السبت ٢٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٩
قصة قصيرة
بقلم ناصر الريماوي

إنهم إلينا لا يرجعون

حدثني قبل الرحيل، عن لحظة غامضة تكمن بين النوم وصحوة الموت فاصغيت على مضض، كنت مرغماً على تقديم وداع باهت لا يليق بمن لا يرجعون، ولم اصغ لما قاله على وجه التحديد، كابتسامة الأطفال، تمدد فوق قلبي حين أفرغ كل أشواقه كمن تخلص من حمل ثقيل، لم تزل نبرة العتاب ساخنة لم تبرد على أعتاب بيتنا مثلما كان الدم المسفوح يرقص في ذات المكان بعد وقت قصير، حتى هذه اللحظة ظل قريبا لم يفارق ساعة الوقت، ولم تزل آخر الحروف عالقة، لم تغادر الذهن بعد ، ولم يتبدد صداها على غير عادة الأحاديث العابرة، أيقظني للمرة الألف من سبات المجرات الهالكة فوق سرير البحر الهادىء في غزة، لكنه لم يترجل للصيد فالبحر غدار، وبرر للمرة الالف خوفه من تلك اللحظة الغامضة بين النوم وصحوة الموت، لكنني كنتُ أصحو على يد أخرى توقظني في كل مرة، هل كنتُ أصرخ؟ أسال في جزع...
كنتَ على وشك النحيب، متى تنسى لتنام، والليل لم يزل في أولهِ، فقط حاول ان تنام... يرد الصوت الذي بقربي فألهو بخلوتي على نبرة العتاب الساخنة... لم كنتُ اصغي ببرود سمج؟ لم كل ذلك التفاؤل المزري على أمل خائب يمهد لعودة لا تتكرر ؟ الا تفهم سر طلوع الشمس، حين تبزغ قبل موعدها على سفح ذلك القطاع، مالذي يمكنني معرفته وانا لم أشهد الفجر جماعة ولا حتى بمفردي شأني شأن الكسالى، بررتُ له قلة الإيمان لكنه دعا لي بالهداية في مرته الاخيرة ، حاولت تقبيله للمرة الألف لكن اليد القريبة مني كانت تدفعني لأصحو... وداع باهت لا يليق بمن لا يرجعون ، بعد طلعة الشمس نغامر بالتصديق لها والتسليم عليها، ثم لا يرجعون، ألا تخشى الله فتدعو لنا بالرزق الوفير والعمر المديد، فالشمس لا تمنح احباباً مثل الأرض ، والأرض تعشق الراحلين إليها، لكنهم إلينا لا يرجعون... ألا تفهم؟ هذا اول الليل ألا تغفل قليلاً؟ أنت بعيد بالزمان قبل المكان، فلتنسى يا عزيزي...

كان في ليلته الأخيرة يلوذ بدثاره الرقيق، فالطقس بارد يكنس الأرصفة، يتسلل من شقوق البيت الكثيرة، كان يغفو بعمق إرادة لا تقاوم لسلطان النوم، فيتساوى مع الآمنين على الطرف البعيد، يتكور حول نفسه، يجذب الغطاء بأنانية الأحياء عني ليصد به موجة برد عابرة ، يأخذ قسطه كاملا من هواء المكان في شهيق منتظم ليحيا، يتقلب كبرعم ممشوق يأمل بالعيش بين السماء ولجة الأرض، لم يفزع ولم يتسنى لي أن أعرف شيئاً عن مناماته، كان الفجر يباغت الوقت فوق وسادته البائسة أودعها قبل الرحيل بعضاً من لعابه الفاني ليمضي قبل تحية النارعلى خطوط الندى... لماذا لم تستمع إلي، وأستدرت كمارد يجتاز حواجز الحوارات العقيمة، واكتفيتَ بالدعاء على أهبة السفر الطويل، وقلتَ أن الصباح في غزة اجمل وأشرتَ للبحر من على شرفة سبقتك بمعية الدم الذي تخثر فوق عتبات المخيم، ولم تستمع أو تتعلم ...غادرتَ في ذمة البحر ورعشة البرد الصباحي، تخليتَ عن انانية البقاء، ولم تفصح - كعادتك القديمة- عن آخر المنامات واكتفيت بالحديث عن لحظة غامضة تكمن لك في الطريق بين النوم وصحوة الموت، ولم أفهم انا حينها واصغيتُ بلا مبالاة، قلت لك أن لا تبحر في المجهول، فالصيد ثمين والبحر قد يغدر لكنه لا يكذب، تخليتَ عن انانية البقاء، وبقيتُ أنا وحدي فأنا أصحو مع الظهيرة وانام مع الفجر ولا اصليه كما الكسالى، لأبقى اذكر آخر الراحلين مع شقائق الفجر المضرج بحمرة الشمس الطالعة قبل أوانها على ذلك القطاع المعدم، ويد تمتد إلي بعد غفوة قصيرة، في كل ليلة، توقظني في كل مرة على صدى صوت قريب يشدني إليه في عتاب جرح لا يندمل: متى تنسى ... متى تنسى كي تنام؟؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى