الماء على وجه ورقبة أخيه..... بعد بُرْهة، بدأ يحكي: مُمرّضة القرية يا أخي... "سُكيْنة"... وجدتُها تحت نافذة المقهى غارقة في الدّم وهي عارية...استأصلوا ثدْيَيْها ووضعُوهُمَا عنْد رَأسِها وأخذوا الحُقَن التي كانتْ معها؛ وغرسوها في عيْنَيْها.... اختلط كُحْلُ عيْنيْها بدَمِها، فحفر ساقية على وجهها....
تقيّأ "سعْدو".... توقّف عن الكلام.... انهار "عبد الحقّ"، وفي قلبه غُصّة حبيبةٍ كان يأمل الزواج منها في يومٍ ما....!!
قرْعٌ على القلـــــب.. أم على البـــاب...؟
في عِزٍّ غفْوتها؛ صحتْ "فتيحة" مفزوعة. دَقّاتٌ على الباب تتلاحق... أصْوَاتٌ تتعالى... تتفقّدُ خمارها الذي كان قدْ سقط في غفوتها، ترميه على رأسها بعشوائية، تفتح الباب... "سعدو" فوق الأكتاف.... وعلى شفتيْهِ ابتسامة شهيدٍ سعيدٍ.... أدّى ما عليْه...
مع عُرْسِ استقلالِ البلاد؛ يدقُّ قلب "فتيحة"؛ وهي تتأمّلُ موْلودَها... إنُّه نسْخة طِبْق الأصْل من والده "سعْدو"؛ الذي رحلَ قبْل الاسْتقلال بِأسابيعَ قليلة...
بعد عشر سنوات.....
عندما أتمّتِ الأديبةُ "بخْتة"؛ أختُ "فتيحة" كتابة هذه القصّة، سمعت طرْقا خفيفاً على الباب؛ تلاهُ صوتُ طفلٍ يُناديها: "خالتي... خالتي.... العشاء جاهز..." ابتسمَتْ وهي تتجه نحو الباب، تحتضن الطفل، تُمْطِرُهُ قُبَلاً....طوال زمن العشاء؛ وهي تُفكّر: " لنْ أترُك هذه القصة حِبْراً على ورق... عَليَّ أن أتّصل بأستاذي القدير المُخرج السينمائي "عبّاس".... سيُحَوِّلُها إلى فِيلمٍ قصير؛ يُرسِّخُ ويُوسِّعُ مساحةَ ذاكرة الثورة العظيمة في مُختلَفِ الرّبوع..." بعد العَشاء، انتقل أفراد العائلة إلى البهْو الكبير؛ حيْثُ أعدّتْ لهمْ "عبّاسية" أخت "بختة" الصُّغْرى؛ الشايَ المُخَمّر.... جلسة حميمية جميلة؛ اكتملتْ بقدوم الأستاذيْن الأكاديمييْنِ؛ "مُعاذ" و"حكيمة" وَمعَهُما طالبةُ الطّبِّ؛ "مُختارية".... ابتسمَتْ "بختة" وهي تُرَحّبُ بأبناءِ خالتها... صعِدتْ إلى الغرفة العُلْوية وهمَسَتْ: "أعودُ بعد قليل... سَأُطْلِعُكُم على بعْضِ الأوْرَاق...."