إني لا أرى شيئا
ماذا ترى؟ ألا ترى شيئا يا صاحبي؟ سألني مشدوها. ولكني لا أرى ولا أريد أن أرى ما دامت عيناي مسكرتين بما رأتا طوال السنوات التي عشتها. حقا فقدت ملكة البصر عن طواعية، ولم أعد أرى الأشخاص والأشياء المحيطة بي، ولا أتحسس شيئا بيدي التي تخبط في الأرض خبط عشواء، كل شيء رأيته من قبل: في يقظتي، أرى الإنسان يبكي ويذرُّ الدموع، وأرى الشيخ يُسحت كالخروف، والأرملة حافية القدمين ترغي وتزبد، والطفل الصغير يرتعد من قسوة البرد وغلظة القلوب، والطفلة الصغيرة تُغتصب أمام عينيّ المطبقتين، والمواطن يغترب عن أرضه وأهله ونفسه، والفقير يحمل هموما ثقالا على منكبيه، والمثقف ينعم في غيابة السجن، والمعلم تكسر عظامه، والسياسي يكذب ويماري في سبيل مصلحته، والجندي المرابط في صحرائه يتحسر على ولده وزوجه.. لقد رأيت كل شيء في يقظتي حتى ثملتْ عيناي الرؤية. أما في منامي، فإني لم أر بعينيّ المطفأتين، وإنما بقلبي الجريح الكسير؛ لأني رأيت قوما يسرقون الأرض التي كانت لله، ويعطونها لمن شاؤوا، والوطن يُذبح ليلا ونهارا، سرا وجهارا، والإنسان الذي اكتوى بمحن وطنه وإحنه يحمل أصفاده في عنقه.. إني أرى، فيما يرى النائم، أننا معشر المنكوبين نحمل صلبانا، ونتجرع دم الإنسان الذي يروي ظمأ الأرض فتهتزُّ وتمورُ.
إني أرى السفينة تغرق ولا منْ يلبي نداء النجدة، وكلما رفعتُ أمارة النجدة ازداد البحر هيجانا، وأمواجه المتلاطمة صخبا واضطرابا، والربان من بعيد يقول لا نجاة، لا حياة خارج الأمواج العاتية، ولا أمل في الخروج من هذه المحن والخطوب المتتالية، لا أمل ما دامت عيناي لا ترى شيئا.
لقد فقدت البصر في ريعان شبابي، ورأيت ما ينبغي أن أراه، ورضعتُ المستقبل من ثدي الوقائع المدلهمة، وعانقتُ الأفق في الكلمات الجوفاء، في الخطب المسجوعة، في الرؤية الطوباوية، في المشاهد الدامية، في الصرخات المتوجعة، في الدموع الجارية، في الأقلام المتألمة، في العيون المتحسرة، في القيم الآفلة.. في النفوس الجشعة الطامعة.
لذلك، يا صاحبي، أقسمتُ على نعمة العمى، وغادرتُ مملكة المبصرين، وارتميتُ بنفسي في جنة البصيرة، وتركت البصر لكم: أبصروا ما شئتم، صِفُوا ما يرضي أنانيتكم، واكتبوا ما يخدم مصالحكم؛ وزعوا أرض الله بينكم، واقتسموا الغنيمة بينكم، ووظفوا أبناءكم وذويكم، وشردوا فقراءَكم، واسحلوا أساتذتكم، واسجنوا مثقفيكم وصحافييكم، وارفلوا بإجرامكم، وانعموا في جهلكم.
أما أنا، فما عدت أرى شيئا، ولم يعد يعنيني ما ترون، وإنما زهدتُ في البصر، ونعمتُ بالسمع والشعور: أسمع الجائع يتوجع، وأحس المريض يتألم؛ وأسمع المعدوم يستنجد ويستغيث، وأحس المثقف يتملق ولا يتورع؛ أسمع الجاهل يعلو صوته، وأحس المفكر يحترق في أفكاره؛ أسمع الشاعر يمشي وعلى ظهره حقيبةٌ مترعةٌ بقصائدَ زهد فيها الزمانُ، وأحس الروائي يتأوه من هول ما رآه؛ إني أسمع صرير القلم المتردد، وأحس رعشة الكلمة المغتصبة.
إني لا أبصر، ولكني أسمع وأشعر يا صاحبي!