الجمعة ٢٤ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
بقلم محيي الدين الجابري

ابنة الغيمة

أضع وردة على سياجك، وأنصرفُ
أقول معبدي
لكني أخطئ في عد المحاريبِ
وأخطئ في حساب الركعاتِ
أسميك "زقورة " فرحي
وأخطئ في عد المثلثاتِ
وحساب السلالمِ
لي دهشتي
ولك أسماؤك المنقوشة على الآجرِّ / تمائمُك المعلقة على الدكاكِ
وبخورك العالق في الأستار
أخطئ دائما في عد ألوانكِ
لكني أتذكر ثيابك واحدا، واحدا
كلما انحسرت الظهيرة إلى ظلها
وغسلت الربات حناء أقدامهنَّ
في مياه "أور"
لي ذهولي
ولك أجراسُكِ
هذه التي ترتب الرنين في قيامتي
وقناديلُك التي تدور في المواسمِ
افترضي أن للطين شراهته المؤجلةَ
وان للطحلب أقماعا يصب فيها عصارته إلى حين
افترضي أن للغياب حنظلةً أقشرها
وللحضور حنظلة أخرى أومئ بها إلى أعسالكِ
اشترعي لي عبادةً
ولهذه النهارات الضاجةِ أربابا لا يقتتلون
اجمعي أقمارك على التلالِ
ورقدي شراسة الوحوش في الأوديةِ
قفي على الزرقةِ
واعطفي على الألق ثراء خطوتك
أيتها المارة في الحقولِ
والعابرةُ في الجداول
ندية
يا ابنة الغيمة
وطرية
يا أخت الماء
لا اكرر موسيقاك في ربكة الظلالِ
ولا أعيد قسماتك إلى براءة النرجس
هكذا اصعّد ملامحك إلى ذرى المسلاّت
واركّب صورك في التيجان
أهب لك الشوارع والأرصفةِ
وأتلو عليك أسماء المدنِ
من منفى إلى منفى
ارفع إلى بهائك وحشة الأسئلةِ
وأصفّ أمامك ركام الحروبِ / الحديدَ المتآكلَ /
وكعوبَ البنادقِ / والأنهارَ الصدئة
هكذا ارسم لك أزقةً /
وابتكر خرائط متشابهةً
اسقط منها أسماء الثكناتِ
واضع على الأشجار أرقاماً
لأخطئ في العدّ
كلما عاد الربيع
أو عادت الحرب
لا اقتسم الكآبة مع أيلول
ولا أتلوى في آذار من الرغبة
بقليل من بياض يديك أشطب على الرمادِ
وبقليل من رنين خطواتك أباغت الدوّي
وأصب على صرير الأراجيحِ
ليونةَ امتعاضك من الطقس
هكذا أحبك
وهكذا أقتسم معك في الغبارِ
ِما يتبقى من ضحك الشبابيك
عندما نقفل راجعين معا /
كلما رأينا رجال الأمن
أو أرتال الحلفاء
هكذا أحببتك قبل حربين
وهكذا سأحبك بعد حرب
تثب الكلمات من أحراز الجنود إلى شفاههم
يثب القتل إلى القتل
تثب الحروف من طلاسم البحارة إلى خرائطهم
تثب الصنارات من أيدي الصيادين
تثب الزنانير من الخصور
وفي أحراش اللغةِ
تثب قبّرات المعنى
اسمعي أفراس الجهاتِ تتراكض في الجهاتِ
اسمعي الحديد الذي يدعك الحديدَ
والقصيدة التي تهدد القصيدة
في المساء يسير المارة قرب النهر
وفي صحف الصباح تطفو جثث المقالات
منذ عشرين عاما
يتشاجر في أزقة " الميدان " سكير أعمى
وآخرَ يفطر ببسكويت وجعة
وإلى الأمام قليلا في " المتنبي "
يتشاجر بائعا كتب مثقفان
وفي مكان ما من العالم
يتشاجر كاهنان
هكذا احبك في الفوضى
وهكذا اعتزل إليك في الضجيج
مرتديا وحشة السواتر / أو ملتحفا بسلالات الملوك
هكذا انتظرتكِ
منذ أن كنت جنديا في "آشور"
وهكذا حننت إليك في "سفوانَ"
ابتكرت لك اسما خارج الهزيمةِ
واختلقت لك مواسم في المخيمات
في "حلبجةَ" فاجئني عطرك بنكهة التفاحِ
وفي مقبرة بسعة الجنوب احتضنتك
احتبست لك قليلا من الهواء
وانطويت عليك مثل علامة استفهام
اصغ لي
وأنا أردد أسمائك مع الكهنةِ
واستمعي إليّ
وأنا أمجدك في القبائل
أرفع ماسة عينيك في معابد الضوء
وأمرر توابل جسدك إلى خبز القديسين
في العطش أستمطر بياض قمصانكِ
وفي الطوفان
آوي إلى ما يعصمني من ربواتك
مباركةٌ عناقيدُ شفتيكِ في الكرومِ
ومباركٌ اسمكِ في الأبجديات
صوتك الذي يصعدُ أنيقا على سلالم الموسيقى
وكلماتك المهربة في ياقوتة الخجل
أية بلازما هذه التي أربكتها في دم الوقت
وأية أجنة هذه التي استولدتها من الوحشة
أيتها المؤجلةُ في المواسمِ
والمرتقبة في النهاراتِ
المنحنيةُ أقواسُك في العراجين
والممتدة خطوطك في الأنهار
شددي حروفَك المعطلةَ في نسيج الحوارات
ورخمي أسماء حدائقك في النداء
اكتنزي في الأردية براءة الغوايات
واقتسمي مع الحرير إيقاع الحرير
ومفرداته القلقة
فراشاته التي تنزلق مع الضوء
وتوسلاته التي تمسك بتوسلاته
ارتد . . . ارتد . . . ارتدَّ
إلى يقينه الماء
والى أنوثته ارتد الطين
أضع وردة على سياجك, وأنصرفُ
عاقدا أنامل اللحظة على خوائها
وطاويا ورقة المكان على رماده
في موات الإسفلت يلمع فلز الخيبة
وعلى شحوب الأرصفة تتلوى سيقان المللِ
آه . . .
أيها الشقيّ يا ولدَ الحنينِ
أيها الراكضُ في أزقة تتسع كما الدهشة
وتضيق كما الظلالِ
التقط رنين فرحِك الأبيضِ
لما سيأتي
عندما تحتك الأرض بسوادِها
ويحتك "السواد" بأرضه
تاركين مساحة ما
لزرقة تتراجع تحت أقدام السواحلِ
وتتكاثف تحت الجلود
آه . . .
أيها الشقيُّ يا ولدَ الحنينِ
التفتْ إليّ
وأنا أفرّق على صبية المنازل نواياهم
وأكدس في رؤوسِ الشوارعِ أحلاما شعثاءَ
تنزلقُ إلى أبَّهةِ الشَّرَطِيّّ
وزهوِ الحراسِ الليلين
التفتْ إليّ . . .
أنا الذي سأمت مني أن أكون طيبا إلى هذا الحد !
أشد أذن بلاهتي
وأمشّط ضفيرة الشكِّ
كلما أفرطت بي شهوة الأسئلةِ
التفتْ إليَّ يا ولدَ الحنينِ
التفتْ إلي . . . .
أنا الذي سأمت مني أن أكون طيبا إلى هذا الحد
أضع وردة على سياجك , وأنصرف
أقول للنجمةِ التي تشبه النجمةَ التي سقطت من قميصك البارحةَ
- احترسي
وأقول للمسافة الأليفةِ
احتشدي لي
أروقةً تبدد ظلالها في الأبهاءِ المطويةِ في دفاتري
وسلالمَ تنزلُ رشيقةً إلى آخرِ سطرٍ في كنايةِ الكمثرى
عن اللاحبِّ
الذي يشبه اللاحبَّ
الذي يشبه الوحشةَ
احتشدي لي
أحصنةً نافرة تحرضُ المكانَ على أشباههِ
ونوارسَ تتأخر عن الغيمةِ إلى يقينها
عندما يلتبس البياض على البياضِ
- الربكةُ هذه التي توهم أصابع الحوارِ
بما يقطرُ من عسلِ اللحظةِ
الربكةُ هذه التي يشحبُ لها لونُ المعنى
في المابين -
احتشدي لي
سوادا أكرره وأنا انقّل اليسار عن اليسارِ
وأضاعفُ اليمينَ في اليمينِ الذي يهتف بي : هيهْ
أيها العابر في رثاثةِ الوقتِ
المار أمام خساراتهِ
انه الرمادُ
حارس انتظارك
مثلما هي خيوط النساجات
التي تمرر الفراغ إلى خلاياه
شرنقة , شرنقة
انه الرمادُ
الذي يتجرأ على جباه الآلهةِ
الرمادُ الذي يعبث بأهداب الرباتِ
الرمادُ اللاهث في طية الماءِ
المتراكمُ أعضاءً , وخواتيمَ , على نقالات الجرحى
العالقُ في أردان الخطيباتِ
الممتدُ طويلا في ثرثرة المقاهي
اكتظي
أيتها المسافة الأليفة بحمائم الأسف الجليل ِ
اكتظي بأسراب طير الوحشة البهيةِ
اكتظي بالمذعورينَ
الملكُ يرعف على وسادتهِ
الملكُ العربيُّ يرعفُ على وسادتهِ
الملكةُ ترعفُ
الملائكةُ تنشر صحائف بغدادَ على جثة بغداد
آه أيتها المسافة الأليفة
احتشدي لي
ريثما أقلّبُ سكَّرَ الحكاية في استكانةِ الغيابِ . . .للغيابِ . . .
انه الرماد
انه الرماد
أضع وردة على سياجك وانصرف,
مرة أخرى أعيد إليك سرب فراشاتكِ,
التي تطير على مسافة نجمتينِ
من ولهي
الغابةَ من التماعاتك الثريةِ التي تقهر المكانَ
الأشياءَ الصغيرةَ , أشيائَك تلكَ المطويةَ في كراسات الوقتِ
رنينَ أساورك الذي يجرب معي المفاتيحَ
عندما نصل معا إلى بوابة حزنكِ
آه . . .
ذلك هو عنقود فرحك بي
يذبل في آنية انتظارك المهشمةِ
وهذه هي السلسلة الطويلة من ذهب الرجاءِ
التي علقتِها ضفيرة النهاية
أضع وردة على سياجِكِ ,
وأقفُ قليلا . . . قليلا . . . وأنصرف.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى